كان مشروع كشك هو الخروج من “التبعية الفكرية” التي تجذّرت في العقل العربي، ورأى أن الأزمة ليست في الاحتلال العسكري فقط، بل في الاحتلال الثقافي الذي يتجلى في المناهج والتعليم والصحافة. لذلك جاءت كتاباته أشبه بمشاريع تحرير معرفي
تحلّ ذكرى وفاة المفكر الإسلامي الكبير محمد جلال كشك لتعيد إلى المشهد الفكري
العربي واحدًا من أكثر العقول إثارة للجدل والتأثير في النصف الثاني من القرن
العشرين. كاتبٌ بدأ رحلته شيوعيًا، ثم ما لبث أن خاض رحلة عقلية شاقة انتهت به
واقفًا على الهواء مباشرة يدافع عن النبي
ﷺ في مناظرة شهيرة أمام نصر
حامد أبو زيد؛ فكانت تلك اللحظة آخر أنفاسه في الدنيا.
وفي عالمٍ سيطرت عليه النخب الرسمية الموجّهة، بقي جلال كشك صوتًا خارج السرب؛
موسوعيًا في تحليله، ساخرًا في أسلوبه، وصاحب قدرة نادرة على تفكيك الروايات
المزيّفة التي سادت التاريخ والسياسة والهوية.
لم يشفع له جهده الهائل ولا موسوعيته الواسعة في أن يتبوأ مكانة إعلامية تليق به؛
فالرجل –
كما يقول بعض تلامذته
–
“لو
لم يكن عدوًا للطغيان، لكان في المقام الذي جلس فيه هيكل نفسه”.
لكن جلال كشك اختار طريقًا آخر: الكلمة الحرة.
إن استعادة سيرته ليست مجرد احتفاءٍ بمفكرٍ راحل، بل هي عودة لقراءة مشروع فكري
كامل ما زال يضيء الوعي العربي، وما زالت كتبه
–
رغم مرور العقود
– تحفر أثرها في طلبة
العلوم الشرعية والباحثين في قضايا الهوية والنهضة.
التحوّل الفكري الكبير
– من
الشيوعية إلى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم
:
بدأ محمد جلال كشك حياته شابًا يساريًا، بل ومنخرطًا في تأسيس التيار الماركسي
المصري الذي ازدهر في الأربعينيات والخمسينيات. كانت تلك مرحلة تشكّل عقلي وفكري،
اجتهد فيها في قراءة الأدبيات الشيوعية وتحليل الواقع الاجتماعي، وظل لسنوات جزءًا
من البيئة اليسارية التي حملت شعارات العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي. لكن تجربة
كشك اليسارية لم تكن إيمانًا أعمى، بل كانت محطة أسئلة، وقطار شكّ توقف أكثر مما
اندفع. ومع احتكاكه بالواقع وبالنصوص، ومع تكرار الصدام بين المثاليات الماركسية
والحقائق التاريخية، بدأ الشرخ داخل وجدانه يتسع، وبدأت رحلته في مراجعة الأفكار
التي تربّى عليها.
مع منتصف الستينيات، انفجرت تلك المراجعات في سلسلة مقالات نقدية عنيفة وجريئة،
أثارت غضب الاتحاد السوفيتي نفسه، حتى ردت عليه صحيفة
“البرافدا”
متهمة الدولة المصرية بالإساءة إلى موسكو لأنها سمحت لكاتبٍ مثله بالنشر. كان الرد
السوفيتي كافيًا ليُغضب السلطة في مصر؛ فأصدر جمال عبد الناصر قرارًا بإيقافه عن
الكتابة والعمل نهائيًا لثلاث سنوات كاملة.
ذلك الإبعاد القسري كان منعطفًا مهمًا؛ إذ وجد كشك نفسه
–
لأول مرة –
أمام مساحة واسعة لمراجعة كل شيء: التاريخ، الفلسفة، الأيديولوجيا، والإنسان ذاته.
|
|
امتاز كشك بأسلوب شديد الحيوية، يجمع بين العمق والسخرية والغضب الشريف،
ويمتلك قدرة نادرة على تحويل القضايا المعقدة إلى نصّ جذاب يفتح أسئلة لا
تنتهي. ولذلك كان تأثير كتبه – بشهادة قرّائه – تحولًا في حياة الكثيرين |
بعد النكسة، عاد إلى الصحافة لفترة، لكنه ما لبث أن هاجر إلى بيروت، ليبدأ مرحلة
جديدة من حياته تخلّلها البحث المكثّف في التراث والهوية. ومع مطلع الثمانينيات،
اكتملت الرحلة: تحوّل كشك بالكامل إلى المشروع الإسلامي، لا كعاطفة، بل كقناعة
معرفية وفلسفية بأن الإسلام هو الإطار الحضاري الوحيد القادر على نهضة الأمة.
ومن هنا صار أحد أبرز الأصوات المدافعة عن الإسلام أمام حملات التغريب، حتى كانت
وفاته نفسها
–
في مناظرة علنية
– وهو يدافع عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لتكتمل الرحلة التي بدأت بالشيوعية وتنتهي على مشارف الجنة.
الصدام مع الطغيان وتجاهل المؤسسة الرسمية:
من يتأمل مسيرة محمد جلال كشك يدرك أن الرجل لم يكن مجرد كاتب؛ بل كان منافحا عن
الحرية، ما جعله دائمًا في حالة صدام مفتوح مع النخب الرسمية. لم يكن يقبل الترويض،
ولم يخضع لإغراءات الإعلام، ولم ينحنِ لسطوة الخطاب الرسمي.
وكان صدامه الأول مع نظام عبد الناصر الذي حظر كتاباته وأوقفه عن العمل بالكامل
ثلاث سنوات بسبب نقده العنيف للماركسية والسوفييت في وقت كانت فيه القاهرة حليفًا
لموسكو. ثم عاد الصدام في عصر السادات، حيث اضطر إلى الهجرة إلى بيروت بسبب التضييق
والملاحقة.
أما المؤسسة الثقافية العربية، فقد تجاهلته عمدًا؛ لأن مشروعه كان يقوّض الأساطير
المؤسسة التي بُنيت عليها شرعيات سياسية وإعلامية كاملة. كان يفضح الأكاذيب ويدحض
الروايات الرسمية عن
“ثورة
يوليو”،
ويكشف تناقضات محمد حسنين هيكل، ويعرّي الأساطير القومية التي احتكرت المشهد
الثقافي لسنوات.
ولذلك كان مكروهًا من القوميين والناصريين، ومطارَدًا من المتأمركين، ومرفوضًا من
التيار الطائفي الذي رأى في كتابه
“ودخلت الخيل الأزهر”
فضحًا تاريخيًا غير مرغوب فيه.
لم يكن محمد جلال كشك جزءًا من
“نظام الجوائز”
ولا من “منظومة
الصفقات”
التي تصنع نجومية كتّاب بعينهم. ولذلك بقي خارج المشهد الإعلامي الرسمي، رغم أنه
–
باعتراف خصومه
–
كان أحد أكثر الكتاب إحاطة بالتاريخ السياسي الحديث، وأشدهم جرأة، وأكثرهم صدقًا في
المواجهة.
إن تجاهل المؤسسة الرسمية له لا يعبّر عن قيمته، بل يعكس حجم ما كان يمثله من تهديد
لنظام كامل تأسس على التزييف. وربما لهذا قال أحد الباحثين:
“لو
لم يكن كشك عدوًا للطغيان، لزُحزح هيكل، ووُضع جلال كشك مكانه”.
مشروعه الفكري وموسوعته النقدية:
ترك محمد جلال كشك أحد أعظم المشاريع النقدية في الفكر العربي المعاصر. فقد امتاز
بجرأة التحقيق وسعة الاطلاع، وبقدرته على ربط التاريخ بالسياسة، والواقع بالهوية.
ومن بين أهم كتبه التي أحدثت أثرًا بالغًا:
ودخلت الخيل الأزهر
أهم موسوعة حديثة في توثيق الغزو الفرنسي لمصر، كشف فيها الدور الحقيقي لـ"المعلم
يعقوب" والفيلق القبطي الذي حارب مع الاحتلال الفرنسي، وفضح تزييف بعض المستشرقين
والمثقفين المصريين لهذا الحدث. هذا الكتاب وحده كان كفيلًا بأن يضعه في صدام دائم
مع الطائفيين والمتغربين وخصوم الهوية الإسلامية.
.
كلمتي للمغفلين وثورة يوليو الأمريكية
في هذين الكتابين قدّم أقوى نقد تاريخي موثّق لعبد الناصر، مستندًا إلى وثائق الـCIA
واللقاءات السرية، وكشف حجم التدخل
الأمريكي في انقلاب الضباط. هذه الكتب كانت بمثابة
“زلزال
فكري”
هدم الرواية القومية التي غذّتها ماكينة الدعاية الناصرية.
.
أعماله في
“الغزو
الفكري”
قدّم رؤية تحليلية غير مسبوقة عن تغلغل التيارات التغريبية، فجاءت كتبه:
القومية والغزو الفكري
–
النكسة والغزو الفكري
– الناصريون قادمون
–
جهالات عصر التنوير
– ألا في الفتنة سقطوا…
هذه الكتب شكّلت منظومة فكرية متكاملة في نقد التبعية والاستلاب الثقافي.
امتاز كشك بأسلوب شديد الحيوية، يجمع بين العمق والسخرية والغضب الشريف، ويمتلك
قدرة نادرة على تحويل القضايا المعقدة إلى نصّ جذاب يفتح أسئلة لا تنتهي. ولذلك كان
تأثير كتبه
– بشهادة قرّائه – تحولًا في حياة الكثيرين،
لا مجرد قراءة عابرة.
قراءته للتاريخ المصري والعثماني:
تميزت قراءة جلال كشك للتاريخ بخصيصة جوهرية: إعادة الاعتبار للحقيقة بعد عقود من
التزييف السياسي والأيديولوجي. كان يرى أن التاريخ
–
كما قُدّم للأجيال
–
“مطبخٌ
من الأكاذيب”
صاغه القوميون والمستشرقون واليسار المتغرب. ولذلك بنى مشروعه على إعادة قراءة
التاريخ المصري والعثماني من منظورٍ تحليلي لا يخضع للدعاية ولا للعاطفة.
في التاريخ المصري، كشف في كتبه ومقالاته كيف أُعيد إنتاج صورة الاحتلال الفرنسي
باعتباره “ثورة
حضارية”،
بينما هو في الحقيقة حملة عسكرية مدمّرة حظيت بدعم داخلي من وكلاء محليين. وفي
التاريخ العثماني، رفض الرواية التي تقدّم الدولة العثمانية كقيدٍ على مصر، وأعاد
تقييم دورها في حماية المنطقة من الاستعمار الأوروبي.
كما درس كشك ظاهرة
“التبعية
الفكرية”
التي تجذّرت في العقل العربي، ورأى أن الأزمة ليست في الاحتلال العسكري فقط، بل في
الاحتلال الثقافي الذي يتجلى في المناهج والتعليم والصحافة. لذلك جاءت كتاباته أشبه
بمشاريع تحرير معرفي، تفكك الرواية الغربية وتعيد العقل العربي إلى جذوره الحضارية.
كانت قدرته على المقارنة بين النصوص العربية والإنجليزية
–
كما فعل مع محمد حسنين هيكل
– مثالًا لصرامته
العلمية. كان يقارن بدقة مذهلة بين طبعتين من الكتاب الواحد ليفضح التناقضات
والأكاذيب، في جهد يدل على صبرٍ نادر وعقل تحليلي حاد.
بهذه المنهجية، وضع جلال كشك نفسه في مرتبة الفيلسوف المؤرخ، لا مجرد الكاتب
الصحفي؛ لأنه أعاد تأسيس الوعي التاريخي على أسس موضوعية وإسلامية في آن.
إرثه في الوعي العربي وسبب حضوره المتجدد:
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على رحيله، ما زال محمد جلال كشك حاضرًا بقوة في الوعي
العربي؛ ليس فقط بسبب كتبه الجريئة، بل لأن مشروعه الفكري ما زال يناسب الأسئلة
التي تطرحها الأمة اليوم: الهوية، التاريخ، التغريب، والسيادة الفكرية.
كتبُه تُقرأ اليوم أكثر مما قُرئت في حياته، لأن كثيرًا من القضايا التي حذّر منها
–
مثل التبعية الثقافية، وتزييف التاريخ، وسيطرة النخب المتغربة
–
أصبحت ظواهر مكشوفة لا يمكن تجاهلها.
كما أن ظاهرة
“العودة
للهوية”
التي يشهدها جيل الشباب أعادت إحياء رموز فكرية امتلكت رؤية نقدية صارمة وهوية
صلبة، وجلال كشك كان رأس هؤلاء جميعًا.
إضافة إلى ذلك، فإن رحلته التحولية
– من اليسار إلى
الإسلام –
تمثل نموذجًا ملهمًا لآلاف الباحثين الذين رأوا في تجربته مثالًا على قدرة الإنسان
على تجاوز الأيديولوجيات نحو الحقيقة. ولعل لحظة وفاته نفسها
–
وهو يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم
– صارت
رمزًا ومشهدًا خالداً في الذاكرة الإسلامية؛ إذ ختم حياته على أكمل ما يحب المؤمن
ويُشتهى.
إن استعادة إرث جلال كشك اليوم ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة معرفية. فالرجل ترك
مشروعًا يحتاج إلى باحثين يجمعونه ويفهرسونه وينشرونه للأجيال. وقد قال عنه بعض
المفكرين: “لم
يظهر في القرن العشرين قلم إسلامي مثل قلم محمد جلال كشك؛ موسوعي، جريء، ساخر، لا
يساوم، ولا يخشى في الحق لومة لائم”.