الحراك الأوروبي الحالي، بكل تجلياته الشعبية والرسمية وغير الرسمية، يشير إلى تحول عميق في المزاج العام. إنه ليس مجرد رد فعل على حرب محددة، بل هو جزء من عملية إعادة تقييم أوسع للعلاقة مع إسرائيل والمشروع الصهيوني ككل
في ظل الدمار غير المسبوق
الذي تشهده غزة، والتداعيات الإنسانية المروعة التي تواصل التصاعد منذ أشهر، لم تعد
الساحة الأوروبية مجرد متفرج صامت. فموجات الاستقالات الدبلوماسية غير المباشرة،
والاحتجاجات الشعبية العارمة التي تجتاح العواصم الأوروبية، تطرح سؤالاً محورياً:
هل يشهد الغرب تحولاً في موقفه من إسرائيل والرواية الصهيونية التقليدية؟، وهل يمكن
أن يتعاطف بحق مع معاناة الشعب الفلسطيني؟.. منذ 7 أكتوبر 2023، وحتّى اليوم، تغيّر
المشهد الأوروبي على ثلاثة مسارات متوازية: شارعٌ غاضب يطالب بوقف الحرب ومحاسبة
المسؤولين، ونُخَبٌ سياسية تهتزّ وتستقيل أو تُعيد تموضعها، ومؤسّسات حكومية
وقضائية تُراجع علاقتها بإسرائيل وأدوات الضغط عليها. فهل نحن أمام مزاج غربي جديد
أم أمام موجة متصاعدة ما تزال تصطدم بجدرانٍ مؤسسية صلبة؟
تحول في الشارع
الأوروبي
لم
تشهد أوروبا منذ حرب فيتنام حراكًا شعبيًا بهذا الحجم والزخم الذي يتمحور حول قضية
خارجية. فالمدن الكبرى مثل لندن وباريس وبرلين وبرشلونة شهدت مسيرات تطالب بوقف
فوري لإطلاق النار، ورفع الحصار عن غزة،
ومحاسبة إسرائيل على ما توصف بأنها "جرائم حرب". هذا الحراك لم يعد حكرًا على
الجاليات العربية أو المسلمين، بل امتد ليشمل ناشطين من خلفيات يسارية وتقدمية،
وحتى يهودية معادية للصهيونية، مما يعكس تحولاً في بنية الخطاب العام. عشرات
المسيرات الأوروبية لم تتوقّف ـ من لندن وباريس إلى برلين ومدريد ـ وتحوّلت
الجامعات إلى بؤر تعبئة ثم إلى ساحة كَرّ وفرّ مع الشرطة. في ألمانيا، فكّكت الشرطة
معسكرات طلابية أمام البرلمان وفي جامعات برلين، وقطعت مؤتمرًا لنشطاء مؤيدين
لفلسطين بذريعة خطاب الكراهية؛ تراجعٌ رسمي عن مساحة التعبير، لكنه زاد الزخم
الشعبي بدل أن يطفئه. وفي فرنسا انتقل الموقف من حظر شامل للتظاهرات إلى مقاربة
"حالة بحالة" بعد أحكام قضائية، لكن المواجهات والقيود استمرت، أما بريطانيا فقد
شهدت موجات اعتقال في تظاهرات داعمة لفلسطين، ونقاشًا محمومًا حول أساليب الشرطة.
هذا الضغط الشعبي لم يبقَ
في الشارع فقط، بل أثّر انتخابيًا: خسر حزب العمال عددًا من المقاعد لصالح مرشّحين
مستقلّين رفعوا شعار غزة، فيما ظلّ الجدل الداخلي حول الموقف من الحرب عاملًا
مُربكًا للقيادة. الأهم أنّ المزاج الشعبي المُقاس بالأرقام مال ضدّ إسرائيل بوضوح
في بريطانيا على الأقل، وأظهرت عدة استطلاعات أن هناك آراءًا سلبية تجاه إسرائيل في
عامي 2024و2025، مع ميلٍ متزايد لدعم وقف إطلاق النار ومحاسبة المتورّطين، هذه
الاحتجاجات ليست مجرد رد فعل عاطفي على الصور المروعة للضحايا، بل هي تعبير عن
إعادة تقييم عميقة للرواية التاريخية. فالكثير من الأوروبيين بدأوا يرون من خلال
هذه الحرب الوحشية تجسيداً لحقيقة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية، التي
طالما تم تلميعها بإطار "الدفاع عن النفس" و"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
|
واحدة من أبرز المؤشرات على عمق التحول في المزاج الأوروبي هي حالات التمرد
غير المباشر داخل أجهزة الدولة نفسها. فلم يعد النقد يأتي من الخارج فقط،
بل من قلب المؤسسات.
|
انقسام في القمة
على مستوى الحكومات، لا
تزال المواقف الرسمية للدول الأوروبية متباينة، وإن كانت في مجملها تتحرك ضمن
الإطار التقليدي الداعم لإسرائيل تحت ذريعة "حقها في الدفاع عن نفسها". لكن هذا
الموقف لم يعد متماسكاً كما في السابق. فالصورة الأوروبية الموحدة بدأت تتشقق تحت
وطأة الفضائح والانقسامات الداخلية.
فمن ناحية، هناك دول مثل
ألمانيا، التي لا تزال أسيرة "ذنب الهولوكوست" وتعتبر دعم إسرائيل "سبباً وجودياً"
لسياستها، مما يمنعها من اتخاذ أي موقف نقدي حقيقي مهما بلغت الفظائع. ومن ناحية
أخرى، هناك دول مثل إسبانيا وإيرلندا، التي تتخذ خطاباً أكثر توازناً وتنتقد بشكل
صريح الانتهاكات الإسرائيلية، وتدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، وبين هذين
القطبين، تقف حكومات مثل فرنسا وبريطانيا في منطقة رمادية، بين التزامها التقليدي
بحلفاء الغرب، والضغوط المتصاعدة من شعوبها ومن بعض الأجنحة داخل أحزابها الحاكمة
التي لم تعد تتقبل الصمت على جرائم الحرب.
استقالات
وارتجاجات سياسية
واحدة من أبرز المؤشرات على عمق التحول في المزاج الأوروبي هي حالات التمرد غير
المباشر داخل أجهزة الدولة نفسها. فلم يعد النقد يأتي من الخارج فقط، بل من قلب
المؤسسات. فقد شهدنا استقالات
دبلوماسيين وقناصل من ذوي الخبرة، بشكل غير مسبوق، احتجاجاً على مواقف حكوماتهم
المنحازة لإسرائيل. هؤلاء الموظفون، الذين طالما كانوا أوجهً للسياسة الرسمية،
وجدوا أنفسهم في موقف أخلاقي لا يحتمل الصمت. استقالاتهم هي صيحة إنذار مفادها أن
السياسة الرسمية لم تعد تتماشى مع القيم الأوروبية المعلنة حول حقوق الإنسان
والقانون الدولي. هذه الخطوات الفردية تعكس شرخاً أعمق داخل البيروقراطية
الأوروبية، حيث لم يعد بمقدور الكثيرين الدفاع عن خطاب مزدوج يدين انتهاكات روسيا
في أوكرانيا، ويتغاضى عن جرائم مماثلة ـ بل وأكثر فظاعة ـ ترتكبها إسرائيل في غزة،
ويمكن ملاحظة وقراءة أبرز هذه الارتجاجات السياسية في النقاط التالية:
* في بريطانيا، أسقطت حرب
غزة 10 من الشخصيات البارزة في الواجهة الأمامية لحزب العمال في نوفمبر 2023م بسبب
تصويتٍ لصالح وقفٍ فوري لإطلاق النار، وهي سابقةٌ وازنة كشفت عمق الشرخ بين قواعد
الحزب وقيادته. وفي انتخابات 2024، دفع الحزب كلفةً ملموسة في دوائر ذات كثافة
ناخبين متعاطفين مع فلسطين.
* في هولندا؛ استقال وزير
الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب في 22 أغسطس 2025م بعد فشله في تمرير عقوباتٍ على
إسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي، وهي رسالة سياسية صريحة بأنّ الرأي العام والكوادر
الوسطى لم يعودوا يتسامحون مع العمل كالمعتاد بينما تتفاقم الحرب.
* دشّنت إسبانيا وإيرلندا
والنرويج مبادرة للاعتراف بدولة فلسطين (28 مايو 2024)، ولحقت بهم سلوفينيا (4
يونيو 2024)، فيما أعلنت بلجيكا نيتها الاعتراف خلال اجتماعات الأمم المتحدة،
مقرونةً بحزمة عقوبات تشمل حظر منتجات المستوطنات وفرض قيود على شخصيات يمينية
إسرائيلية، الاعتراف لم يعد ترفًا رمزيًا بل أداة ضغط على بنية الاحتلال.
* فيما يخص السلاح
والتجارة؛ ألمانيا ـ أكبر مُصدّر أوروبي يملك وزنًا نوعيًا ـ أوقفت في 8 أغسطس
2025م إصدار تراخيص تصديرٍ عسكري يمكن استخدامها في غزة. بريطانيا بدورها علّقت
مفاوضات الاتفاق التجاري الحر مع إسرائيل في 20 مايو 2025م وأعلنت عقوبات على
مستوطنين ومنظّمات محرّضة على العنف. فيما أمرت محكمة الاستئناف الهولندية في
فبراير 2024م بوقف شحن مكوّنات "F-35"
المتجهة لإسرائيل نظرًا لخطر استخدامها في انتهاكاتٍ جسيمة للقانون الإنساني. هذه
إجراءاتٌ نوعية تقضم ـ ولو تدريجيًا ـ من الاستثناء الإسرائيلي في أوروبا.
* الاتحاد الأوروبي فرض في
أبريل 2024م عقوبات على أفراد وكيانات استيطانية متطرّفة (مثل: لاهافا وشبيبة
التلال)، فيما وسعت فرنسا وبريطانيا العقوبات وقيود السفر على مستوطنين ومنظمات
متطرّفة.
كسر احتكار
الرواية
لعبت وسائل الإعلام
المستقلة والمنصات الرقمية دورًا محوريًا في هذا التحول، فبينما كان الإعلام يتماشى
تاريخيًا مع الرواية الإسرائيلية، جاءت هذه الحرب مختلفة، فالفضاء المفتوح لوسائل
التواصل الاجتماعي مكّن من كسر احتكار المعلومات. صور القصف المستشفيات، وتشريد
الأطفال، وتدمير البنى التحتية، وصلت مباشرة إلى عيون وقلوب الملايين في أوروبا،
دون فلترة. هذه الصورة المباشرة للواقع خلقت فجوة بين ما تروجه الآلة الدعائية
الصهيونية وبين الحقائق الميدانية.
لم يعد بمقدور الإعلام
التقليدي تجاهل هذه الرواية البديلة، مما أجبر حتى أكثر الوسائل تحيزاً على تعديل
خطابها، وإن كان بشكل حذر. لم يعد التوازن الزائف في التغطية مقنعاً للجمهور الذي
يرى التناقض الصارخ بين زعم إسرائيلي بوجود نفق تحت مستشفى وبين صور الجثث المتفحمة
لأطفال غزة. الرواية الصهيونية، التي سيطرت على العقل الغربي لعقود، لم تعد مسيطرة
على العقل والقلب الأوروبي كما في السابق. هناك جيل جديد لم يعد يرتبط بعقدة الذنب
من الحرب العالمية الثانية، جيل يرى في الفلسطينيين وجهه المعاصر لنضال التحرر من
الاستعمار والاضطهاد.
مزاج غربي جديد
الحراك الأوروبي الحالي،
بكل تجلياته الشعبية والرسمية وغير الرسمية، يشير إلى تحول عميق في المزاج العام.
إنه ليس مجرد رد فعل على حرب محددة، بل هو جزء من عملية إعادة تقييم أوسع للعلاقة
مع إسرائيل والمشروع الصهيوني ككل. والضغط المتصاعد من القاعدة الشعبية، إلى جانب
الانقسامات في القمة، والتمرد داخل مؤسسات الدولة، كلها عوامل قد تدفع ـ على المدى
المتوسط ـ إلى إعادة تعريف العلاقة بين أوروبا وإسرائيل. قد لا نرى قطيعة كاملة،
ولكننا سنشهد على الأرجح انزياحًا تدريجيًا نحو مزيد من النقد والضغط على إسرائيل،
وربما نحو اعتراف أوسع بدولة فلسطينية.
السؤال الآن: هل يتشكّل
مزاجٌ غربي جديد فعلاً؟.. نعم، ولكنّه غير متكافئ جغرافيًا ومؤسسيًا، لكن المهم هنا
هو أن الحرب على غزة، رغم فظاعتها، كشفت زيف ما يسمى بـ "الديمقراطية الإسرائيلية"
ووجهها الاستعماري العنصري، وهو ما لم يعد من الممكن أن يلقى قبولاً في الغرب كما
في السابق. المشهد يتغير، والغرب نفسه يتغير، وربما تكون هذه اللحظة نقطة تحول في
مسار دعم الغرب الأعمى لإسرائيل، نحو علاقة أكثر توازنًا، تقوم على الاحترام
الحقيقي لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وليس على الخضوع للوبيات الضغط والرواية
الأحادية.