سد النهضة الإثيوبي.. بين الملء الثاني ودبلوماسية إضاعة الوقت

إن التحديات التي تواجه تقاسم مياه النيل ليست وليدة اللحظة، فهى ممتدة منذ عقود، فمن وجهة النظر الإثيوبية


تكشف لنا الدروس المستفادة من التاريخ الأفريقي أنه عندما تسعى الدول الأفريقية إلى حل التحديات المشتركة فيما بينها، فإنهم غالبًا ما تفشل، فنادرًا ما تنجح لقاءات القمة وجهود الوساطة لتفادي النزاعات أو حل الأزمات في هذه القارة الغنية بمواردها الطبيعية، لا سيّما إذا كان الأمر مرتبطًا بتقاسم هذه الموارد، وبالرغم من أن محاولات تقاسم الموارد الطبيعية بشكل عادل ومستدام بين الدول عموما يمكن أن تخلق حالة من الوحدة والتضامن فيما بينها، لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن هذه المورد ستكون بمثابة لعنة على شعوب تلك الدول، حيث ستدخلهم في نزاعات طويلة الأمد، لا يعرف أحد متى ستنتهي وما هى عواقبها، في هذا المضمار غير المعروف نهايته.. تلوح إخفاقات أطراف أزمة سد النهضة الإثيوبي، حيث جملة من التساؤلات حول حقيقة النوايا الإثيوبية، وأبعاد تعنت إثيوبيا والفشل المتلاحق للمفاوضات رغم جهود الوساطة الإفريقية والدولية، وفيما تنتظر الملء الثاني لسدها في يوليو المقبل.. تمارس إثيوبيا دبلوماسية إضاعة الوقت، حيث ترفض طرح حلول للقضايا الفنية والقانونية الخلافية، وهنا يبرز التساؤل الأهم: ما جدوى أن تستمر هكذا مفاوضات الهدف منها هو أن تحقق في أسابيع ما عجزت عنه في 10 سنوات؟!

إن التحديات التي تواجه تقاسم مياه النيل ليست وليدة اللحظة، فهى ممتدة منذ عقود، فمن وجهة النظر الإثيوبية.. كان تخصيص مياه النيل وتقسيمها بين دول المنبع والمصب بموجب معاهدتي نهر النيل لعامي 1929 و1959 دليلًا واضحًا على سوء النية، حيث تمت صياغتها خلال فترة الاحتلال البريطاني لتناسب الاحتياجات الاستعمارية، وبالتالي فإنه قد حان الوقت الآن لبلدان حوض النيل للسير على طريق جديد للتنمية مع ضمان الاستخدام المستدام والعادل لموارد مياهه، تقول إثيوبيا إن المياه المخزنة خلف سدها الجديد ستضمن لكل من جيرانها في اتجاه مجرى النهر تدفقًا دقيقًا للمياه ويمكن التنبؤ به، إثيوبيا ترى نفسها هنا أنها ليست أنانية بشأن نصيبها من مياه النيل، ولا تريد تعريض المياه كمورد طبيعي لإطار التحليل القانوني معللةً ذلك بأنها لم تعد تطيق التبعات التاريخية لمعاهدات أبرمها الاحتلال البريطاني في أفريقيا، ترى أيضا أن السد سيعود بالمكاسب المحققة والفائدة العظيمة على أجيالها الحالية والمقبلة، وتطالب بأنه قد حان الوقت لإنهاء الاحتكار الذي تتمتع به دول المصب، ومن خلال هذه النظريات الأساسية شرعت في بناء سدّها، وفي الإطار ظل المسؤولون الإثيوبيون يرددون أن بلادهم ستضمن عدم تأثر دول المصب على الإطلاق ببناء هذا السد، وبينما كانت عمليات البناء مستمرة على قدمٍ وساق، دون تشارك المعلومات مع مصر والسودان، كان فريقها الدبلوماسي يعمل بدأب شديد من أجل إطالة عمر التفاوض، ولعل المفاوضات الثلاثية الاخيرة التي انتهت لتوها في كينشاسا بالكونغو الديمقراطية وتحت رعاية الاتحاد الأفريقي، دليلًا واضحًا على مسار المماطلة وإضاعة الوقت، الذي التزمت به إثيوبيا طوال فترات التفاوض.

في ظل هذا الوضع المتأزم، امتنعت إثيوبيا عن إعطاء أي التزام رسمي بعدم إلحاق الضرر بدولتي المجرى والمصب، وقد يكون الخلاف الحالي منطقيًا من وجهة نظر هاتين الدولتين فقط عندما يتم النظر إلى سد النهضة الإثيوبي على أنه باب ضخم على مياه النيل الجارية منذ فجر التاريخ، ولأول مرة تواجه مصر والسودان احتمال قيام شخص ما بإغلاق وفتح هذا الباب لنيلهما والتحكم فيه كما يشاء، لكن إثيوبيا ترى أن هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة، لأن السدود لا يمكنها تحمل الكثير من المياه خلفها بأمان إلا في حدود معينة، وقد تخاطر إثيوبيا برؤية المليارات المستثمرة في سدها تضيع إذا حاولت تخزين كمية من المياه تفوق قدرة السد على استيعابها، إضافة إلى أن الجدول الزمني لملء السد وفتح بواباته سيعود بالفائدة على السودان الذي كان يعاني من فيضانات كبيرة تغمر أراضيه، إلى جانب حصول السودان على الطاقة الكهربية بأسعار منخفضة، لأن السد في حال تشغيله بكامل طاقته، فإنه سيكون المحطة الأكبر أفريقيا لتوليد الكهرباء، ومن المتوقع أن تفوق حاجة الإثيوبيين، لكن مصر والسودان يريدان من إثيوبيا أن تلتزم باتفاقية ملزمة من الناحية القانونية، وليس مجرد مبادئ توجيهية عامة موجزة عن كمية الماء المحتجزة، وكذلك الوضوح بشأن كيفية حل النزاعات حول هذا الشأن في المستقبل.

لكن جولات التفاوض الممتدة على مر السنوات الأخيرة، أثبتت أن الأثيوبيين كانوا قادرين على التلاعب بمنهجية المفاوضات، نرى الآن إثيوبيا تقوم بتوسيع خزان السد من أجل استيعاب الملء الثاني، بعد أن انتهت من الملء الأول في يوليو الماضي، حينها زعمت أديس أبابا أن الملء كان عرضيًا بسبب الأمطار الغزيرة التي تميل إلى الحدوث في هذا الوقت تقريبًا من كل عام، وإذا اكتملت طاقة التخزين في بحيرة السد، فإنها ستبلغ 74 مليار متر مكعب، وهي كمية تزيد عن حصة مصر والسودان سنويًا من موارد النيل الأزرق بنحو 15% تقريبا، يدور الخلاف الأبرز الآن حول معدل ملء إثيوبيا للخزان خلف السد وتأثيره على إمدادات المياه في اتجاه مجرى النهر في السودان ومصر، هنا نجد أن الدبلوماسية الأثيوبية قد نجحت مجددًا في تغيير مسار المفاوضات، فبعد أن نجحت في إقامة السد دون موافقة مصر والسودان، وأصبح السد حقيقة قائمة، ثم نجحت في تنفيذ الملء الأول، وفي كلتا الحالتين لم تتحمل أيّ تكلفة سياسية أو اقتصادية أو أمنية ولم تدفع ثمن هذه القرارات المنفردة، ههى تحول مسار التفاوض من شرعية وجود السد إلى الخلاف على مدة ملء خزانه، هل تكون 4 أعوام كما تريد أثيوبيا، أم 10 أعوام على الأقل كما تريد مصروالسودان، والأدهى أن أثيوبيا قد رفعت سقف مطالبها، حيث طلبت مناقشة حصتها في مياه النيل الأزرق، وهو ما يعد تغييرًا جديدًا لقواعد اللعبة التفاوضية طويلة الأجل.

في عام 1961؛ سعى الرئيس التنزاني جوليوس نيريري لتخلي دول المنبع عن اتفاقيات مياه النيل الاستعمارية التي لم تُلزمها ـ بحسب وصفه ـ بالبقاء تحت رحمة مصر، وأجبرتها على إخضاع خطط التنمية الوطنية الخاصة بها للتدقيق والإشراف من القاهرة، وهو ما يتعارض مع وضع الدولة المستقلة ذات السيادة. الآن وبعد مرور كل هذه الأعوام.. نجحت إثيوبيا في تحقيق هذه الرؤية، ونجحت من الناحية الدبلوماسية في إدارة هذا الملف من خلال التعنت المستمر وإفشال المفاوضات وإضاعة الوقت من أجل إعطاء مزيدًا من الوقت لاستكمال بناء السد ثمّ ملء خزانه، وفي ظل تضاؤل الخيارات السلمية للخروج من المأزق الراهن، بالتوازي مع بقاء أزمة هذا السد بالنسبة لمصر مسالة حياة أو موت، وبالنسبة لإثيوبيا مسألة حياة أو حياة أفضل، فإن مصر قد تلجأ إلى الإجراء العسكري بغض النظر عن تبعاته، فوصول أزمة هذا السد إلي مستوي الكارثة القومية لشعبها، يدفعها لا مناص إلى أن تسلك كل الخيارات المتاحة أمامها، لأن البديل سيكون ثمنًا باهظًا، هو حياتها، لا أقل.

 

أعلى