الأوَّلون (2- 2)

على الرغم من أنَّ عائذ بن عمرو من أهل بيعة الرضوان، إلا أنه لم يسلم من الإيذاء والانتقاص ممن لا يعرف للصحابة قدرهم وفضلهم في الإسلام، حتى صار حبهم والترضي عنهم والدعاء لهم والثناء عليهم وتفضيلهم على سائر الناس بعد الأنبياء


الطلائع البيضاء:

أرأيت جنود الجيش الفاتح وهم يرفعون رايات النصر ويتقدمون لدخول المدينة التي غَلبوا على جيشها وأهلها؟ أرأيتهم وطبول الفتح تضرب بين أيديهم وهم شامخو الرؤوس منتشين فرحين؟ في واقع الأمر إنما كانوا يسيرون على أشلاء ثلة من الأبطال كان نصيبهـم أنْ يكونوا في الصفوف الأولى من الجيـش، أولئك الذين بذلـوا أرواحهم من أول لحظة في سبيل أنْ يحملَ غيرهم راية النصر من خلفهم.

أفهمت ما أقصد؟ لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  مقدمة الأمة وباكورة الدعوة، كانوا هم الأشلاء التي عبرنا عليها إلى العالم!

في كل مرة يطرق فيها سمعي قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، أجد نفسي متسائلاً على سبيل التعجب والإعجاب في آنٍ معاً: كيف كان المهاجرون والأنصار يقرؤون هذه الآية؟! وكيف بقومٍ معروفة أسماؤهم وشخوصهم يتفضل المولى الكريم عليهم بكل هذا الثناء في كلامٍ خالد مقدس؛ ثم هو سبحانه وتعالى يخبر الناس بأنه أحلَّ عليهم رضاه، وأنه أعدَّ لهم النعيم المقيم الأبدي في الجنة، وأنهم فازوا بها وصاروا من أهلها؛ يخبرهم بذلك ويبشرهم ولَـمَّا تنقضِ فترة الامتحان وزمن الابتلاء بَعدُ، ويبشرهم بالفوز ولَـمَّا يزالوا في مضمار السباق؟! هذا عينه يمثل كرامة من كرامات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الإنسان لا يدري بمَ يختم له، ولا يدري ما يعرض له، فتأمل!

وإلى ماذا سبق هؤلاء الأوَّلون من المهاجرين والأنصار؟ وما هو هذا الأمر الذي استحقوا عليه تلك البشرى العظيمة؟

إنه السبق إلى ما دعاهم إليه نبينا صلى الله عليه وسلم  من الإسلام وتوحيد الله وما تتطلبه تكاليف ذلك من الأعمال والمشاق. أمرٌ عظيم أنْ تسلخ نفسك من مجتمعك وأسرتك وناديك، من مرابع الطفولة ومغاني الصبا وندوات الكهول، من المساجلات المنحرفة وموائد الخمرة وحوانيت الرذيلة، ثم تلبس ثياب العبـودية والتوحيد وتتجه ببوصلتك نحو السماء، إلى الله تعالى في إخلاصٍ وتجرُّدٍ وانقيادٍ تامٍّ، ومع قوم لا تربطك بهم تلك الروابط المعروفة المألوفة، ما ثَمَّ سوى رابط الفكرة والإيمان، أيّاً كانت الأعراق وأيّاً كانت الأعراف.

أنْ تقف بمفردك (ربما) أو مع نفر قليلين لتواجه تياراً جارفاً، بل طوفاناً هادراً من المعتقدات الباطلة والنظم المنحرفة والتقاليد الممجوجة التي زينها لهم الشيطان فعظموها وقدَّسوها ودانوا بها ودافعوا عنها... إنه شيء عظيم!

وهكذا كان الصحابة الكرام.

والابتداء والتأسيس في الدعوات من أشقِّ الأمور على النفس؛ فهو شاق جداً من جهة الشعور بالغربة والاختلاف والتباين في الاتجاهات، ونزع النفس من مألوف العادات والأعراف وسلخها من ثياب العصبية والحمية الدنيوية.

وهو شاق أيضاً من جهة التخالف المؤدي إلى نشوء العداوات وصناعة جوٍّ من التـوتر والمنازعات والمشاحنات، وربما أفضى إلى نشوء الفجوة مع الأحباب والخلان والأصحاب.

وهو شاق جداً لعظم مسؤولية التأسيس؛ إذ لا خبرة مسبقة، ولا أثارة من علم، ولا دعوة شبيهة تقبل المحاكاة، وهنا يُطل القلق برأسه ويتجول الخوف على الدعوة الجديدة في أرجاء النفس، والخوف من الانهزام أمام تكاليفها ومشاقها.

وهو شاق جداً لأن المؤسسين يمثلون قدوات لغيرهم من الذين يأتون بعدهم، فهم يفتحون لهم الباب ويشقون لهم الطريق، ويمثل تراجعهم نكسةً لهذه الدعوة الناشئة، ربما لا تستطيع التعافي من آثارها، وإخفاقاً على المدى البعيد يلقي بظلاله السيئة على الذين يريدون أنْ يسلكوا هذه الطريق يوماً مَّا.

ولأجل تقريب صورة المعاناة والمشقة اللتين لحقتا بالصحابة الكرام سأورد لك أثراً أخافني لـمَّا سمعته أول مرة، وما يزال محل انتباهي إلى هذه اللحظة: عن جبير بن نفير قال: «جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لوددنا أنَّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. فاستُغضب، فجعلت أعجب، ما قال إلا خيراً! ثم أقبل إليه، فقال: ما يحمل الرجل على أنْ يتمنى محضراً غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  أقوامٌ كبهـم الله على مناخرهـم في جهنم لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أوَ لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصـدقين لما جاء به نبيكـم، قد كُفيتم البلاء بغيركم، والله لقـد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم  على أشد حال بعث عليهـا فيه نبـي من الأنبيـاء في فتــرة وجاهلية، ما يرون أنَّ دينـاً أفضـل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَق به بين الحق والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده حتى إنْ كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إنْ هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أنَّ حبيبه في النار»[1].

فتأمل وصف المقداد بن الأسود لمعاناة التكاليف المترتبة على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم  وأنها مزيج من المعتقـدات والمشاعر والجهود التي لا يطيقها كل أحد، بل يرى أنها من البلاء الذي يمتحن فيه الإيمان ويعز فيه الثبات والتمسك بالحق، يقول: «قد كفيتم البلاء بغيركم».

طبقات فاضلة:

والسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا غيرهم من الناس في الهجرة وتحمُّل مشاقها والتغرب عن الوطن وتغيير تعريف الوطن والعصبية والجماعة ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلله تلك الأرواح الطاهرة والنسمات الصادقة هجرت مألوفاتها وتركت ديارها وتخلت عن ذكرياتها من أجل الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم .

والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا غيرهم إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم  وبذل المال والدار والسلاح له، وتسييده عليهم طواعية دون إكراه، وتسليم مجتمع بأكمله إليه ليحكمه بما يشاء، والنزول عن الأعراف السائدة والمفاخر السائرة إلى عرف الإسلام ومفخرة النصرة، فلله تلك الرباع والأموال والدور والمزارع والبساتين والدكاكين التي بذلت للإسلام ونصرة رجل من قريش يسمونه محمداً، هو أجنبي عنهم؛ لكنهم صدقوه وآمنوا به ونصروه.

ولكن أهل العلم اختلفوا في تحديد المدة التي بها يختم من سماهم الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} فمنهم من حدَّها بالصلاة إلى القبلتين؛ أي أنَّ الذين أدركوا الصلاة إلى بيت المقدس هم السابقون، وهو قول أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين[2]؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم  حين هاجر إلى المدينة كان يتجه في صلاته نحو قبلة اليهود (بيت المقدس) وكان على ذلك حتى جاءه الأمر الإلهي بتحويل القبلة إلى الكعبة، وذلك في النصف من شعبان في السنة الثانية من الهجرة، أو على رأس ثمانية عشر شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم [3].

ومنهم من حدَّها بشهود غزوة بدر، كعطاء[4].

ومنهم من حدَّها بشهود بيعة الرضوان في الحديبية، كالشعبي[5]، وهو قول جمهور العلماء واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية[6]، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْـحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، والفتح هنا هو الحديبية، وقد أبانت الآية عن التفريق بين الفريقين.

وقال ابن عطية: «ولو قال قائل: إنَّ السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أنْ انقطعت الهجرة لكان قولاً يقتضيه اللفظ، وتكون ﴿مِنَ﴾ لبيان الجنس»[7]. والهجرة - كما تعلم - انقطعت بفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة. وعليه فيكون الفتح فاصلاً بين السابقين والتابعين بإحسان.

ومنهم من لم يحدها بمدة؛ وإنما حدها بالوصف، فكل صحابي هو سابق تشمله الآية؛ فعن أبي صخر حميد بن زياد الخراط قال: «قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وإنما أريد الفتن. فقال: إنَّ الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  وأوجب لهم الجنة في كتابه؛ محسنهم ومسيئهم. قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرأ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ}الآية؟ أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم. قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أنْ يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب»[8].

والفخر الرازي كذلك لم يحدها بمدة وإنما بالوصف؛ فهو يرى أنَّ كل من سبق إلى الهجرة وكل من سبق إلى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم  فهو مقصود في الآية، فيقول: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة، وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبيِّن أنهم سابقون في ماذا، فبقي اللفظ مجملاً، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة، فوجب أنْ يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ. وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة؛ من حيث إنَّ الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أنَّ الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»[9].

وقول الرازي يتفق مـع قول جمهور العلماء وهـو تفسيـر له وتوضيـح لحيثيـاته، علـى أنَّ الذيـن حدوهــا بمدة، لا باعتبـار فضيلـة الوقــت، وإنـما بما تضمنـه من الأعمـال العظيمـة كالإنفــاق والقتــال فـي سبيـل الله، لذلـك قـال تعالى في الآية: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ولهذا قال ابن تيميـة: «والسابقون الأولـون هـم الذيـن أنفقـوا من قبل وقاتلوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية، فإنه كان أول فتح مكة»[10].

كلهم صفوة:

أتدري ما الذي كان يؤرق المعمَّرين من أصحـاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟

كانوا يتأولون قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20]. ولذلك تورَّع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من الطيبات من المآكل والمشارب وتنزه عنها لأجل هذه الآية[11]، على الرغم من كون هذه الآية صريحةِ الخطاب في الكافرين. أما عبد الرحمن بن عوف فقد أُتِي بطعام وكان صائماً، فقال: «قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفِّن في بردة؛ إنْ غطي رأسه بدت رجلاه، وإنْ غطي رجلاه بدا رأسه، وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أنْ تكون حسناتنا عجلت لنا» ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام[12].

وكان يؤرقهم قول سمعوه من حبيبهم صلى الله عليه وسلم  عن مصير بعض أصحابه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «لَيَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصيحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك»[13].

وهذا الحديث رواه أيضاً ابن عباس وابن مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه بألفاظ متقاربة.

لقد كان لهذين النصين تأثير عجيب في خوف الصحابة الكرام من سوء المنقلب، عن طارق بن شهاب قال عادت خباباً [يعني: ابن الأرت] بقايا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم  فقالوا: أبشرْ أبا عبد الله؛ ترد على إخوانك الحوض، فقال: «وعليها رجال، إنكم ذكرتم لي أقواماً، وسميتم لي إخواناً مضوا لم ينالوا من أجورهم شيئاً، وإنا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما نخاف أنْ يكون ثوابنا لتلك الأعمال»[14].

هذا ما يختلج في صدورهم ويطفو على قلوبهم وتفيض به ألسنتهم، لكنهم في حقيقة الأمر هم خير الناس وأفضلهم، فقد زكَّاهم الله تعالى في كتابه كما مر معك، وزكاهم نبيه صلى الله عليه وسلم  في كثير من الأحاديث، بصور مختلفة، فربما أثنى عليهم جميعاً، وربما أثنى على جزء منهم، وربما أثنى على أفراد منهم حسب ما اقتضاه الحال حينها.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «خير الناس قرني»[15] وهذه الشهادة العظيمة بأفضليتهم بعد الأنبياء رواها عدد من الصحابة، منهم ابن مسعود وعمران بن حصين وعائشة وأبو هريرة وعمر بن الخطاب والنعمان بن بشير وبريدة الأسلمي، وهي مخرَّجة عند الشيخين والإمام أحمد والترمذي وابن ماجة. قال الحافظ ابن حجر: «والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث: الصحابة»[16].

وحين أراد عبيد الله بن زياد والي يزيد بن معاوية التقليل من شأن أحدهم، وهو عائذ بن عمرو رضي الله عنه، قال له في حوار بينهما: اجلس فإنما أنت مِن نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . فقال له عائذ بن عمرو رضي الله عنه على سبيل الاستنكار والتقريع: «وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم»[17]. وابن زياد يريد القول بأنك لست من فضلائهم وعلمائهم وأهل المراتب منهم، بل من سقطهم، لكن عائذ بن عمرو أجابه بأنَّ الصحابة ليس فيهم نخالة، فكلهم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم، وكلهم عدول قدوة لا تخليط فيهم ولا منهم[18].

وعلى الرغم من أنَّ عائذ بن عمرو من أهل بيعة الرضـوان، الذين أثنـى الله عليهم ورسوله ثناء مخصصاً، إلا أنه لم يدافع عن نفسه فحسب، بل دافع عن كافة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  لأنه يعتقد وجوب ذلك ودينـاً يدين الله تعالـى به، وهو مقتضى أصول الشريعة؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  نهى عن التعرض للصحابة الكرام بما ينقص من قدرهم، فقال: «لا تسبوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفـق مثل أحـد ذهبـاً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه»[19]. وفي نصٍّ أكثر حساسية قال صلى الله عليه وسلم : «احفظوني في أصحابي»[20].

حقيقة الانتقاص:

على الرغم من أنَّ عائذ بن عمرو من أهل بيعة الرضوان، إلا أنه لم يسلم من الإيذاء والانتقاص ممن لا يعرف للصحابة قدرهم وفضلهم في الإسلام، حتى صار حبهم والترضي عنهم والدعاء لهم والثناء عليهم وتفضيلهم على سائر الناس بعد الأنبياء.. حتى صار ذلك باباً من أبواب الأصول العلمية التي يتميز بها مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، وعدَّ أئمة السنة من يخالف ذلك ضالاً منحرفاً.

قال ابن تيمية: «وهذا هو أصل مذهب الرافضة؛ فإن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودسَّ إلى الجهَّال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان، ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقـة؛ فإنه يكون الرجل واقفاً ثم يصير مفضلاً ثم يصير سباباً ثم يصير غالياً ثم يصيـر جاحداً معطلاً، ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق، فإنَّ القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدحٌ في الرسول صلى الله عليه وسلم  كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: (هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء؛ كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين. وأيضاً؛ فهؤلاء الذين نقلوا القرآن والإسلام وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين نقلوا فضائل عليٍّ وغيره، فالقدح فيهم يوجب أنْ لا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذٍ فلا تثبت فضيلة لا لعلي ولا لغيره)»[21].

وبهذا يُعلم أنَّ هذا المسلك البدعي يفضي إلى هدم بناء الإسلام وإلى تقويض رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فلا تعجب حينئذٍ من كون القرآن العظيم يعرِّف محمداً صلى الله عليه وسلم  من خلال ثنائه على أصحابه الكرام في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

وإنَّ من واجبات التربية الإسلامية أنْ تُضمِّن مقرراتها معرفة قدر الصحابة الكرام وفضلهم وسابقتهم وخيريتهم لتتنشأ الأجيال على هذا الأصل العظيم ولترتبط بتاريخها الأصيل ولتحقق الانتماء لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم  ولتتشكل هويتها وَفْقاً لذلك، ولتكون قادرة على رفض كل دعوة تغضُّ من شأن الصحابة أو تتهمهم أو تنبذهم، رفضاً وجدانياً واستنكاراً باللسان والقلم في المجالس والمجامع والمدونات. جمعنا الله وإياك بهم في جنات عدن!


 


[1] مسند الإمام أحمد (23810).

[2] المحرر الوجيز: 5/75.

[3] البداية والنهاية: 4/31.

[4] تفسير البغوي: 2/318.

[5] تفسير البغوي: 2/318.

[6] منهاج السنة: 2/26.

[7] المحرر الوجيز: 5/75.

[8] موسوعة التفسير المأثور: 10/600، رقم (33372).

[9] التفسير الكبير: 6/134.

[10] الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص189.

[11] تفسير ابن كثير: 7/284.

[12] البخاري (4045).

[13] البخاري (6582).

[14] مسند الحميدي: 1/239.

[15] البخاري (2652)، ومسلم (2533).

[16] فتح الباري: 7/8.

[17] مسلم (4710).

[18] انظر: شرح النووي على مسلم: 12/420.

[19] البخاري (3783)، ومسلم (2537).

[20] ابن ماجه (2363).

[21] الفتاوى الكبرى: 4/446.

أعلى