التراث... كإشكالية حضارية

التـراث مكوِّن أساسي للهوية، والهوية معبِّرةٌ عن التراث وناقلةٌ عنه، والأمم تُعرَف بهويتها التراثية التي تجسدها الثقافة والحضارة والمحافظة على التراث بأشكاله وأنماطه وتجلياته المتعددة


التراث كلمة عربية أصيلة، يقول المعجم اللغوي عنها: إنها مبدلة من إراث، المبدلة من وارث. ويفسرها بأنها تطلق على كل ما خلَّفه لنا السابقون علينا ووصل إلينا، غير أننا اعتدنا في حياتنا الفكرية أن نطلقها على ما خلَّف السابقون من فكر وعلم وفن وقيم، وكثيراً لا نريد إلا الآداب والفنون والمأثورات الشعبية[1].

التراث رصيد إنساني متراكم يُعَدُّ ثروة الأمة ورصيدها الذي لا ينضب وجذور وجودها، والتراث مصدر معرفي وحضاري يُنهَل منه ويُبنَى عليه.

والتراث العربي الإسلامي ثروة إنسانية حضارية أغنت المعرفة الإنسانية عبر العصور والتاريخ الفكري والثقافي والأدبي والعلمي للأمة، وهو مصدر اعتزازها ومنهل ديمومة تميزها وفرادتها وأصل هويتها؛ فهو زاخر بالعلوم والمعارف والآداب والفنون، وهو قَوام الحضارة العربية الإسلامية التي تلاحقت فيها عطاءات العرب والفرس والروم والهنود والترك والأفارقة وغيرهم من الأعراق والأجناس وأهل الأديان والمذاهب والملل، لتشكل منظومة متكاملة من القيم والمثل والمبادئ وأنواع الإبداع الإنساني في شتى حقول المعرفة.

وبذلك فإن التـراث مكوِّن أساسي للهوية، والهوية معبِّرةٌ عن التراث وناقلةٌ عنه، والأمم تُعرَف بهويتها التراثية التي تجسدها الثقافة والحضارة والمحافظة على التراث بأشكاله وأنماطه وتجلياته المتعددة[2].

التراث يشكل أحد أركان الهوية الثقافية للشعوب والأمم، ويمكن القول: إنه يشكل المضمون الثقافي لهوية الأمة أو المجتمع، فهو المخزون النفسي لدى الجماهير والطاقة الحيوية الوجدانية للأمة. يشكِّل التراث نواة الهوية العربية ويرسم حدودها، ومن هنا يجب الاهتمام بدراسة هذا التراث وحمايته وتأصيله وتعميق دلالته في اتجاه بناء الهويات الوطنية والثقافية[3].

اعتُبِر التراث العربي رديفاً للماضي، وهذا الماضي اعتُبِر رديفاً للتخلف والانحطاط، ومرة مصدراً للاعتزاز وللفخار. وبذلك رأى بعض الباحثين أن التقدم مشروط بتجاوزه، والابتعاد عنه. ورأى بعض آخر أن التراث هو النموذج الذي علينا أن نحتذيه لنسترجع المكانة التي كانت لنا في الماضي، والتي تحققت لنا بواسطته[4]. وهنا يمكن القول: إن التراث يوحد ولا يفصل، كما هو حال الأيديولوجية التراثية والفكر الرسمي الذي يشكِّل في كثير من الأحيان عاملاً من عوامل التفكك والاندحار. وهنا أريد الإشارة إلى الدور العظيم الذي لعبته القصص التراثية الأسطورية مثل قصة عنترة بن شداد، والزير سالم، وسيف بن ذي يزن، وتغريبة بني هلال... إلخ؛ إذ كانت هذه القصص - وما زالت - من بين أهم العنـاصر في تشكيل الهوية العربية من المحيط إلى الخليج[5].

ولأن التراث كائن تاريخي فإن أصحابه يتغربون عنه، أو يتغرب هو عنهم، ليس بوصفه مفهوماً فحسب، ولكن في التجليات اللغوية لهذا المفهوم؛ سواء منها التجليات الرئيسة مثل لفظ (تراث) نفسه، أو الألفاظ الفرعية التي تندرج تحت هذا اللفظ وتدور في فلكه.

إن اغتراب الناس عن تراثهم يَلحَقُه بالضرورة اغترابهم عن مصطلحات هذا التراث، ومن مظاهر هذا الاغتراب اتساع إهاب اللفظ ليحتوي داخله عدداً من المفاهيم التراثية، ولا يقف الأمر عند فضفضة الثياب اللغوية (الألفاظ)؛ بل يتجاوزها إلى اختزال مضامين هذه الألفاظ وابتسارها، وهو ما يعني اختفاء بعض المفاهيم أو غيابها، ومن ثَمَّ عدم الالتفات إليها، سواء من جهة الوعي، أم من جهة التوظيف.

وعلى الرغم من أن التراث هو الإشكالية الكبرى في حياتنا الثقافية والأدبية والنقدية والعلمية، وإن شئت الحضارية، فإن ما كتب عن مفهومه وحدوده قليل جداً، ولا تكاد تجده إلا في ثنايا بحثٍ، أو حواشيه، ويعود ذلك إلى أن اللفظ/ المصطلح شاع كثيراً، حتى غام على المتخصص، بله المثقف العام[6].

ومن شأن تأريخ الوعي بالتراث والمعرفة الدقيقة بمساراته وتحولاته أن يقفنا على مسار الوعي العربي عامة، ويزودنا بالرؤية الكلية له، التي ربما أدى غيابها إلى خلل في بعض الاستنتاجات والتأويلات؛ خاصة فيما يتعلق بسياقات العودة إلى التراث وقراءته في الخطاب العربي المعاصر، وبسؤال النهضة والعلاقة بالآخر[7].

وعلى الرغم من أن الإنسانية لا تملك أن تتحرر في الوقت الراهن من ضغوط العولمة الكاسحة للهويات والطامسة للخصوصيات والجارفة للتراث، بل الساعية إلى محوه؛ نظراً لحاجتها الشديدة إلى مسايرة النظام العالمي في اتجاهاته الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ومواكبة المتغيرات الدولية في هذه المجالات جميعاً، فإنها تستطيع إيجاد تيار ثقافي إنساني مضاد يقف في مواجهة روح الهيمنة التي تنطوي عليها هذه العولمة فكراً ونظاماً وتطبيقاً وممارسة[8].

 


 


[1] د. حسين نصار، (التراث عند طه حسين)، مجلة (تراثيات)، القاهرة، عدد 17، يناير 2015م.

[2] د. خالد عزب، (التراث والهوية : أبعاد العلاقة)، (مستقبل التراث.. بحوث ومداخلات المؤتمر الدولي الأول «نحو خطة شاملة للتراث الفكري العربي»،1 - 2 ديسمبر 2010م، تنسيق وتحرير د . فيصل الحفيان)، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 2011م.

[3] خالد عزب، مرجع سابق.

[4] د. سعيد يقطين، (السرد العربي : مفاهيم وتجليات)، ص21، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط، 1، 2012م.

[5] خالد عزب، مرجع سابق.

[6] د. فيصل الحفيان، (التراث: ضبط المصطلح وبناء المفهوم)، (مستقبل التراث)، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 2011م.

[7] د. معتز الخطيب (تحولات الوعي بالتراث مفهوماً وتاريخاً)، (مستقبل التراث).

[8] خالد عزب، مرجع سابق.

 

 

أعلى