• - الموافق2025/06/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
واشنطن وميليشيات الشرق الأوسط

بات واضحًا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة باتت تميل إلى سياسة "الانخراط من دون تورّط"، فهي تدعم حلفاء محلّيين، وتستخدم الطائرات المسيّرة والقواعد العسكرية المحدودة، دون الانجرار إلى عمليات أو حروب طويلة الأمد، وهذا ما يجعل الجماعات والميلشيات الفاعلة خيا

             

منذ نهاية الحرب الباردة، والولايات المتحدة تنسج خيوط نفوذها في الشرق الأوسط بخليط متقن من التدخلات العسكرية، والدبلوماسية الحذرة، والتحالفات المتغيرة، لكن اللافت أن هذا الحضور لم يعد يقتصر على علاقاتها مع الدول والأنظمة، بل امتد ليشمل كيانات وجماعات وميلشيات خارج الإطار التقليدي للدولة، فأصبحت فاعلاً لا يُستهان به في معادلات القوة داخل المنطقة، من قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، إلى الحشد الشعبي في العراق، وصولاً إلى المواقف المتقلبة تجاه الحوثيين في اليمن، هذه العلاقة المركّبة ـ والتي كثيرًا ما تفتقر إلى الاتساق ـ تطرح تساؤلات مشروعة حول مدى التزام واشنطن بثوابت أخلاقية أو قانونية في تعاملها مع هذه الجماعات. ففي حين تُدرِج بعضها على قوائم الإرهاب، تقيم مع أخرى شراكات ظرفية بل وتُوفّر لها غطاءً سياسيًا أو دعمًا لوجستيًا، وبين هذا وذاك، يبدو أن المنطق الذي يحكم السياسة الأمريكية لا ينتمي دائما إلى عالم القيم بقدر ما ينتمي إلى حسابات النفوذ والمصالح وتوازن القوى، وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل تُحكِم واشنطن تعاملها مع الميلشيات الفاعلة وفق مبادئ واضحة أم أنها تمارس براغماتية تتلون حسب المصلحة؟

قـوى صاعدة ومؤثرة

شهدت العقود الأخيرة تراجعًا ملموسًا في قدرة بعض الدول المركزية في الشرق الأوسط على احتكار أدوات القوة والسيطرة الكاملة على أراضيها، بفعل عوامل متعددة من حروب داخلية، وتدخلات خارجية، وأزمات اقتصادية، وتفسّخ في النسيج المجتمعي والسياسي. هذا التراجع لم يترك فراغًا أمنيًا فقط، بل أوجد بيئة خصبة لنشوء وصعود كيانات فاعلة من غير الدول، تحمل هويات أيديولوجية أو طائفية أو قومية، وتمتلك أذرعًا عسكرية وتنظيمية جعلتها، في كثير من الحالات، أكثر قدرة على الفعل من المؤسسات الرسمية للدولة. ومع هذا التحول البنيوي في المشهد السياسي الإقليمي، لم تجد القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بُدًا من التعامل المباشر أو غير المباشر مع هذه الأطراف، ليس فقط لأنها أمر واقع، بل لأنها باتت في مواقع تُؤثّر على ملفات الأمن القومي الأمريكي، لا سيما تأمين إمدادات الطاقة، وحتى ضبط ميزان القوى الإقليمي.

هذه الكيانات التي قد يُطلق عليها أحيانا "ميلشيات خارج نطاق الدولة" تتجاوز في واقع الأمر المفهوم التقليدي للميليشيات المسلحة، فهي تنظيمات سياسية وعسكرية تمتلك حواضن شعبية، وتشارك في المعادلات السياسية الداخلية، وقد تُسيطر أحيانًا على أراضٍ واسعة وتقدم خدمات، وتفرض قوانينها الخاصة، بعض هذه الجماعات يشكّل امتدادًا لقوى إقليمية، وبعضها الآخر ينطلق من قضايا محلية مطلبية أو قومية، كحالة الأكراد في شمال سوريا والعراق، أو الفصائل الشيعية المسلحة في العراق، فهذه التنظيمات لم تعد طارئة على الجغرافيا السياسية للمنطقة، بل أصبحت طرفًا أصيلاً في أي تسوية سياسية أو ميدانية، وأحد مكوّنات ميزان الردع الذي تستند إليه بعض القوى، مثل إيران وتركيا وروسيا، في صراعاتها مع الغرب.

ازدواجية معايير أم سياسة مرنة؟

لكن التعامل الأمريكي مع هذه الجماعات يتّسم بتباين واضح في السياسات والمواقف، إذ لا توجد معايير ثابتة أو تصنيفات قانونية موحّدة تحكم العلاقة معها. فبينما تصنّف واشنطن بعض هذه التنظيمات ضمن "قوائم الإرهاب" بناءً على نشاطاتها المسلحة أو ارتباطاتها الخارجية، فإنها تُقيم في الوقت ذاته شراكات ميدانية مع فصائل مشابهة من حيث البنية والأهداف. ويبدو أن المعيار الأهم في نظر صانع القرار الأمريكي هو مدى تحقيق هذه الجماعات لأهداف واشنطن المرحلية أو تهديدها لها، وليس بالضرورة مدى شرعيتها أو التزامها بالقانون الدولي. فمثلاً، تُعدّ قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكّل الأكراد نواتها الصلبة، اعتبرتها واشنطن شريكًا موثوقًا في الحرب ضد تنظيم داعش، لذا فقد حظيت بدعم عسكري ولوجستي أمريكي رغم معارضة حليف الناتو تركيا لها، وفي المقابل لا تتردد واشنطن في معاقبة فصائل مشابهة داخل العراق أو اليمن بسبب ارتباطها بإيران أو تهديدها لحلفاء الولايات المتحدة في الخليج.

 

يُعد ضمان أمن إسرائيل حجر الأساس في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. وهو ليس مجرد أولوية تقليدية، بل يُمثل عنصرًا شبه مقدّس في الخطاب السياسي والإستراتيجي الأمريكي، بغض النظر عن هوية الحزب الحاكم.

هنا يبرز الجدل الكبير: هل تمثّل هذه السياسات ازدواجية معايير، تعكس انحيازًا صارخًا وتناقضًا أخلاقيًا أم أنها تجسيد لبراغماتية ضرورية في عالم معقّد تحكمه المصالح والمفاضلات لا المبادئ وحدها؟،

في النظرية السياسية الواقعية، لا تُلام الدول الكبرى على استخدام أدوات مختلفة لتحقيق أهدافها، بل يُعتبر ذلك من صميم العمل الدبلوماسي والميداني، خصوصًا حين تتداخل المسارات الأمنية مع التوازنات الجيوسياسية. لكن في الخطاب العلني لواشنطن، غالبًا ما يُطرَح الموقف الأمريكي بوصفه منسجمًا مع ما تسمّيه بـ "القيم الليبرالية"، كالديمقراطية وحقوق الإنسان ورفض الإرهاب، ما يُسهم في خلق فجوة بين الممارسة والخطاب، ويُفسّر التناقض الظاهري الذي يتكرر في أكثر من ملف، وهذا التناقض الذي يبدو فاضحًا أحيانًا في سياسات واشنطن تجاه تلك الميلشيات، يمكن قراءته من منظورين متقابلين:

* الأول: قراءة نقدية ترى أن الولايات المتحدة تُخضع مفاهيم الإرهاب والشرعية لأهواء السياسة، وتستخدم المعايير الأخلاقية كسلاح انتقائي، فتغضّ الطرف عن انتهاكات حلفائها من هذه الميلشيات، بينما تُدين خصومهم.

* الثاني: قراءة براغماتية ترى أن الفوضى البنيوية في المنطقة، وتعدّد أطراف النزاع، تجعل من المستحيل تطبيق سياسات موحّدة، وأن واشنطن مضطرة لاستخدام أدوات مرنة تحقّق أهدافها بأقل الخسائر، حتى لو بدت متناقضة من الخارج.

حـالات وتناقضات

في محاولة لفهم التوجهات الأمريكية المتقلبة تجاه الميلشيات الفاعلة في الشرق الأوسط، تبدو دراسة بعض النماذج المحددة بمثابة نافذة تحليلية تكشف عن آليات التفكير الأمريكي، والتناقضات التي تحكم تعاطيه مع هؤلاء الفاعلين. فمن خلال هذه النماذج الأربع: الأكراد، الحوثيون، الحشد الشعبي، وحزب الله، تتبدى الطبيعة المركبة للعلاقة بين البراغماتية الأمريكية ومقتضيات الجغرافيا السياسية. فواشنطن لا تتعامل مع هذه الجماعات على قاعدة مبدئية، بل وفقًا لموقعها من الخارطة الإقليمية، وتأثيرها على المصالح الحيوية في الأمن، والطاقة، والتحالفات، ومجريات الصراع مع خصومها كإيران وروسيا، لو تحدثنا عن كل حالة على حدة، سنفهم إلى حدٍ ما هذا التشابك الأمريكي مع فاعلين لا يمكن تصنيفهم ببساطة كـ "أصدقاء" أو "أعداء".

1. الأكراد: من شريك أساسي إلى ورقة تفاوض

لطالما اعتُبر الأكراد في العراق وسوريا الشريك الموثوق والأقرب للمصالح الأمريكية في ملفات عديدة، فمنذ غزو العراق عام 2003، اعتمدت واشنطن على البيشمركة الكردية كقوة أمنية فعالة في المناطق الشمالية، وشكّلت العلاقة معها ركيزة لاستقرار نسبي في كردستان العراق، غير أن التطور الأبرز في هذه العلاقة برز مع الحرب على "داعش"، حيث أصبحت "قوات سوريا الديمقراطية" بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية الذراع الميدانية للولايات المتحدة في دحر التنظيم شمال شرقي سوريا، وقد حصلت هذه القوات على دعم عسكري ولوجستي واسع، وتحوّلت إلى كيان سياسي وعسكري ذي ثقل، مدعوم من واشنطن ومتصادم مع أنقرة، حليفة أمريكا في الناتو.

لكن هذه العلاقة لم تصمد طويلًا أمام ضغوط الجغرافيا السياسية. فقد تخلّت واشنطن بشكل مفاجئ عن حلفائها الأكراد خلال التفاهمات التي أبرمها الرئيس دونالد ترامب مع تركيا عام 2019م، ما سمح للقوات التركية بالدخول إلى مناطق حدودية كانت خاضعة لسيطرة القوات الكردية، هذا التحوّل فتح باب التساؤل حول مدى التزام أمريكا بتحالفاتها، ومدى استعدادها للتضحية بشركاء محليين إذا اقتضت الضرورة الاستراتيجية.

2. الحوثيون: أداة ضغط في ملف إقليمي

منذ صعود جماعة الحوثي في اليمن وسيطرتها على العاصمة صنعاء، شكّلت هذه الحركة تحديًا مباشرًا للمصالح الأمريكية. وبسبب علاقتها الوثيقة بإيران، اعتبرتها واشنطن ذراعًا إقليمية لزعزعة الاستقرار وتهديدًا للممرات البحرية الاستراتيجية في البحر الأحمر. ورغم أن إدارة ترامب صنّفت الحوثيين كمنظمة إرهابية أواخر ولايتها الأولى، فإن إدارة بايدن سارعت إلى رفع هذا التصنيف مطلع 2021م، مبررة القرار بأنه يسهم في تسهيل وصول المساعدات الإنسانية ويعزز فرص السلام.

لكن الموقف لم يبقَ مستقرًا، فقد عاد ترامب وصنّف الجماعة الحوثية كجماعة إرهابية أجنبية مع عودته مجددًا إلى البيت الأبيض، خاصة مع تصاعد هجماتها على الملاحة الدولية في البحر الأحمر خلال حرب غزة، وهذا التباين في تصنيف الحوثيين ليس فقط للاختلاف في السياسات بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل إنه يؤكد أن التصنيف الأمريكي لا يخضع لمعيار واحد، بل يرتبط بالمزاج السياسي حول الملف النووي الإيراني، والتوازن بين التهدئة مع طهران وتقديم ضمانات لحلفاء الخليج.

3. الحشد الشعبي: ميليشيا أم مكوّن دولة؟

يُعدّ الحشد الشعبي في العراق أحد أكثر الأمثلة تعقيدًا على تداخل الميلشيات المسلحة بالدولة نفسها. فقد نشأ الحشد كرد فعل على تمدد "داعش"، ثم جرى دمجه رسميًا في المؤسسات الأمنية العراقية، مما جعله من الناحية الشكلية جزءًا من الدولة، لكنه من الناحية الواقعية يحتفظ بخصوصيته التنظيمية وعلاقاته الوطيدة بطهران، هذه الازدواجية فرضت معضلة على واشنطن: كيف تتعامل مع دولة حليفة كالعراق، وفي الوقت ذاته تُحارب فصائل داخل هذه الدولة تعتبرها تهديدًا؟

خلال السنوات الماضية، شنت الولايات المتحدة ضربات جوية استهدفت مواقع لفصائل تابعة للحشد، وردّت هذه الفصائل في بعض الأحيان عبر استهداف المصالح الأمريكية، وبينما تُطالب واشنطن الحكومة العراقية بلجم هذه الجماعات، تدرك في الوقت نفسه أن جزءًا من شرعية الحكومة ذاتها معتمد على دعم الحشد، أو على الأقل على تجنّب الاصطدام معه، في هذه الحالة تُحاول واشنطن الفصل بين الدولة والميليشيا، لكنها لا تنجح دائمًا في ذلك، أن الولايات المتحدة مضطرة إلى التعايش مع الواقع، رغم تناقضاته الصارخة.

4. حزب الله: عدو لا يُمسّ

يحتل حزب الله مكانة خاصة في الذهنية السياسية الأمريكية؛ إذ تصنفه واشنطن كمنظمة إرهابية، وترى فيه أداة إيرانية لزعزعة استقرار لبنان وسوريا، وتهديدًا مباشرًا لحليفتها إسرائيل. غير أن اللافت في هذا الملف أن العداء الأمريكي لا يُترجم إلى عمليات عسكرية مباشرة ضد الحزب، كما يحدث مع الحوثيين أو فصائل الحشد، بل تكتفي واشنطن بعقوبات مالية ودبلوماسية، مع التأكيد على دعم الدولة اللبنانية ومؤسساتها الأمنية الرسمية، وفي نفس الوقت تغض الطرف عن الضربات الإسرائيلية وعمليات الموساد التي ينفذها ضد الحزب.

ويبدو أن هذا التوازن نابع من إدراك أمريكي لصعوبة استهداف الحزب من دون إدخال لبنان في دوامة انفجار شامل، يُهدد ما تبقى من بنية الدولة، ويفتح المجال أمام فوضى إقليمية أوسع، وبالتالي تبدو العلاقة الأمريكية مع حزب الله قائمة على منطق "الردع غير المباشر"، وهنا يظهر الوجه الآخر للبراغماتية الأمريكية: فهي تدين حزب الله بشدة، لكنها لا تضعه في مرتبة "الأولوية" ما دام احتواؤه متاحًا دون تكاليف عالية.

محددات السلوك الأمريكي

لا يمكن فهم مواقف واشنطن من ميلشيات الشرق الأوسط إلا من خلال تفكيك منظومة المصالح العليا التي تحكم سلوكها السياسي والعسكري، فليست القرارات الأمريكية ـ سواء بالدعم أو بالتجاهل أو بالاستهداف ـ وليدة ردود أفعال ظرفية أو اعتبارات أخلاقية، بل تأتي في إطار ثابت من المحددات الجيوسياسية والاستراتيجية، تتداخل فيها الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والدولية، ويمكن استخلاص أهم المحددات التي ترسم خطوط السلوك الأمريكي على اختلاف الإدارات من خلال النقاط التالية:

* أمن إسرائيل:

يُعد ضمان أمن إسرائيل حجر الأساس في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. وهو ليس مجرد أولوية تقليدية، بل يُمثل عنصرًا شبه مقدّس في الخطاب السياسي والإستراتيجي الأمريكي، بغض النظر عن هوية الحزب الحاكم.

* مكافحة الإرهاب:

منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تحوّلت مكافحة الإرهاب إلى عنوان دائم يبرر الانخراط الأمريكي في المنطقة، لكن مفهوم "الإرهاب" نفسه ظل خاضعًا للتأويل السياسي. فواشنطن تتعامل مع بعض الميلشيات كحلفاء، كما فعلت مع الأكراد في مواجهة داعش، لكنها في المقابل تُدرج جماعات أخرى، كالقاعدة أو الحوثيين، على قوائم الإرهاب إذا رأت فيهم تهديدًا مباشرًا لمصالحها أو لحلفائها. والمفارقة أن بعض هذه التصنيفات قابلة للتغيير بحسب السياق، ما يجعل "الإرهاب" أداة وظيفية أكثر منه موقفًا مبدئيًا.

* كبح النفوذ الإيراني:

يُعد تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة هدفًا ثابتًا، وإنْ تنوعت أدواته من إدارة لأخرى، ففي الوقت الذي فضّلت فيه إدارة أوباما نهج الاحتواء والتفاوض، تبنّت إدارة ترامب سياسة الضغط الأقصى، بينما حاولت إدارة بايدن الجمع بين الدبلوماسية والردع المحدود.

* الطاقة والممرات البحرية:

رغم تراجع الاعتماد الأمريكي على نفط الشرق الأوسط، إلا أن تأمين استقرار الأسواق العالمية وممرات الملاحة الحيوية ـ كمضيق هرمز وباب المندب ـ ما زال من أولويات واشنطن. ومن هنا جاء الانخراط الأمريكي في مواجهة التهديدات التي تمس حركة السفن، كما في حالة هجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر، أو تهديدات إيران لحركة النفط في الخليج، وتظل المصالح الاقتصادية محركًا حاسمًا للوجود العسكري والسياسي الأمريكي في المنطقة.

* تجنّب الحروب الطويلة:

بعد عقود من الإنهاك العسكري في أفغانستان والعراق، بات واضحًا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة باتت تميل إلى سياسة "الانخراط من دون تورّط"، فهي تدعم حلفاء محلّيين، وتستخدم الطائرات المسيّرة والقواعد العسكرية المحدودة، لكنها ترفض الانجرار إلى عمليات برية واسعة أو حروب طويلة الأمد، وهذا ما يجعل الجماعات والميلشيات الفاعلة خيارًا عمليًا أحيانًا، إذ يمكن دعمهم لتأدية أدوار أمنية دون الحاجة إلى نشر قوات أمريكية.

نمط أمريكي جديد

على الرغم من الفعالية الظرفية التي قد توفرها البراغماتية الأمريكية في التعامل مع الحركات والجماعات والميلشيات الخارجة عن نطاق الدولة، إلا أن هذه الاستراتيجية تخلّف وراءها تداعيات بعيدة المدى، قد لا تتسق بالضرورة مع المصالح المعلنة لواشنطن أو مع استقرار المنطقة. إذ إن السياسات التي تُبنى على مبدأ الجدوى الآنية وتعدد القنوات تُفرز نتائج متباينة قد تقوّض مفهوم الدولة المركزية وتُعزز منطق اللا دولة في الشرق الأوسط، وتُسهم في إعادة صياغة المشهد الإقليمي من أساسه، ومع انتشار هذا النمط، أصبحت المنطقة بأكملها مسرحًا لتفاعل كيانات ما دون الدولة، المدعومة خارجيًا، والمتنافسة داخليًا، ما يطرح تحديًا وجوديًا لفكرة الدولة ذات السيادة الكاملة. وبهذا تكون واشنطن من حيث لا تدري أو تدري، قد أرست نمطًا إقليميًا جديدًا في التعامل مع التوازنات: أقل مركزية، أكثر تشتتًا، وأبعد عن الاستقرار المستدام.

أعلى