• - الموافق2025/10/14م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الخلافات الباكستانية - الأفغانية.. الجذور التاريخية والتداعيات المعاصرة

يمثل التصعيد العسكري بين الدولتين الجارتين باكستان وأفغانستان حالة غير مفهومة للكثيرين، ورغم التشابك القبلي والتشارك التاريخي، فإن تفكيك تعقيدات العلاقة بينهما يشير إلى أي مدى تؤثر تلك العلاقات على مستقبل البلدين.


تُعدّ العلاقة بين باكستان وأفغانستان من أكثر العلاقات تعقيدًا في جنوب آسيا، إذ تمتزج فيها العوامل الجغرافية بالتركيبة القبلية والدينية والسياسية. فمنذ تأسيس دولة باكستان عام 1947، لم تعرف العلاقات بين البلدين استقرارًا حقيقيًا، بل ظلت رهينة خلافات حدودية وأمنية ممتدة، تفاقمت لاحقًا مع ظهور حركة طالبان وصعودها إلى الحكم في كابول.

ويُعدّ الخلاف حول خط دوراند، إلى جانب ملف طالبان باكستان، والتباين في الموقف من الحرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، من أبرز محاور التوتر الدائم بين الجارتين. كما يمثل الموقف الأفغاني الرسمي تجاه طالبان باكستان عنصرًا إضافيًا معقدًا يفرض أبعادًا استراتيجية جديدة.

أولاً: خط دوراند.. الجذر التاريخي للصراع

يعود أصل النزاع الحدودي إلى اتفاقية "دوراند" الموقّعة عام 1893 بين المندوب البريطاني سير مورتيمر دوراند وأمير أفغانستان عبد الرحمن خان، والتي رسمت حدودًا فاصلة بين أفغانستان والهند البريطانية بطول يقارب 2640 كيلومترًا.

كانت الاتفاقية تهدف إلى تحديد نطاق النفوذ البريطاني دون أن تُقصد بها إقامة حدود دولية دائمة، إلا أن قيام باكستان عام 1947 جعلها تتمسك بالخط باعتباره الحدود القانونية الموروثة عن الاستعمار.

رفضت أفغانستان الاعتراف بشرعية خط دوراند منذ استقلالها عام 1919، وعدّته حدودًا "مفروضة بالقوة" فصلت بين قبائل البشتون، الأمر الذي ولّد مفهوم “البشتونستان”، أي السعي إلى توحيد القبائل البشتونية في كيان مستقل. وقد بلغت ذروة هذا النزاع في خمسينيات القرن الماضي عندما دعمت كابول مطالب الانفصاليين البشتون في باكستان، وردّت الأخيرة بإغلاق حدودها ووقف المساعدات الاقتصادية.

ظلّ الخلاف الحدودي يشكل الأساس الذي بنيت عليه سائر النزاعات اللاحقة، إذ ترى كابول أن موقف باكستان من طالبان وأمن الحدود هو امتدادٌ لسياسة تهدف إلى إخضاع أفغانستان ضمن دائرة نفوذها الجغرافي.

ثانياً: طالبان باكستان..

نشأت حركة طالبان باكستان (TTP) عام 2007، بعد اقتحام الجيش الباكستاني المدرسة الحمراء في إسلام أباد، حين توحّدت فصائل مسلحة من المناطق القبلية تحت قيادة بيت الله محسود لمواجهة الدولة الباكستانية.

ورغم التشابه الأيديولوجي مع حركة طالبان الأفغانية، فإن طالبان باكستان اتخذت من قتال الجيش الباكستاني هدفًا رئيسيًا، مطالبة بتطبيق الشريعة وإخراج القوات الحكومية من المناطق القبلية.

 

طالبان أفغانستان ترى في طالبان باكستان شريكًا عقائديًا وقبليًا، لكنها تخشى تمدد الصراع داخل أفغانستان، وتحرص على عدم فقدان الشرعية بين القبائل البشتونية.

اعتمدت الحركة في نشاطها على الملاذات داخل الأراضي الأفغانية، وخاصة بعد سقوط حكومة أشرف غني عام 2021. ومع عودة طالبان إلى الحكم في كابول، توقعت إسلام أباد أن تضبط الأخيرة نشاط طالبان باكستان، لكن ما حدث كان عكس ذلك؛ إذ تصاعدت الهجمات ضد الجيش الباكستاني في خيبر بختونخوا ووزيرستان، مما دفع باكستان إلى اتهام الحكومة الأفغانية بالتقاعس أو التواطؤ.

يُظهر هذا الملف المفارقة العميقة في السياسة الباكستانية: فالدولة التي دعمت طالبان الأفغانية لعقود، تجد نفسها اليوم تواجه نسخة "محلية" من ذات الفكر المسلح، تهدد أمنها الداخلي واستقرارها السياسي.

ثالثا: موقف طالبان أفغانستان من طالبان باكستان

سؤال العلاقة بين طالبان أفغانستان وطالبان باكستان يشكّل محورًا أساسيًا لفهم الديناميكية الإقليمية الحالية:

1. الخلفية المشتركة:

كلا الحركتين تتبنيان الفكر الديوبندي المحافظ، ويجمعهما الانتماء القبلي البشتوني، مما يسهل التواصل الاجتماعي واللوجستي بين عناصرهما.

2. الموقف الرسمي:

بعد عودة طالبان إلى الحكم في كابول (2021)، أعلنت الحكومة الجديدة حيادًا ظاهريًا تجاه طالبان، مع نفي الدعم العسكري أو اللوجستي، والدعوة إلى حل النزاع عبر الحوار مع الحكومة الباكستانية.

3. التسامح الضمني:

رغم النفي الرسمي، توفر طالبان أفغانستان ملاذًا آمنًا لقيادات طالبان باكستان، وتسمح بتحرك محدود قرب الحدود مقابل الالتزام بعدم استهداف أراضي طالبان الأفغانية، مستفيدة من الملف كورقة ضغط على إسلام أباد.

4. التوازن الحرج:

طالبان أفغانستان ترى في طالبان باكستان شريكًا عقائديًا وقبليًا، لكنها تخشى تمدد الصراع داخل أفغانستان، وتحرص على عدم فقدان الشرعية بين القبائل البشتونية.

ويمكن القول إن طالبان أفغانستان لا تدعم طالبان باكستان علنًا، لكنها لا تعاديها فعليًا، محافظًة على توازن بين التعاطف الأيديولوجي والاعتبارات السياسية والأمنية.

رابعا: الجيش الباكستاني والمناطق الحدودية وزيرستان نموذجًا

تمثل وزيرستان، بشطريها الشمالي والجنوبي، قلب الصراع الأمني بين باكستان والمسلحين الإسلاميين.

فقد شكّلت لعقود منطقة شبه مستقلة تخضع لنظام قبلي خاص، حتى تم دمجها رسميًا في إقليم خيبر بختونخوا عام 2018.

شنّ الجيش الباكستاني منذ عام 2004 سلسلة عمليات عسكرية واسعة ضد معاقل القاعدة. ورغم النجاحات الميدانية، فإن الطبيعة الجبلية والروابط القبلية العابرة للحدود جعلت السيطرة الكاملة شبه مستحيلة، مما أبقى المنطقة في حالة عدم استقرار دائم.

وجود الجيش في هذه المناطق منح المؤسسة العسكرية دورًا سياسيًا متعاظمًا، وأضفى على الأمن القومي طابعًا مهيمنًا على صنع القرار الخارجي، خصوصًا تجاه أفغانستان. ومن ثمّ، باتت السياسة الحدودية والأمنية الباكستانية تُدار بقدر كبير من الاعتبارات العسكرية لا الدبلوماسية.

خامسا: باكستان بعد 11 سبتمبر.. بين واشنطن وكابول

أحدثت هجمات 11 سبتمبر 2001 نقطة تحول استراتيجية في العلاقة بين باكستان وأفغانستان.

فقد طالبت الولايات المتحدة من إسلام أباد الانضمام إلى "التحالف الدولي ضد الإرهاب"، وإغلاق الحدود أمام طالبان والقاعدة.

استجابت الحكومة الباكستانية بقيادة برويز مشرف سريعًا، وفتحت قواعدها الجوية للاستخدام الأمريكي، وشاركت في مطاردة التنظيمات المسلحة في المناطق القبلية.

لكن هذه المشاركة كانت مشوبة بازدواجية واضحة؛ إذ استمرت أجهزة الاستخبارات الباكستانية في الحفاظ على قنوات اتصال سرية مع طالبان، باعتبارها ورقة استراتيجية لضمان النفوذ في مستقبل أفغانستان، ولمنع الهند من التغلغل في كابول.

وقد أدى هذا التناقض إلى تدهور العلاقة مع واشنطن لاحقًا، خصوصًا بعد مقتل أسامة بن لادن في أبوت آباد عام 2011، في قلب الأراضي الباكستانية، وهو ما عُدّ دليلاً على أن باكستان تمارس لعبة مزدوجة.

خاتمة

إن الخلافات بين باكستان وأفغانستان ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تداخلٍ تاريخي معقد بين الجغرافيا والقبيلة والدين والسياسة. يبقى خط دوراند رمزًا لصراع الهوية، بينما تمثل طالبان باكستان انعكاسًا داخليًا لفشل المعادلة الأمنية الباكستانية.

أما موقف إسلام أباد من الحرب على الإرهاب، فكان دليلاً على ارتباك استراتيجيتها بين إرضاء واشنطن وحماية نفوذها الإقليمي.

وأخيرًا، يضيف موقف طالبان أفغانستان من طالبان باكستان بعدًا استراتيجيًا معقدًا، حيث يستخدم كلا الطرفين النفوذ القبلي والأيديولوجي كورقة ضغط، مع الحفاظ على هشاشة التوازن الأمني على جانبي الحدود.

هذه هي الأسباب المحركة للتصعيد العسكري الذي طفى على السطح في الأيام القليلة القادمة، ويبقى تحليل أدوات كل طرف في علاقته مع الطرف الآخر وسيناريوهات هذا التصعيد، ودور القوى الإقليمية فيه موضع المقال القادم إن شاء الله.

أعلى