• - الموافق2025/11/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سقوط الفاشر.. هل بدأ مخطط تقسيم السودان؟

سقوط الفاشر ليس محطة في حرب عابرة، بل بداية مسار يُعيد تشكيل السودان. لقد صار الحديث عن وحدة السودان أكثر صعوبة. ليس السؤال اليوم: هل يسقط السودان؟ بل: أيّ شكلٍ من السقوط ينتظره؟


شكّل سقوط مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، بيد قوات الدعم السريع نقطة انعطاف خطيرة على مسار الأزمة السودانية، وربما على شكل الدولة نفسها. فقد مثّلت الفاشر آخر حضور فعلي للسلطة المركزية في غرب البلاد، وحصنًا معنويًا يذكّر بتواصل السودان جغرافيًا ووظيفيًا رغم الحرب.

لكن استيلاء قوات الدعم السريع ذات السجلّ الدموي، بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وتشجيع واضح من قوى إقليمية تستثمر في الفوضى لضمان مصالح جيو اقتصادية، أطلق مخاوف حقيقية من أن تكون دارفور قد دخلت عمليًا في مسار انفصال فعلي، ولو من دون إعلان رسمي.

وبينما يحاول الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان تثبيت نفوذه في بقية السودان، يتزايد الحديث عن واقع جديد تتآكل فيه سلطة الدولة المركزية، لصالح مراكز نفوذ مسلّحة وتدخلات خارجية، تُحيل السودان إلى لوحة مُجزّأة، يُعاد رسم خرائطها بالدم.

جغرافيا التحوّل

سقوط الفاشر يختلف نوعيًا عن السيطرة السابقة لقوات الدعم السريع على مدن أخرى في دارفور. فمع الفاشر انتهت عمليًا آخر نقطة ارتكاز سياسي وعسكري للجيش في الإقليم، ما يُغيّر شكل الاشتباك من حرب مدن متفرقة، إلى مشهدٍ تُحكم فيه قوة واحدة قبضتها على رقعة جغرافية واسعة. دارفور، بمساحتها الشاسعة ومواردها المعدنية وعُمقها البشري، ليست مجرد إقليم؛ إنها كتلة قادرة على العمل كوحدة منفصلة اقتصاديًا، خصوصًا إذا حصلت على دعم خارجي يدير خطوط التهريب والتسليح.

هذه السيطرة تُغيّر طبيعة الجدل حول السودان: من أزمة داخلية تُحلّ داخل الدولة الواحدة، إلى جدل حول حدود دول متنازعة؛ حتى لو لم تُعلن. فمشروع السيطرة على الأرض، وتأمين طرق الإمداد، وفرض أنماط إدارة محلية، يشير إلى تحوّل تدريجي من سيطرة حرب إلى سيطرة حكم. وهذا يشبه سيناريوهات شهدتها المنطقة في سوريا واليمن وليبيا، حيث تحوّلت مناطق النفوذ إلى شبيهات دول. ولأن الفاشر تُعدّ عقدة مهمة لربط غرب السودان بشماله ووسطه، فإن خروجها من نطاق سيطرة الدولة يخلق حالة انقطاع جغرافي وسياسي؛ فالمركز في الخرطوم بات معزولًا عن غربه، وعاجزًا عن بسط سلطته خارج مناطق محدودة.

الدولة المنقسمة

رغم أنّ الدولة السودانية رسميًا ما تزال قائمة، فإن حالة الانقسام الواقعي باتت جليّة. فهناك دولة مركزية بقيادة البرهان تُحاول إثبات سيادتها في الخرطوم وشرق البلاد، مقابل دولة ظل يقودها حميدتي عبر الدعم السريع في الغرب. وبينهما ملايين المدنيين المحاصرين بين سلطتين متنازعتين، تفتقران معًا للقدرة على تقديم نموذج حكم مستقر.

 

القراءة الهادئة لمسار سقوط الفاشر وما تبعه من توازنات ميدانية وتدخلات إقليمية، تُشير إلى أن البلاد تتجه إلى لحظة انتقالية غير مسبوقة تُعيد تعريف شكل الدولة

تاريخيًا، بُني السودان على مركز شديد الوثوق بالخرطوم، وضعف مزمن في الأطراف. ومع تراكم الأزمات السياسية، مرورًا بعهد البشير، ثم الثورة، فالفترة الانتقالية، أصبحت الدولة مجوفة. ونتيجة هذا الضعف المؤسسي، تحوّلت الجماعات المسلّحة إلى بدائل جاهزة للاستحواذ على السلطة، تدير شؤون الناس، وتُجبي الضرائب بطريقة أمر واقع، في ظل غياب قدرة الدولة. وإذا استمر هذا الواقع، سيغدو السودان دولةً منقسمة بين سلطات أمر واقع، بلا قدرة مركزية على إعادة الدمج. وهذا الانقسام هو، نظريًا وعمليًا، الخطوة الأولى نحو انهيار رسمي للدولة، هذا الانقسام بات جليًا بين:

1- الدعم السريع وحميدتي:

تُعدّ قوات الدعم السريع نموذجًا صارخًا لميليشيا تحوّلت إلى قوةٍ ما فوق الدولة. انطلقت جذورها من ميليشيات الجنجويد في دارفور، اشتهرت بالإبادة والقتل على أساس الهوية. وقد وثّقت تقارير أممية ومنظمات حقوقية جرائم واسعة اتُهمت بها، أبرزها القتل الجماعي، الاغتصاب، والحرق، والتهجير القسري. قائدها حميدتي، ليس قائدًا عسكريًا بالمفهوم الاحترافي، بل شخصية أقرب إلى زعيم عصابة، اعتمد على شبكات تهريب الذهب، وسوق سلاح إقليمي، وعلاقات سياسية مع قوى عربية ودولية. وبفعل ضعف الدولة وتراخي البشير سابقًا، اكتسب حميدتي نفوذًا اقتصاديًا جعل منه رجل الدولة الثاني دون موقع رسمي. وبعد اندلاع الحرب في 2023، توسّعت قوات الدعم السريع خارج دارفور، وارتكبت فظائع في الخرطوم ومدن أخرى، ما عمّق صورتها كقوة إجرامية. سقوط الفاشر وضع هذه القوة في موقع أقرب إلى سلطة إقليمية، ما يعزّز مخاوف تقسيم السودان.

2- الجيش والبرهان:

يمثّل الجيش السوداني بقيادة البرهان الركن الآخر للصراع. فبعد تفكك الشراكة المزعومة مع الدعم السريع، وجد الجيش نفسه مضطرًا لخوض حرب دفاعية ضد خصم يمتلك تمويلًا خارجيًا وقدرة على المناورة داخل المدن. لكن المشكلة الأساسية تكمن في أنّ الجيش نفسه مؤسسة متآكلة: إرث كبير من الفساد، بنية قيادية ضعيفة، وخلافات داخلية حول إدارة الدولة. البرهان يحاول اليوم تقديم نفسه رأسًا للدولة الشرعية، لكن بدون سيطرة فعلية على كامل الإقليم، وبدون مشروع سياسي واضح. ومع أنه لا يُتهم بجرائم من المنهجية نفسها لحميدتي، إلا أن الجيش أخفق في حماية المدنيين، ما أثّر على صورته داخليًا. ورغم أنّ كثيرين يرون فيه حائط الصد الأخير أمام تقسيم السودان، فإن بقاءه على رأس الدولة دون مشروع وطني جامع يُنذر بتحوّل الصراع من "جيش ضد ميليشيا" إلى "فوضى بلا نهاية".

التدخل الإقليمي

لا يمكن فهم ما يجري دون إدراك حجم التدخلات الخارجية. فثروات السودان المعدنية، وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، إضافة إلى هشاشة الدولة، جعلته ساحة مفتوحة لفاعلين إقليميين ودوليين. فهناك دولة خليجية متّهمة، وفق تقارير صحفية غربية، بدعم قوات الدعم السريع بالمال والسلاح، مستفيدة من شبكات تهريب الذهب عبر دارفور وليبيا. هذا الدعم يمنح حميدتي قدرة على الاستمرار، ويخلق واقعًا موازياً، يضعف الدولة ويقوّض وحدتها.

أما مصر، من جانبها، تخشى من انهيار السودان لما قد يخلقه من تهديد مباشر على أمنها ومصالحها النيلية. لكنها تجد نفسها عاجزة عن تقديم دعم نوعي يعيد ميزان القوى. دول أخرى كتشاد وليبيا تعمل عبر شبكات تهريب وسماسرة حرب، يُسهّلون تدفّق الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود.

 

هذه التدخلات لا تهدف لإقامة دولة سودانية مستقرة، بل لإبقاء البلد في حالة نصف حياة يمكن التحكم فيها. وهو وضع يخدم مصالح اقتصادية وتجارية، لكنه يزرع بذور التقسيم السياسي على المدى الطويل. ويُثبت مسار السنوات الأخيرة أنّ السودان تحوّل إلى اقتصاد حرب. فبدل الاقتصاد الوطني، باتت هناك اقتصادات إقليمية تديرها ميليشيات وشبكات تهريب. دارفور تحديدًا تملك مناجم ذهب تُعدّ الأكبر في البلاد، ويتم تسويق جزء كبير منها عبر قنوات غير رسمية خارج سلطة الدولة.

هذا الواقع يُنتج بيئة مواتية للانفصال؛ فالإقليم الذي يستطيع توفير مصادر تمويل مستقل، لا يحتاج سياسيًا للارتباط بمركز ضعيف. ومع وجود حاضنة إقليمية للمصالح، يمكن لكيانات غير رسمية أن تعيش اقتصاديًا بدون الدولة. وهذا ما يجعل سيناريو الانفصال الفعلي أمرًا مرجحًا، ولو من دون إعلان.

سيناريوهات المستقبل

رغم ضبابية المشهد السوداني، فإن القراءة الهادئة لمسار سقوط الفاشر وما تبعه من توازنات ميدانية وتدخلات إقليمية، تُشير إلى أن البلاد تتجه إلى لحظة انتقالية غير مسبوقة تُعيد تعريف شكل الدولة. فالتاريخ السوداني لم يشهد منذ الاستقلال وجود سلطة مسلحة ذات مشروع سياسي ـ اقتصادي مستقل في غرب البلاد، بهذا الاتساع وبهذا الدعم الخارجي. أمام هذا الواقع، تتبلور ثلاث مسارات رئيسة، تتفاوت احتمالاتها وفق ديناميكية القوى الداخلية والخارجية وقدرة الدولة على إعادة إنتاج ذاتها أو الفشل في ذلك:

1- التقسيم الفعلي:

السيناريو الأكثر واقعية على المدى المنظور هو بروز كيان غرب السودان تحت هيمنة قوات الدعم السريع. لا يحتاج هذا الكيان إلى إعلان رسمي أو اعتراف دولي كي يعمل؛ يكفيه الأمر الواقع الذي يضمن السيطرة على الأرض، والسكان، ومصادر التمويل. فدارفور تمتلك احتياطات ذهب ضخمة، وتوسّع شبكات التهريب بعد سقوط الفاشر يعني أن الموارد تتدفق مباشرة إلى خزائن القوى المسيطرة، ما يخلق قدرة مالية على إدارة هيكل حكم موازٍ. قد يتخذ هذا الكيان شكلاً سياسياً يقوم على خطاب الإدارة الذاتية، لكنه فعليًا إعادة تدوير لم ينجز سوى تعزيز قوة الميليشيات، وتقويض الدولة المركزية. إزاء ذلك، سيجد الجيش نفسه أمام واقع لا يستطيع تغييره بالقوة لافتقاره إلى القدرة العسكرية واللوجستية، خاصة مع امتداد خطوط الإمداد الإقليمي الداعمة للدعم السريع. وستغدو الدولة في الخرطوم محاصرة بكيانات أمر واقع، ما يجعل التقسيم الفعلي، لا القانوني، واقعًا دائمًا.

2- التفكك الشامل:

إذا تعمّق الانهيار وامتد الاضطراب إلى الشرق وكردفان وربما الشمال، فقد يظهر نمط من التشظّي الموزّع، تنشأ فيه سلطات محلية قائمة على الروابط القبلية أو شبكات التهريب، تقودها شخصيات محلية أو عسكرية تبحث عن النفوذ لضمان البقاء. هذا المسار يحوّل السودان إلى ممر فوضوي بلا مركز، تتقاطع فيه مصالح إقليمية تتنافس عبر وكلاء محلّيين، ما يُدخل البلاد في دورة طويلة من التفكك والصراع. وتكمن خطورة هذا السيناريو في أنه يدفع السودان نحو نموذج صومالي أو سوري معدّل: أرض مفتوحة لمجموعات متنازعة، تتعدد فيها الولاءات، ويتراجع فيها معنى الحدود، وتغيب فيها مؤسسات الحكم بشكل كامل، فيما يقتصر دور العاصمة على إدارة ملفات ضيقة لا تتجاوز الأمن الداخلي المحدود أو التمثيل الدولي الرمزي. اقتصاديًا؛ يعني ذلك نَسف ما تبقى من موارد الدولة، وتحوّل الذهب والزراعة والثروة الحيوانية إلى سلع تدار عبر قنوات موازية لا تخضع لأي رقابة. ومع الوقت، تتحول مناطق كاملة إلى ساحات تنافس، تُغذّيها قوى إقليمية تستثمر في الفوضى. في هذا السياق، يتراجع معنى السودان ذاته، ليتحول إلى جغرافيا بلا دولة.

3- التسوية القسرية:

ثمة احتمال أقل واقعية في الوقت الراهن، لكنه ليس مستحيلًا: أن تُفرض تسوية سياسية من الخارج، تُنتج دولة اسمية موحّدة مع بقاء مراكز النفوذ الداخلية على حالها. في هذا السيناريو، يُعاد تدوير الدعم السريع عبر صيغة حكم ذاتي واسع في دارفور، مع ترتيبات تعطي الخرطوم دورًا محدودًا على مستوى الاعتراف الدولي والموارد المركزية. هذه التسوية لا تنطلق من رغبة داخلية صادقة في الوحدة، بل من حسابات إقليمية ودولية ترى أن استمرار الحرب يهدد مصالحها، سواء المرتبطة بالذهب، الممرات التجارية، أو أمن البحر الأحمر. فالتسوية هنا ليست مشروعًا لنهوض دولة، بل ترتيبًا يجمّد خطوط التماس ويُشرعن واقع التقاسم.

لكن نجاح التسوية يتطلب بيئة سياسية وأمنية غير قائمة اليوم: جيشًا متماسكًا قادرًا على فرض حد أدنى من النظام، وقوة خارجية تمتلك الإرادة لفرض توافق على الأطراف. كلا الشرطين مفقودان؛ فالجيش يواجه تحديات داخلية وخارجية، والفاعلون الإقليميون مستفيدون من حالة التآكل ولا يبدون استعدادًا للتدخل بنية بناء دولة. لذلك قد تُسفر التسوية، إن حدثت، عن دولة هشّة ومركز عاجز، يوازيه إقليم شبه مستقل في الغرب، ما يعني أن السودان سيُحكم وفق معادلة تعايش اضطراري بين كيانات منفصلة أكثر من كونه دولة واحدة فعلاً.

سقوط الفاشر ليس محطة في حرب عابرة، بل بداية مسار يُعيد تشكيل السودان. لقد صار الحديث عن وحدة السودان أكثر صعوبة. ليس السؤال اليوم: هل يسقط السودان؟ بل: أيّ شكلٍ من السقوط ينتظره؟، وإلى أن تُبنى دولة قوية قادرة على إعادة توحيد البلاد، سيبقى السودان مُهددًا بالتحوّل إلى جزر متناسلة من الفوضى، تحكمها البنادق، بدلًا من المؤسسات.

أعلى