• - الموافق2025/05/14م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
إسرائيل والدروز.. حماية مصطنعة واختراق خبيث لسوريا

لا تزال سوريا تعاني من كونها ساحة مكشوفة لحروب بالوكالة، تُستأنف فيها لعبة الأمم بأدوات الهوية وسيناريوهات الذاكرة والاحتياج، وكان آخر هذه السيناريوهات هو تقديم الطائفة الدرزية فجأة على أنها مستضعَفة تستدعي الحماية، في مشهد لا يخلو من الرمزية ولا من الخبث


لا شك أن محاولة إسرائيل المكشوفة بالتدخل عسكريًا في الجنوب السوري بذريعة الدفاع عن الدروز، لا تعدو كونها محاولة اختراق عمق وطني هش، واستثمار لحظة احتجاج لتحويلها إلى مدخل استراتيجي يعيد صياغة الجنوب السوري على إيقاع المصالح الإسرائيلية.

وبينما تقف الحكومة السورية الجديدة مكتوفة الأيدي أمام الغضب المتنامي في جبل العرب من جهة، وأمام التدخلات الإسرائيلية على الأرض من جهة أخرى، تفتح ذريعة الحماية الإسرائيلية نافذة خطيرة على خرائط التدخل والتفكيك، حيث لا تُفهم حماية الدروز خارج سياق الهندسة الطائفية التي تتقنها تل أبيب، ولا يُقرأ الموقف الدولي إلا في ضوء إعادة إنتاج تقسيم ناعم يُفرغ الوطن السوري من معناه، ويُعيد رسم الولاءات وفق معادلات مصالح القوى الكبرى والإقليمية.

الهامش الدرزي

يشكل الدروز أحد المكونات الديموغرافية في الجنوب السوري، يبلغ عددهم في سوريا اليوم نحو 700 ألف نسمة، يتوزعون في مناطق مختلفة من بينها السويداء والجولان، وبالقرب من دمشق وفي إدلب، حيث حافظوا تاريخيًا على خصوصية مذهبية وثقافية واجتماعية متجذّرة، تقوم على التماسك الداخلي، والانغلاق السياسي الذي غالبًا ما تجلى في الاكتفاء بالحياد النسبي، ورغم قلة عددهم مقارنة بالمكونات الأخرى، فإنّ حضورهم في الوجدان الوطني السوري لا يُستهان به، لاسيما وأنهم أسهموا في محطات مفصلية من التاريخ الحديث، بدءًا من الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وصولًا إلى مشاركات متباينة في الحراك السياسي المعاصر.

أما العلاقة بين دروز سوريا وإسرائيل، فهي علاقة مركّبة فقد بدأت فعليًا بعد نكسة عام 1967م واحتلال الجولان، حيث وجدت تل أبيب في الدروز، بحكم وجود شريحة منهم في الجولان المحتل، فرصة سانحة لبناء صلات ناعمة، قوامها الأمن والامتيازات مقابل التعاون، وقد استثمرت إسرائيل في هذا الخيط الطائفي كأداة اختراق بعيدة المدى، ونجحت في جذب دروز الجولان إلى صفها، لكن بقية الأغلبية الساحقة من دروز سوريا متمسكين بانتمائهم العربي ظاهريا.

في عهد حافظ الأسد، تبنّى النظام سياسة استيعاب ناعم للدروز، عبر ضمان الحضور الشكلي لبعض رموزهم في المؤسسات الرسمية، وتقديم وعود بالأمان مقابل الابتعاد عن السياسة، كان ذلك جزءًا من معادلة أوسع لإدارة التوازنات الطائفية داخل الدولة الأمنية التي قادها الأسد الأب، وبالفعل قد حظي الدروز بمكانة، دون أن تُترجم إلى سلطة فعلية أو حضور مؤثر في مراكز القرار. ومع وصول بشار الأسد إلى السلطة، استمرت هذه السياسة ولكن بقدر أكبر من التهميش، في ظل انشغال النظام بتعزيز هيمنة الحلقة العلوية الضيقة، وتراجع مفهوم التعددية الشكلية التي كانت تُستخدم كأداة دعائية إبان حكم والده.

 

هذه السردية الإسرائيلية تخدم أهدافًا مزدوجة: تبرير التدخل العسكري دوليًا، وإحداث شرخ داخلي في النسيج السوري، عبر توجيه رسائل للطوائف بأن الدولة لم تعد الضامن الوحيد للأمن

غير أن المشهد بدأ يتغير مع اندلاع الثورة السورية، إذ دخل الدروز، كغيرهم من مكونات المجتمع، في حالة من الحذر والانقسام، فقد آثر كثير منهم الوقوف على الحياد، بينما انخرط آخرون في الدفاع عن مناطقهم ضمن تشكيلات محلية، في وقت ظل النظام يتعامل معهم كورقة احتياطية أكثر من كونه حليفًا استراتيجيًا، ومع تصاعد الاحتجاجات في السويداء خلال السنوات الأخيرة، وانهيار الخدمات، وتراكم الشعور بالخذلان، بدأ جيل جديد من أبناء الطائفة في إعادة التفكير بموقعهم السياسي، متجاوزين خطاب الحياد، وطامحين لدور فاعل في بناء مصيرهم، ومع سقوط نظام الأسد وبروز حكومة سورية وطنية جديدة، قدّم الرئيس السوري أحمد الشرع خطابًا وطنيًا جامعًا يوازن بين الهوية المحلية والمطالب الوطنية لكل الطوائف،

لكن بالرغم من ذلك لم يظهر لدى بعض القوى الدرزية توجه نحو الاندماج الوطني الكامل في الدولة السورية الحديثة، بل سلكت خيار المواجهة المبكرة مع السلطة المركزية، حتى قبل أن تتضح معالم الدولة ومؤسساتها الفتية. هذا التوجه لم يقتصر على الصدام الداخلي، بل تجاوزه إلى محاولات متكررة لاستدعاء الخارج والتلويح به كحامٍ أو ضامن، في مواقف لا تستند إلى تهديد فعلي قائم، بل تنطلق من شعور دفين بالاستثناء والخصوصية، هنا أدركت تل أبيب أن الجنوب السوري، وبالأخص مناطق الطائفة الدرزية، تمثل ذريعة مناسبة للتدخل في الشأن السوري، وهو ما دفعها إلى تسريع تدخلاتها باسم حماية الدروز، محاولة اقتناص اللحظة وتقديم نفسها كحامٍ للمكوّن الدرزي، في مسعى خبيث لاختراق الداخل السوري من بوابة التذرّع الإنساني.

ذريعة الحماية

يقيم نحو 150 ألف درزي في إسرائيل، الغالبية منهم يعتبرون أنفسهم إسرائيليين بالفعل وقد اندمجوا بالفعل في المجتمع الصهيوني وينضم أبناؤهم لجيش الاحتلال، بينما يقيم 23 ألف درزي في الجزء الذي تحتله إسرائيل من هضبة الجولان، يرفض بعضهم الجنسية الإسرائيلية، وقد أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو في مارس الماضي عن قرار يسمح لدروز سوريا بالدخول إلى الجولان، للعمل، قبل أن تتوالى تصريحات نتنياهو ووزرائه بأن الجيش الصهيوني لن يسمح للجيش السوري الجديد بدخول الأراضي الواقعة جنوب دمشق، في إشارة واضحة إلى خطوط حمراء ترسمها تل أبيب داخل العمق السوري، كما طالب نتنياهو بنزع السلاح الكامل من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، ما يعكس نية إسرائيلية معلنة للتمدد في فرض قواعد اشتباك جديدة جنوب سوريا تحت غطاء حماية الأقليات، ولم يكتف نتنياهو برسم هذه الخطوط العسكرية، بل وجّه تحذيرًا صريحًا مما وصفه باستمرار تهديد المجتمع الدرزي وانتشار السلاح في جنوب البلاد، في محاولة لإبراز الدور الإسرائيلي كوصيّ على أمن الدروز.

بأي حال لا يمكن لعاقل أن يقبل بإعلان إسرائيل حول تدخلها لحماية الدروز على أنه موقف أخلاقي كما يُروّج له، فهي خطوة محسوبة ضمن إطار استراتيجي دقيق، حيث شنّت تل أبيب ضربات جوية استهدفت مواقع للنظام وحلفائه قرب دمشق، مدعية أن هناك خطرًا يهدد المجتمع الدرزي، وأن معلومات استخباراتية دفعتها للتحرك الاستباقي، ولم تكن هذه الضربات معزولة، بل سبقتها تمهيدات إعلامية، وتسريبات عن مشاورات مع زعامات درزية في الجولان والداخل. ولا شك أن ادعاء الحماية ليس جديدًا في الأدبيات الإسرائيلية، فقد سبق أن استُخدِمَ في لبنان مع بعض المسيحيين خلال الحرب الأهلية، ثم مع الأكراد في العراق، واليوم تُستنسخ ذات الحجة، لكن في جنوب سوريا، هذه السردية الإسرائيلية تخدم أهدافًا مزدوجة: تبرير التدخل العسكري دوليًا، وإحداث شرخ داخلي في النسيج السوري، عبر توجيه رسائل للطوائف بأن الدولة لم تعد الضامن الوحيد للأمن، لكن حين ترفع إسرائيل راية الحماية، فهي لا تفعل ذلك حبًا في الأقليات، بل لأربعة أهداف جوهرية:

1- تقويض الشرعية السيادية للحكومة السورية الجديدة أمام العالم.

2- اختبار قدرة النظام الجديد على السيطرة على الجنوب.

3- زرع بذور الشك بين المكونات المحلية وحكومة الشرع، مع إقناع الأقليات بأن إسرائيل أقرب من الدولة الأم.

4- فتح نافذة لاختراق سياسي وعسكري في سوريا بمظهر إنساني.

تستدعي إسرائيل من أرشيفها الإستراتيجي الورقة التي طالما وظفتها الولايات المتحدة من قبل في مناطق مختلفة من العالم؛ وهي ورقة الأقليات، تسعى إسرائيل اليوم لاحتضان الدروز في سوريا، أو على الأقل إيهامهم بذلك، والهدف ليس حماية طائفة، بل تفكيك وحدة الأرض والقرار السوري، وتمرير مخططات جيوسياسية تحت غطاء الحماية، وهذا التكتيك يتكئ على سرديات غربية جاهزة، تتحدث عن فشل الدول العربية في احتضان مكوناتها الدينية والعرقية، وهو ما يسمح لإسرائيل أن تظهر بمظهر الدولة الديمقراطية المدافعة عن الحريات، رغم أن سجلها مع الفلسطينيين وسكان الجولان المحتل، ينضح بعكس ذلك تمامًا.

مأزق الدروز

عانى الدروز من تهميش وفقر في ظل نظام الأسد السابق، ومع ذلك روضوا لأنفسهم أن يكونوا ورقة تفاوض وتدخل من قبل أطراف خارجية لا ترى فيهم سوى أداة لتنفيذ أجنداتها، الأصوات درزية الأعلى والأكثر ترى في إسرائيل حاميًا اضطراريًا، لكن هذا المسار يشكل خطرًا بالغًا، لا سيما وأن الانجرار خلفه سيؤدي إلى: تفكيك الروابط الوطنية بين الدروز وبقية السوريين، وإعادة إنتاج النموذج اللبناني بميليشيات طائفية لها مرجعية خارجية، وفتح ثغرات أمنية لإسرائيل في العمق السوري باسم الحماية.

لقد تجلّت النزعة الانفصالية لدى دروز سوريا مؤخرًا في تصريحات الزعيم الروحي للطائفة في السويداء، الشيخ حكمت الهجري، الذي خرج بموقف علني مثير للجدل حين دعا إلى "تدخل دولي في سوريا لحماية الدروز"، مؤكّدًا في الوقت ذاته أن "إسرائيل ليست عدوا"، هذا التصريح الصادم، لم يكن زلّة لسان أو موقفًا معزولًا، بل يعكس تيارًا داخل الطائفة بات ينظر إلى الدولة السورية بعين الارتياب، وإلى الخارج حتى العدو التاريخي كخيار ممكن في لحظة ما من اختلال الموازين.

اليوم؛ تجد الطائفة، التي كانت نموذجًا في التماسك والخصوصية، نفسها أمام مفترق طرق حاسم، إما أن تعيد توطيد علاقتها بالحكومة السورية الجديدة مع إصلاح داخلي جذري، أو أن يتم جرّها إلى مشروع تقسيم ناعم، يشرّع الاحتلال باسم الأمن والحماية، ومن المؤسف أن المسار الثاني هو الأقرب للتحقق، خاصة بعد الكشف مؤخرًا عن زيارة غير مسبوقة ضمت 60 رجل دين درزي من جنوب سوريا إلى إسرائيل، تلبيةً لدعوة الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز في إسرائيل، وقد أثارت الزيارة جدلًا واسعًا في ظل محاولات الاستقطاب الإسرائيلي للدروز والانقسامات بين مشايخ العقل لديهم.

سيناريوهات مرتقبة

ما يجري في جنوب سوريا اليوم لا يمكن عزله عن مسار إقليمي معقّد، تتقاطع فيه أطماع إسرائيل الأمنية مع ضعف الحكومة المركزية التي تحاول ترميم البيت السوري وتحوّلات المزاج الشعبي في السويداء ومحيطها. إذ إنّ إسرائيل، التي تراقب عن كثب ما يحدث في سوريا، تُدرك أن الزمن لم يعد لصالح سياسة الانتظار والاحتواء البطيء، بل بات يُحتِّم عليها تسريع أدوات الاختراق تحت أي غطاء، ومن هنا، يمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي الأخير على أنه محاولة استباقية لإعادة التموضع داخل الجنوب السوري، سواء من خلال عمليات جوية تستهدف خطوط إمداد خصومها، أو عبر رسائل رمزية مفادها أن أمن الدروز سيكون بوابة عبورها الشرعي إلى الداخل السوري.

والسيناريو الأنسب أن يستيقظ عقلاء الطائفة ويبحثوا لها عن قارب نجاة بعيدا عن عواصف العواطف الطائفية الهوجاء ولن يكون ذلك إلا بالتوافق مع أبناء جلدتهم ووطنهم.

أعلى