كيف نؤدب فرنسا ؟

كيف نؤدب فرنسا ؟

 الغرب لا يحل المشاكل بل إنه خبير في صنعها، وخصوصا حينما يتعلق الأمر في بلدان العالم الإسلامي. لماذا يفعل ذلك منذ أن أنهى الاحتلال العسكري لبلدان الوطن العربي في منتصف القرن الماضي؟! لأنها مركز الحضارة في هذا الكون، ومنها بدأت تتشكل أكبر إمبراطوريات العالم مستندة إلى عالمية رسالة الإسلام وقدرته على نشر العدل و السلام في هذا العالم.

إن الأزمة المتكررة التي فجرتها صحيفة "تشارلي إيبدو" عبرت عن عجرفة وغطرسة لا متناهية للغرب، أظهرت ازدواجية المعايير التي يتعامل بها مع قضايا الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي قتلت فيه فرنسا أكثر من مليون جزائري خلال إحتلالها للجزائر ورفضت تقديم إعتذار على جريمتها، بالإضافة إلى جرائمها في مالي و ليبيا وأفغانستان و العراق طالبت بعض المتملقين باستنكار عملية قتل صحفيي "تشارلي إيبدو"، صحيح أن السخرية من النبي محمد عليه السلام جريمة، لكني أعتقد أن القدرة على الردع لا تكن بهذه الطريقة، فالعشرات من الصحف الغربية أعادت نشر الرسوم، لأن الأمر لا يتعلق بالإساءة للنبي الكريم بل بالإساءة لأمته التي أصابها ما أصابها من ضعف و عجز.  شبكة "سي أن أن" الأمريكية طردت مذيعها الشهير جيم كلانسي بسبب تغريدة قال فيها،"إن الرسوم الكارتونية لم تسئ للنبى محمد صلى الله عليه وسلم، بل سخرت من الجبناء الذين يحاولون تشويه كلمته، انتبهوا".  أنا لا أعرف ميزان الحرية الغربي كيف يعمل، لكن كيف يمكن أن نعتبر أن الإساءة لليهود معاداة للسامية ويسجن من يقوم بها، و أن الإساءة للإسلام حرية شخصية يجب حماية من يقوم بها؟!

إن الغرب الذي حاول تجنيد الحدث للنيل من الجاليات الإسلامية في بلدانه المختلفة، سخر كل إمكانياته لإدانة و استنكار أحداث باريس لكنه لم يفكر في العراق التي قتل فيها و شرد الملايين من أبنائها، لم يفكر أيضا بأفغانستان الذي أعادها قرونا إلى الوراء، بالإضافة إلى حكايتنا الكبرى فلسطين، فقبل أشهر قتل 2500 فلسطيني بمدافع إسرائيلية يمولها الغرب... أين ملاحقة قتلة الفلسطينيين الذين تصدروا المشهد في مسيرة باريس المنددة بالإرهاب؟!. 

إن 90 بالمائة من العمليات " الإرهابية" التي يتحدث عنها الغرب تحدث في بلدان العالم الإسلامي ، وبالرغم من ذلك يتهم المسلمين بــ" الإرهاب"، لماذا؟ لأنه يجب دائما أن تصوب نحوهم المدافع ولا يسمح لهم بالنهوض.

إمكانية الردع

انقضى وقت طويل منذ وقوع الحادثة، ولم يخرج إلى العلن موقف رسمي إسلامي أو عربي يدين جريمة الإساءة للرسول الكريم من قبل الصحيفة التي تحتضنها المؤسسة الرسمية الفرنسية و الغربية بدعوى ممارسة "الحرية" ، و هذا مرده إلى حالة عجز تعيشها الأمة على الصعيدين الرسمي و الشعبي، و أخيراً خرجت منظمة المؤتمر الإسلامي لتقول إنها تفكر في مقاضاة "تشارلي إيبدو"، إن الصراخ في الميادين العامة لم يذكر التاريخ في شواهده أنه أرجع حقا مسلوبا لصاحبه، لقد خرجت الكثير من المظاهرات المنددة بالإساءة للرسول الكريم ومع ذلك فإن الغرب لا يزال يتطاول على مقام سيد المرسلين، لأنه بكل بساط لم يجد الرادع لأننا كمسلمين سمحنا له بذلك منذ أن فقدنا الثقة بأنفسنا وبقدرتنا على الصمود.. ليس لدى المسلمين القدرة على إرسال بوارجهم قبالة سواحل فرنسا لكن لا يجب عليهم أن يظهروا ضعفهم و عجزهم، لم يفعلها أضعف شعوب الأرض فكيف تفعلها أمة تعدادها أكثر من مليار مسلم.

خلال إحتلال بريطانيا للهند قام السياسي الهندي الشهير مهاتما غاندي بتحريض المواطنين الهنود على صنع ملابسهم بأنفسهم و الكف عن شراء المنتجات البريطانية، وتوارث بعده الشعب الهندي كلمته المشهورة"كلوا مما تنتجون والبسوا مما تصنعون وقاطعوا بضائع العدو".

تقول الجامعة العربية إن الكيان الصهيوني خسر بفعل مقاطعة العرب له أكثر من 90 مليار دولار حتى عام 2000. وفي الدنمارك أيضا بلغت خسائر القطاع الاقتصادي 3 مليارات دولار بالإضافة إلى فقدان 20 ألف وظيفة بفعل المقاطعة الإسلامية للدنمارك، لكن تلك المقاطعة لم تستمر مع الأسف.

تقول صحيفة الإمارات اليوم الإماراتية في عددها الصادر في 2/يونيو/2012 إن صادرات فرنسا إلى الإمارات بلغت 3.5 مليار يورو. لك أن تتخيل عزيزي القارئ حجم تجارة فرنسا مع بلدان العالم الإسلامي سواء في قطاعات مثل السيارات أو الأطعمة أو العطور و الأجهزة المنزلية وغيرها من المنتجات. إذا كانت العطور الشرقية متوفرة فلماذا نلجئ إلى شراء زجاجة عطر توم فورد فرنسية قيمتها تزيد عن 200 دولار. لماذا علينا أن نقضي إجازتنا في باريس إذا كان تونس أو المغرب متوفرة؟!  قديما كانت أهمية رجل الدين و السياسي أقوى من أي شيء آخر أما في هذا العصر فإن التاجر و الرأس مالي هو من يحكم الدول. علينا أن نكون أكثر إخلاصا لديننا و لنبينا محمد عليه الصلاة و السلام، ولا ننتظر من الموقف الرسمي أن يردع الغرب طالما سمحت لنا الفرصة بذلك من خلال مقاطعة كل ماهو فرنسي..

المعركة الحقيقية..

إن المعركة القيمية و الدينية قائمة على أشدها في الغرب، فالعلمانية التي صنعها الغرب لكي توفر له غطاء لممارسة الجريمة المنظمة تجاه العالم الإسلامي و إجباره على خلع ثوب التدين إنقلبت اليوم عليه، و أصبح تأثيرها أقوى بكثير مما يعتقد بعض المفكرين، فأجواء الانفتاح أجبرت الجيل الغربي الجديد على ترك الكنيسة و التمسك بالعلمانية، أو حتى التطرف أكثر باتجاه الإلحاد و الهروب من قيود الكنيسة. في المقابل نشهد حالة فريدة من نوعها من الزيادة في عدد المسلمين بشكل أثار قلق صانعي القرار في أوروبا وجعلهم يُسخرون كل إمكاناتهم لتحاشي إنهزام المسيحية أمام الدين الإسلامي.

في تقرير نشرته، صحيفة وول ستريت الأمريكية قالت إن العديد من الكنائس في أوروبا معروضة للبيع الأمر الذي يعكس الضعف المتسارع لقوة المسيحية في أوروبا.

ليان جروتوجرز ناشطة هولندية تحاول الحد من ظاهرة بيع الكنائس، تقول إن الاتجاهات المتعلقة بالديانات الأخرى في أوروبا لا تتوافق مع الاتجاهات المتعلقة بالديانة المسيحية. فاليهودية الأرثوذكسية والتي تعتبر الدين السائد في أوروبا ظلت ثابتة نسبياً. وفي الوقت نفسه نمى الإسلام بسبب الهجرة المتزايدة من الدول الاسلامية في أفريقيا والشرق الأوسط نحو أوروبا.

كنيسة إنجلترا أغلقت حوالي 20 كنيسة العام الماضي، وفي الدنمرك 200 كنيسة لا يتم استخدامها، ولا تبتعد ألمانيا عن الحالة الأوربية فالكنيسة الكاثوليكية الرومانية قامت بإغلاق حوالي 515 كنيسة في العقد الماضي.

بحسب تقرير وول استريت فإن ثلثي كنائس الروم الكاثوليك في هولندا البالغ عددها 1600 كنيسة سوف يتم إغلاقها خلال عقد من الزمان.بالإضافة إلى توقع إغلاق 700 من الكنائس البروتستانتية خلال الأربع سنوات القادمة.

في المقابل يقول مركز بيو للأبحاث في واشنطن إن عدد المسلمين في أوروبا نما بواقع 4.1 بالمائة من إجمالي التعداد السكاني في أوروبا حتى عام 1990، وفي عام 2010 بلغ حوالي 6 بالمائة ومن المتوقع أن يزيد ليصل إلى 8 بالمائة أو 85 مليون شخص بحلول عام 2030.

سكوت توما وهو بروفسور في علم الاجتماع في معهد هارفرد الديني في ولاية كونيتيكت الأمريكية يؤكد أن عدد مرتادي الكنيسة الفعليين في أمريكا انخفض بنسبة 3 بالمائة، و يضيف ملخصا حالة الصراع بين الإسلام و المسيحية في الغرب قائلا:"إن تعداد سكان أمريكا الذين يرتادون الكنائس بدأ يشيب".

في ظل حالة العجز التي يعيشها النظام الرسمي الإسلامي،المطلوب أن يكون لدينا قيادات إسلامية دينية حية تملك الحكمة الكافية لتوجيه الرأي العام الإسلامي بما يخدم قضاياه، بالإضافة إلى العمل على تشكيل جبهة اقتصادية موحدة تدعم حملة واسعة لمقاطعة فرنسا و كل بلد سمح بالإساءة للأمة المسلمة من خلال الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، و التركيز على هزيمة الغرب في عقر دارهم من خلال دعم جهود الدعاة في أوروبا و تعزيز بناء المساجد وغيرها من مراكز الدعوة الإسلامية، فهذه هي المعركة الحقيقية طالما أن مدافع المسلمين لا تستطيع الإطاحة بطاغية مثل بشار الأسد.

 أعجبتني مقولة أود الختام بها لرئيس تحرير وكالة الأناضول التركية السابق، كمال أوزتورك قال فيها:" الوحدة الإسلامية تنبع من داخل كل مسلم، وهي مسؤوليته... تلزمنا الحركة، وترك الباقي على الله عز وجل."

أعلى