البيان/وكالات: تكشف استراتيجية الأمن القومي التي أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تحوّل عميق في طريقة فهم واشنطن لمفهوم التهديد، ولموقع الولايات المتحدة في العالم، بعيدًا عن القوالب التقليدية التي حكمت السياسة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. هذا التحول لا يتمحور حول إعادة ترتيب الأولويات الجيوسياسية فحسب، بل يعكس انتقالًا بنيويًا من منطق صراع القوى العظمى إلى منطق صدام حضاري وثقافي، تصبح فيه الهوية والهجرة والحدود النفسية عناصر مركزية في تعريف الأمن القومي.
الكاتب السياسي الأمريكي توماس فريدمان، في تحليله المنشور بصحيفة نيويورك تايمز، يتوقف عند مفارقة لافتة في وثيقة استراتيجية تقع في ثلاثٍ وثلاثين صفحة، صدرت في وقت تشهد فيه العلاقات الدولية تصعيدًا غير مسبوق بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، ومع ذلك تكاد الوثيقة تتجاهل هذين الخصمين التقليديين، أو تتعامل معهما بوصفهما تهديدين ثانويين مقارنة بخطر آخر تعتبره الإدارة الأمريكية أكثر جوهرية وأعمق أثرًا.
يلاحظ فريدمان أن ما يلفت الانتباه في الاستراتيجية ليس ما ورد فيها بقدر ما غاب عنها، إذ تركز الوثيقة بشكل غير مسبوق على أوروبا، لا بوصفها حليفًا استراتيجيًا، بل ككيان حضاري مهدد بالانهيار. تنتقد الاستراتيجية السياسات الأوروبية المرتبطة بالهجرة، وتربط بينها وبين تآكل الهويات الوطنية، وتراجع معدلات الإنجاب، وتفكك البنى الاجتماعية، محذّرة من أن استمرار هذه الاتجاهات قد يؤدي إلى اختفاء “أوروبا التي نعرفها” خلال أقل من عقدين.
وتذهب الوثيقة أبعد من ذلك حين تربط مستقبل القارة الأوروبية بمدى صعود الأحزاب القومية “الأكثر وطنية” بحسب توصيفها، معتبرة أن الفشل في كبح الهجرة، لا سيما من الدول ذات الغالبية المسلمة، سيقود إلى ما تصفه بـ”المحو الحضاري”. هنا، يرى فريدمان أن معيار التحالف في عقل إدارة ترامب لم يعد قائمًا على الديمقراطية أو القيم الليبرالية المشتركة، بل على الموقف من الهجرة والهوية الثقافية والدينية.
هذا التحول يعكس، بحسب فريدمان، قناعة راسخة داخل الإدارة الأمريكية بأن التحدي الأكبر الذي يواجه الغرب ليس صعود الصين أو عودة روسيا، بل التحولات الديموغرافية والثقافية التي تعيد تشكيل المجتمعات من الداخل. ومن هذا المنطلق، لا تسعى إدارة ترامب إلى خوض حرب باردة جديدة، بل إلى إدارة “حرب حضارية” يكون محورها الدفاع عن مفهوم ضيق للوطن، يقوم على التجانس الثقافي والديني، ويرى في التعدد تهديدًا وجوديًا.
ويضع فريدمان هذه الرؤية في سياق داخلي أمريكي أوسع، يصفه بما يسميه “الحرب الأهلية الأمريكية الثالثة”، وهي ليست حربًا عسكرية، بل صراع اجتماعي وثقافي عميق حول معنى الانتماء والهوية، وحول من يملك حق تعريف الأمة وحدودها النفسية. هذا الصراع تغذيه تحولات اقتصادية وتكنولوجية سريعة، إلى جانب تغيرات ديموغرافية تقلّص من هيمنة البيض ذوي الخلفية المسيحية، ما يخلق شعورًا واسعًا بالاغتراب لدى شرائح كبيرة من المجتمع الأمريكي.
ضمن هذا السياق، يكتسب خطاب ترامب حول بناء الجدار الحدودي دلالة رمزية تتجاوز البعد الأمني المباشر، ليصبح الجدار تعبيرًا عن رغبة في إقامة حاجز نفسي وثقافي يحمي هوية متخيلة من عالم متغير. وتنعكس هذه الرؤية بوضوح في لغة وثيقة الأمن القومي، التي يصفها فريدمان بأنها لا تشبه أي وثيقة سابقة، سواء من حيث المفردات أو الأولويات أو المنطلقات الفكرية.
الأكثر دلالة، بحسب التحليل، هو أن جزءًا من اليمين الأمريكي بات ينظر إلى روسيا بوصفها حليفًا ثقافيًا محتملاً، لا بسبب مصالح استراتيجية مشتركة، بل لأنها تمثل في المخيال الأيديولوجي نموذجًا للمجتمع المحافظ، القومي، الأبيض، والمسيحي، في مقابل أوروبا التي يُنظر إليها باعتبارها قد تخلت عن هويتها التقليدية. هذا التحول يعكس انقلابًا في البوصلة القيمية، حيث لم تعد الديمقراطية الليبرالية هي الرابط الجامع، بل مفهوم ضيق للهوية الحضارية.
ويخلص فريدمان إلى أن استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب ليست وثيقة عابرة، ولا نتاج مجموعة محدودة من المتشددين، بل هي بمثابة “حجر رشيد” يفسر الدوافع العميقة لهذه الإدارة في سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء. إنها وثيقة تكشف أن الخطر الأكبر، في نظر صانعي القرار، لم يعد يأتي من الخارج بقدر ما ينبع من الداخل، وأن الهجرة والهوية باتتا في قلب تعريف الأمن القومي الأمريكي، متقدمتين على الصراعات التقليدية بين الدول الكبرى.
بهذا المعنى، لا تعكس استراتيجية ترامب مجرد إعادة ترتيب للأولويات، بل تمثل إعادة تعريف شاملة لمفهوم العدو، ولمعنى الأمن، ولموقع الولايات المتحدة في عالم لم يعد يُقرأ بلغة الجغرافيا السياسية وحدها، بل بلغة الثقافة والهوية والصراع على معنى الوطن ذاته.