• - الموافق2025/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تركيا بين الدبلوماسية الدولية والتصنيع المحلي

تواجه تركيا عددا من التحديدات داخلية وخارجية، ومحيطًا متشابكًا وجوارًا معقدًا ما يدفعها إلى السعي إلى استراتيجيات تجمع ترميم العلاقات وتعزيز الشراكات الإقليمية وتطوير شبكة تأثير واسعة


تعيش تركيا مرحلة فارقة في إعادة تشكيل سياستها الخارجية وبناء قوتها الاستراتيجية، فالدولة التي ارتبطت لسنوات طويلة في ماضيها بمنظومة الغرب تجد نفسها اليوم بعد مرور أكثر من عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية تسير نحو استقلالية وسيادية غير مسبوقة في قرارتها، ومن هذا المنطلق فهي توازن بين دبلوماسية مرنة لضمان إدامة الاستقرار، وقوة صلبة تجعل أي اعتداء محتمل عليها مكلفًا وضارًا بصاحبه، فالتصريحات الأخيرة لوزير الخارجية التركي "هاكان فيدان" وما رافقها من إجراءات حكومية تتعلق بالبنية التحتية المخصصة للطوارئ، تكشف عن فلسفة تركية جديدة ترى في الاستعداد للحرب إحدى أدوات فرض السلام، وفي الاستقلال السياسي والتقني شرطًا أساسيًا لصناعة نفوذ إقليمي ودولي مستدام.

لقاء وضع النقاط على الحروف

أصبحت تركيا لاعبًا مؤثرًا في محيط يتشابك فيه الأمن مع السياسة وتختلط فيه التحالفات بالمصالح المتغيرة، وفي هذا السياق تنتهج أنقرة سياسة خارجية تعتمد على دبلوماسية هادئة وحاضرة في آن واحد، تسعى من خلالها إلى تثبيت أدوارها في ملفات معقدة مثل غزة وسوريا والحرب "الروسية الأوكرانية".

خلال مشاركته في لقاء تلفزيوني مع قناة "a haber" الموالية للحكومة، صرح وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان" بعدة تصريحات ترسم السياسة الخارجية لبلاده في عدد من الملفات المهمة والمتشابكة مع تركيا في المنطقة وعلى الساحة الدولية، لكن صراحة استوقفتني عبارة مهمة جدًا لفيدان خلال هذا اللقاء عندما قال نصًا:

"يجب أن نحافظ على جاهزيتنا للحرب عبر جيشنا وصناعاتنا الدفاعية وكل مؤسساتنا لكن علينا أيضًا أن ندير دبلوماسيتنا دائمًا بطريقة تجعل السلام ممكنًا بصورة مستمرة".

وهذا هو المفهوم الذي يجسد سياسة تركيا الخارجية باختصار، حيث تمارس الدبلوماسية بحكمة وتؤدة وصبر إستراتيجي لتحقيق المكاسب أو تقليل الخسائر حسب كل حالة تواجهها، وفي نفس الوقت تسعى وتسابق الزمن لامتلاك القوة الكافية الرادعة لفرض السلام على أعدائها وإجبارهم على التفكير مرارًا قبل السعي لمحاربتها.

كان من ضمن ما تطرق إليه فيدان خلال اللقاء تصريحه حول استعداد بلاده لتحمل مسؤوليتها في غزة عبر إرسال قوات عسكرية تركية إذا استدعت الحاجة ذلك، وهو ما يعكس رغبة تركيا في المشاركة في صياغة ترتيبات الاستقرار في المنطقة بدل الاكتفاء بدور المراقب، كما يكشف انخراطها في تشكيل قوة الاستقرار الدولية المرتقبة ودعمها لاتفاق شرم الشيخ، عن توجه يربط بين دعم المقاومة الفلسطينية وبين بناء آليات دولية تحمي المدنيين وتحد من قدرة الاحتلال على تغيير الواقع الميداني بالقطاع.

وعلى الساحة السورية، تعمل تركيا على صياغة مقاربة متوازنة تمنع ظهور تهديدات جديدة قرب حدودها، وتدفع نحو تسوية سياسية تحافظ على وحدة الأراضي السورية وتدعم عمليات إعادة الإعمار وإحياء المؤسسات بها مع السعي للحد من الاستفزازات الإسرائيلية في سوريا، وهي في الوقت نفسه تشجع على إعادة اللاجئين بصورة آمنة، وتدعم خطوات إعادة دمج سوريا في الإطار الدولي دون السماح بقيام هياكل انفصالية مثل تنظيم "قسد" بتهديد استقرار المنطقة، وفقًا لما صرح به وزير الخارجية في لقائه.

أما فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، فتواصل أنقرة لعب دور الوسيط الذي يحافظ على قنوات الحوار مفتوحة، حيث أكد فيدان خلال هذا اللقاء التلفزيوني أن الحرب بلغت مرحلة خطيرة تستنزف الطرفين، وأن الظروف باتت أقرب من أي وقت مضى لإطلاق مسار سلام يمكن أن يُعقد في تركيا، وفي اليوم التالي لتصريحات فيدان أعلن "رستم أميروف" أمين عام مجلس الأمن والدفاع الوطني الأوكراني أن تركيا ستلعب دور الوساطة مجددًا في تبادل أسرى الحرب الروسية الأوكرانية وأنه تم عقد عدة اجتماعات في الأيام الماضية مع تركيا لإحياء عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا ونتيجة لهذه المحادثات اتفق الطرفان على تفعيل اتفاقية إسطنبول لإطلاق سراح الأسرى قبل رأس السنة الجديدة.

هل ترفع واشنطن العقوبات عن أنقرة؟

شكّلت العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا بموجب قانون "كاتسا" إحدى أبرز المحطات التي أظهرت إصرار أنقرة على المضي في طريق استقلال قرارها الدفاعي، وقد صرح وزير الخارجية التركي بأن بلاده حصلت على موافقة من ترامب بقرب رفع هذه العقوبات قريبًا، وقد فُرضت هذه العقوبات في عام 2019 بسبب شراء تركيا منظومة الدفاع الروسية "S-400" لتؤكد حينها واشنطن أنها غير راضية عن سعي أنقرة لبناء قدرة دفاعية بعيدة عن هيمنة حلف الناتو، وكانت هذه المرة الأولى التي تُفرض فيها عقوبات وفقًا لهذا القانون على دولة عضو في الحلف.

غير أن تركيا تمسكت بقرارها معتبرة أن أمنها القومي لا يمكن أن يظل مرهونًا بقرارات خارجية، وأن عليها تطوير منظومة دفاعية متوازنة من مصادر مختلفة، وقد شملت العقوبات حظر إصدار تراخيص التصدير الأمريكية لمجمع الصناعات الدفاعية التركي، ومنع نقل أي سلع وتقنيات إلى تركيا، إلى جانب منع منح القروض من المؤسسات المالية الأمريكية، ومنع تقديم أي دعم من بنك الاستيراد والتصدير الأمريكي، إلا أن التطورات الأخيرة تعكس تغيرًا مهمًا؛ إذ أوضح هاكان فيدان أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أبدى رغبة صريحة في إزالة هذه العقوبات، وأصدر تعليماته لإدارته للعمل على ذلك، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة باتت تدرك أن الضغط على تركيا لم يعد مجديًا في ظل استقلاليتها المتزايدة ونمو قدراتها الدفاعية.

بنية تحتية دفاعية

في خطوة تعكس عمق الاستعدادات التركية لمواجهة الظروف الاستثنائية، أعلن وزير النقل والبنية التحتية عبد القادر أورال أوغلو أن شبكة المترو المنتشرة في عموم البلاد ستكون جاهزة لاستيعاب أكثر من مليون و374 ألف شخص في حالات الطوارئ، وذلك عبر تحويل أنفاق المترو والسكك الحديدية إلى ملاجئ واسعة ومجهزة، وتمتد هذه الأنفاق لمسافة تقارب 687 كيلومترًا، منها أكثر من 500 كيلو متر في إسطنبول وحدها، ما يجعلها بنية استراتيجية قابلة للتوظيف في حماية المدنيين وتنظيم عمليات الإخلاء والمبيت والإيواء.

وقد أشار الوزير إلى أن أبعاد الأنفاق تسمح بمرور دبابتين من طراز M60 جنبًا إلى جنب، بل ويمكنها استيعاب طائرة واحدة من طراز F-16، وهو ما يبرز حجم مرونة وسعة هذه البنية وإمكانية استخدامها في مهام لوجستية أو دفاعية خاصة، وإلى جانب ذلك تعمل تركيا على تجهيز خطوط المترو الجديدة لتكون مؤهلة كملاجئ منذ مرحلة التخطيط الأولية، بينما تُستكمل تجهيزات الأنفاق الحالية لتتلاءم مع معايير الجديدة نفسها، في تأكيد على أن البلاد تبني نظامًا "مدنيًا - دفاعيًا" قادرًا على الصمود في أسوأ السيناريوهات.

بناء قلعة رقمية والاستقلال في مجال جديد

لم تقتصر خطوات تركيا نحو الاستقلال على الجانب العسكري، بل امتدت إلى بناء منظومة اتصالات ومراكز بيانات تعتمد على الذات وتوفر للحكومة قدرة مستمرة على العمل حتى في الظروف الاستثنائية، ويبرز في هذا الإطار مركز البيانات الجديد في منطقة "غولباشي" بأنقرة، الذي يُعد مشروعًا استراتيجيًا يهدف إلى حماية المعلومات الحكومية وضمان استمرار الخدمات الرقمية عبر الشبكة الحكومية الرقمية دون انقطاع ولو في أسوأ الأزمات، ويُذكر أن مركز "غولباشي" المتخص بمجال الاتصالات المحلية تم إعلان تدشين مشروعه في يناير 2025 عبر الحسابات الرسمية لشركة توركسات الذي وصفته بـ"القلعة الرقمية" والذي سيتم الانتهاء من كافة مراحله لتدخل الخدمة كاملة في النصف الأول من عام 2027.

ويتميز المركز بقدرته على توليد طاقته عبر محطة شمسية خاصة، وبشبكة ألياف ضوئية عالية السرعة تصل إلى 1000 ميغابايت في الثانية، بالإضافة إلى القدرة على تقديم خدمات إنترنت وبث في جميع أنحاء البلاد، وببنية تحتية متكاملة تتيح له العمل كملاذ رقمي للدولة في حالات الحرب أو الهجمات السيبرانية، كما تضمن منشآت "توركسات" في منطقة "كهرمان كازان" استمرار البث والاتصال الحكومي تحت أي ظرف، وهو ما يعكس توجه تركيا نحو بناء استقلال تقني يخفف من اعتمادها على البنى التحتية الغربية، ويعزز موقعها في سباق الاتصالات والفضاء.

كلمة أخيرة

تكشف المعطيات السابقة أن تركيا تسير في مرحلة إعادة تشكيل عميقة لسياساتها الخارجية، لا بهدف خوض الصراعات بل لضمان عدم فرض أي صراع عليها دون استعداد، فتركيا اليوم باتت تعتمد مقاربة أكثر اتزانًا تجمع بين ترميم العلاقات وتعزيز الشراكات الإقليمية وتطوير شبكة تأثير واسعة، وفي الوقت نفسه بناء قوة ردع مستقلة لا تسمح لأحد بتهميش مصالحها أو الضغط عليها، وهذه المعادلة الجديدة -التي توازن بين القوة الصلبة والنعومة الدبلوماسية- لا تعكس تبدلًا ظرفيًا بل تحولًا استراتيجيًا طويل الأمد يسعى لتأمين موقع دائم لتركيا في معادلة القوى الدولية.

ومن المهم للقارئ أن يدرك أن هذا التحول لا يعني انسحاب تركيا من خيارات القوة، بل إدارتها بشكل أكثر حكمة؛ لأنها تدرك أن سعيها للسلام لا ينفصل عن امتلاكها للأدوات التي تحمي هذا السلام، كما أن استقلالية القرار التركي ليست خروجًا عن النظام العالمي بقدر ما هي إعادة ضبط للعلاقة مع الغرب على أساس الندية والمصالح المتبادلة، وفي ضوء ما يشهده النظام الدولي من اضطراب، تبدو تركيا مصممة على ألا تكون طرفًا هامشيًا، بل دولة مبادرة تستخدم قوتها بتدرج وتوقيت محسوبين.

وهكذا تظهر تركيا في المحصلة النهائية كقوة صاعدة لا تبحث عن المواجهة ولا تتجنبها، بل تحاول أن تفرض لنفسها مكانًا تستحقه عبر مزيج من الاستقلال السياسي والجاهزية العسكرية والعقلانية الدبلوماسية؛ وهي ركائز ستحدد بشكل كبير دورها في السنوات المقبلة والكيفية التي سيتشكل عبرها مستقبل المنطقة من حولها.

أعلى