هناك مَن يرى الإلقاء سهلاً، ويرى أن أيّ شخص يستطيع الخطابة، حتى ولو افتقد الأساسيات من العلوم الشرعية واللغوية، وهناك مَن يبالغ في المتطلبات المراد توافرها في الخطيب؛ فيمنع مَن يستطيع بحُجَج واهية
دعوت في مقال سابق إلى ضرورة نقل الدعاة تجاربهم للدعاة الجدد؛ حتى يستفيد غيرهم من
جهودهم، ويطوروا من أدائهم، ولا يقع غيرهم في أخطائهم، وانطلاقًا من ذلك أسعى في
هذا المقال لنقل تجربتي مع الخطابة والدروس التي ألقيتها على المصلين؛ حتى يستفيد
الدعاة والقراء منها، رزقنا الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والإخلاص في
القول والعمل.
التوازن بين الجرأة والحذر من الإلقاء
هناك مَن يرى الإلقاء سهلاً، ويرى أن أيّ شخص يستطيع الخطابة، حتى ولو افتقد
الأساسيات من العلوم الشرعية واللغوية، وهناك مَن يبالغ في المتطلبات المراد
توافرها في الخطيب؛ فيمنع مَن يستطيع بحُجَج واهية، فقد يستطيع الخطابة فيظل حذرًا
من الخطابة، وما منعه سوى الخوف من الإلقاء.
فالجراءة على الخطبة بدون عِلْم ومن غير آليات الخطابة تُنفِّر الناس من الخطبة،
وتدفعهم للإعراض عن الاستماع للخطيب، ولا تستفيد من الخطبة حتى ولو اشتملت على
العلم النافع نتيجة لما يكسو الخطيب خطبته من الأداء الرديء.
والخوف من الخطابة مع امتلاك الشخص العلم النافع ومؤهلات الخطابة، لكنه يفتقد
التدريب؛ يحرم الناس من خير كثير، ويحرم الشخص من التزود بالمزيد من العلم من خلال
التحضير المستمر للخطبة.
والحق في التوسط بين تلك الصورتين؛ فلا ينبغي الاستهانة بالخطابة فيُقبل عليها مَن
لا باع له بالعلوم الشرعية والعربية، ولا نبالغ فنمنع مَن يستطيع الخطابة لكنَّه
يفتقد التحضير والتدرُّب واعتياد مواجهة الجماهير.
التحضير الجيد: بناء علمي للخطيب
من أهم الدروس والتجارب النافعة التي تعلَّمتها في تجربتي مع الخطابة: أن التحضير
الجيد كان يُزوّدني بالكثير من العلم والتفاصيل المفيدة، ويدلّني على المزيد من
المراجع النافعة، فكلما توسَّع المرء في التحضير والقراءة العميقة؛ انتفع بذلك في
نفسه وفي خطبته؛ حيث يقف على مسائل لم يكن يعلمها.
ومع تكرار التحضير الجيد والاطلاع الواسع سيعرف مظانّ الموضوعات والمسائل، وستكون
خطبته جيدة ومؤثرة وواضحة، فكلما تعمَّق الخطيب في التحضير اتضح الموضوع للخطيب،
مما يجعله يستطيع الشرح والتوضيح للمستمعين، فتوضيح الخطيب للموضوع فرع من وضوحه في
ذهنه.
النصوص الشرعية ترفع من قَدْر الخطبة وقيمتها
النصوص الشرعية لها دور عظيم في تأثير الخطبة في الجمهور، فالخطبة المبنية على
القرآن وصحيح السنة النبوية يستقبلها الجمهور استقبالًا حسنًا ويتفاعل معها.
ومن الدروس النافعة التي وقفت عليها في خطبة الجمعة: أنه كلما حرص الخطيب على البحث
عن الأدلة الشرعية لموضوعه وساقها في خطبته ودرسه؛ زادت قيمة خطبته ومكانتها، وسهل
عليه الموضوع في التحضير والإلقاء؛ فالنصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية
الصحيحة تكسو الخطبة بهاءً وجمالًا، وتجعل تحضير الخطبة وإلقاءها سهلًا. وقد كان
وضعي للنصوص الشرعية في خطبتي يُرقّيها ويسهلها في نفس الوقت، فعناصر الموضوع ما
أضعها إلا بناء على الآيات والأحاديث، فهي أساس خطبتي وقوامها.
كيف تخطب خطبة قصيرة؟
من أفضل الأمور التي تجعل خطبتك قصيرة ونافعة هو التحضير الجيد، والتركيز على
النقاط المهمة فقط، ومعرفة النقاط المهمة يكون عبر الاطلاع على الآيات والأحاديث
التي تتناول الموضوع. فالخطيب لن يستطيع ذِكْر كلّ شيء فليحرص على الأهم وفقًا
للوقت المتاح، وأظن أن مَن يطيلون في الخطبة ويكون أداؤهم باهتًا بسبب ضعف التحضير،
فالخطيب الذكي بتحضيره يستطيع توجيه رسالة واضحة للجماهير وفي دقائق محدودة.
لا تعتمد على الخطب الجاهزة
هناك خطب جاهزة في كتب مُؤلَّفة، وعلى الإنترنت، وهذه تنفع في ضيق الوقت عن التحضير
وعدم الاهتداء لموضوع ما، لكن الاعتماد عليها وترك التحضير مطلقًا تُفْسِد على
الخطيب فسادًا كبيرًا، فتجعله يعتاد الكسل ويترك التحضير وما فيه من منافع وفوائد،
وتحرمه من خيرات المطالعة وصحبة الكتب النافعة.
التمهيد من أهم الأشياء في أجزاء الخطبة
من أهم الأشياء المطلوبة في الخطبة هو: البداية بالتمهيد الذي يجذب الجمهور، فليس
من الحكمة الدخول في خطبة الجمعة من غير تمهيد، فالتمهيد يُجهِّز ذهن المستمع
للخطبة، ويجذب انتباهه للخطبة. والتمهيد له صور عديدة، فقد يكون التمهيد قصةً أو
سؤالًا أو ذِكْر عنوان الخطبة مباشرة، وفكرة التمهيد هذه أخذتها من الشيخ محمد حسين
يعقوب التي أخذها من الشيخ محمد صفوت نور
–رحمه
الله- الرئيس الأسبق لجمعية أنصار السنة المحمدية بمصر.
لا تنظر للبدايات الخاطئة
في بداية الإلقاء ستجد نفسك خجولًا خائفًا حَذِرًا في الإلقاء، فلا تعبأ بتلك
البدايات، ولا تهتم بها، فسرعان ما تذهب تلك البدايات، وبعد ذلك ستمتلك ناصية
الإلقاء وتصبح بليغًا في الحديث، فلا تحزن من ظلمة البداية، فبعد أسابيع من الإلقاء
المتعثر ستشرق -بإذن الله تعالى-.
تكرار الخطب وإعادة التنبيهات المهمة
تكرار الخطب المهمة على الجمهور من الأمور المهمة، فهناك بعض الموضوعات المهمة مثل
مقاصد الإسلام الكبرى، وأعمال القلوب، والكبائر التي يكثر الوقوع فيها؛ هي لا
يستغني الخطيب والمستمعون عن تكرارها، والتكرار أنفع للداعية فيحفظ الأدلة
والموضوعات، وأنفع للجمهور؛ فما تكرَّر يتقرَّر لديهم ويستقر عندهم أهميته.
وهناك أمر آخر يحتاج الداعية لتكراره على مسامع الجماهير وهو التنبيهات والضوابط
المهمة حتى لا يَفهم الناس كلامه خطأً، مثل معنى الزهد الصحيح، وحقيقة الدنيا
المذمومة في القرآن والسُّنة.
كنزك في كتابة الخطبة
من التجارب المهمة التي اقتنعت بها وعرفت جدواها جيدًا: أن تسعى لكتابة خطبك
ودروسك، وأعتقد أن الكشكول المُدوَّن فيه دروسك وخطبك يُعتبر كنزًا عظيمًا، فستزداد
علمًا بمراجعتك له، ويُسعفك -بعد الله- في وقت الأزمات عندما يضيق وقتك عن التحضير.
وستضيف للخطب القديمة تفاصيل ومسائل جديدة لتنضج خطبك، وتُفيد جماهيرك بحديثك،
وعندما تُعيد خطبة خطبتها سابقًا ستجد الموضوع واضحًا في ذهنك وضوح الشمس، وستجد
يسرًا في التحضير والإلقاء.
الخطبة تُعرّفك المراجع المهمة
بعد طول العمر في التحضير ستتعرف على المراجع المهمة التي لن تستغني عنها، وترجع
لها مرارًا وتكرارًا، ومن تلك المراجع المهمة التي وقفت عليها: كتاب نضرة النعيم في
أخلاق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب الدرر المنتقاة من الكلمات
الملقاة، وكتاب رسائل ابن رجب، وجامع العلوم والحكم، ولطائف المعارف، ومجلة البيان
اللندنية، وفتاوى موقع الإسلام سؤال وجواب.
اختيار موضوع الخطبة مبكّرًا كنز عظيم
من أجمل ما يرفع من قَدْر خطبك وينفعك في تحضيرها: الاختيار المبكر لموضوع الخطبة،
فإن استطعت أن تختار موضوع خطبتك القادمة قبل صعودك للخطبة الحالية فافعل، فهذا
نافع جدًّا. فالاختيار المبكر يُوسِّع من مجال تفكيرك وتأملك للموضوع، ويدفعك
للتعمق في القراءة والمطالعة؛ فتطلع على الدرر والجواهر، فتنتقي للناس أجمل ما وقفت
عليه من درر.
ولقد شعرت بتلك الميزة العظيمة عندما جعلت وقتًا يوميًّا للتحضير فأقرأ فيه، فاطلعت
على ما راقَ لي من تفاصيل الموضوع، وفرحت بما وقفت عليه من معلومات ونصوص أضاءت لي
موضوعي.
حماس الخطيب بخطبته يؤثر في جمهوره
كن متحمسًا ومنفعلًا لخطبتك وموضوعها؛ حتى تترك أثرًا نافعًا في المستمعين، فلا بد
من الانفعال بموضوعك والتأثر به قبل أن يتأثر الناس، فالناس يتأثرون بتأثرك،
وينفعلون بانفعالك، وسيرونك خطيبًا عندك قضية تريد الدفاع عنها، وسيشعرون أن لك
رسالة تريد توصيلها للجماهير، ولست موظفًا تكسب بخطبك المال.
برنامج المكتبة الشاملة: العصا السحرية
من أجمل البرامج التي نفعني الله بها نفعًا عظيمًا: برنامج المكتبة الشاملة، لن
يستغني عنه خطيب في تحضير خطبته عن هذا البرنامج، فلديه إمكانيات مذهلة في البحث
والنسخ والقراءة، ومن أجمل مميزات برنامج المكتبة الشاملة التي على الحاسوب ميزة
النسخ التراكمي.
الإخلاص سبيل النجاة
الخطيب والواعظ على خطر عظيم؛ لأن عمله ظاهر للناس وليس سرًّا، فتحقيق النية ليس
سهلًا، وليس هذا مدعاة لترك الخطابة، بل مدعاة لمجاهدة النفس في تحقيق مقصده الحسن،
فيجب عليك العناية بتجديد النية الصالحة، فينبغي أن تعتني بالإخلاص وتحمي نفسك من
تسرُّب الرياء وحُبّ السُّمعة.
تجربتي في الخطابة تتلخص في: التحضير المبكر، والحرص على التمهيد الحسن، والاختصار
في وقت الخطبة، وتدوين الخطب باستمرار، والاستفادة من المكتبة الشاملة، وعدم الملل
من تكرار الخطب المهمة. رزقنا الله وإياكم الإخلاص.
إن التجارب الدعوية ما هي إلا تجارب بشرية يَعتريها النقص والخلل، وفيها من الدرر
والفوائد، فلا ينبغي أن نتعلق بالنقص والخلل، بل نستفيد أيضًا من الدرر والفوائد؛
حتى نُطوّر من دعوتنا ونُحسِّن من أدائنا؛ وفقنا الله واياكم لما يُرضيه.