أثبتت المقاومة الفلسطينية أن الأسلحة الحديثة ليست كافية في حَسْم الصراع، وأن ما يسميه البعض بـ«اللامتكافئة الإستراتيجية» قد أصبح، في لحظة تاريخية نادرة، في صالح الطرف الذي يمتلك الإرادة والرؤية ولو افتقر إلى التقنية الفائقة
قد لا تكون لحظات التحوُّل في التاريخ ناتجةً عن حروب طاحنة أو مؤامرات كبرى، بل
كثيرًا ما تنبع من حدث واحد، يضرب في عمق الأساطير المُؤسِّسة لكيانات سياسية أو
حضارية، فيهزّ يقينها، ويُعيد ترتيب الوعي بالذات أولاً، ثم العدوّ.
ولعل ما جرى في السابع من أكتوبر 2023م
-فيما اصطُلِحَ عليه لاحقًا بـ«طوفان
الأقصى»-
هو من هذا القبيل؛ إذ كشَف الحدث عن تصدُّعات بنيوية في المنظومات الأمنية
والعسكرية والثقافية لكيانات كانت تتباهى بقوتها وتفوقها على دول المنطقة.
أسطورة بيت العنكبوت: من المجاز إلى الواقع
لم يكن أحد يتوقع أن تكون شباك بيت العنكبوت أشد صلابة من شبكات العدو الصهيوني
العسكرية والأمنية حين تهاوت أمام ضربات ثُلَّة مؤمنة من المقاومة الفلسطينية،
فاخترقت جُدرهم، وأقبرت المئات من جنودهم، ناهيك عن أَسْر العشرات، ثم عادت سالمة.
فكانت لحظة الانكشاف في صباح السابع من أكتوبر، حين اجتاز المقاومون الفلسطينيون،
بأدوات بدائية نسبيًّا، أعقد منظومات الحماية الحدودية التي أنفقت عليها إسرائيل
مليارات الدولارات، وتبيَّن أن مجاز أن «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت» كان أكثر
واقعية من كلّ تقارير الاستخبارات.
لقد تمكّنت تلك الثُّلة المؤمنة، من اقتحام الحدود، وتدمير مواقع عسكرية، وأَسْر
جنود، والعودة إلى مواقعها، فيما كانت المؤسسات الأمنية الإسرائيلية في حالة من
الشلل المعرفي والإستراتيجي. لم يكن ذلك فشلاً ميدانيًّا فحسب، بل انكشافًا
بنيويًّا لصورة إسرائيل التي روّجت لنفسها لعقودٍ بوصفها «القلعة العسكرية
والأمنية» صاحبة الأذرع الطويلة في المنطقة.
لطالما تفاخَر العقل العسكري الإسرائيلي -ومن خلفه الغربي- بتفوقه التكنولوجي،
معتمدًا على مبدأ أن التفوق العددي لا يهمّ حين تملك السيطرة الإلكترونية
والمعلوماتية. لكن ما لم تدركه هذه المنظومات أن الإنسان، لا التكنولوجيا، هو مَن
يمنح للأداة معناها وسياقها. فقد سقط «الجدار الذكي»، وانكشف عمى الرؤية وسط ضجيج
المستشعرات، تمامًا كما سقطت «القبة الحديدية» تحت فَيْض صواريخ المقاومة.
لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أن الأسلحة الحديثة ليست كافية في حَسْم الصراع، وأن
ما يسميه البعض بـ«اللامتكافئة الإستراتيجية» قد أصبح، في لحظة تاريخية نادرة، في
صالح الطرف الذي يمتلك الإرادة والرؤية ولو افتقر إلى التقنية الفائقة.
إيران والسراب الإمبراطوري
لم يكن الانكشاف مقصورًا على «إسرائيل» وحدها، بل شمل أيضًا إيران؛ تلك الدولة التي
ما انفكَّ قادتها يعلنون -منذ قيام الثورة الخمينية- أن لديهم مشروعًا موازيًا
للغرب، وأنهم ينسجون خيوط القوة من بغداد إلى بيروت. لكن حين بدأ العدو الصهيوني في
تصفية القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين -بل ونجح في اغتيال رئيس
الأركان «غلام علي رشيد»، ثم خَلَفه «علي شادماني» في أيام معدودات؛ بدَت علامات
الانكشاف، والذي كان من إرهاصاته تبخُّر قوة حزب الله الذي طالما استطال على
المستضعفين في سوريا فسَامهم العذاب والقتل، كذرات دخان بالية، ولم يبقَ من قيادته
وقوته إلا القليل.
لقد كشفت واقعة الجاسوس «علي رضا أكبري»، نائب وزير الدفاع السابق، هي الأخرى عن
عمق هذا الاختراق، لا بوصفه حالة فردية، بل بوصفه مؤشرًا على اختراق في بنية الوعي
والنظام نفسه. فالكيان الذي يُروِّج لنفسه بأنه ضد الاستعمار الصهيوني، يجد نفسه
ضحية لاختراقات مماثلة لتلك التي طالما وصَم بها الأنظمة التابعة.
الولايات المتحدة وتآكل الهيبة
أما الولايات المتحدة -الطرف الثالث في هذا الانكشاف-؛ فهي لم تَعُد تُمثّل القوة
الإمبراطورية القديمة إلا من خلال شبكات الإعلام ومؤشرات الاقتصاد. ففي اليمن، على
سبيل المثال، لم تستطع واشنطن، ومعها تحالف دولي، أن تُخْضِع جماعة مسلحة تتبنَّى
خطاب ما دون الدولة «الحوثيين». وعندما طالت الصواريخ الحوثية السفن في البحر
الأحمر، لم يكن أمام أمريكا إلا أن تُعلن -بعد شهور من التهديد- أنها توصَّلت إلى
تفاهم «لعدم التعرُّض»، وهو اعتراف ضِمْني بالعجز وليس بالحكمة.
ولعل الانسحاب من أفغانستان عام 2021م، بكل ما حمله من مشاهد الفوضى والذل، قد
شكَّل البروفة الكبرى لانكشاف القوة الأمريكية، لكنّ ما جرى بعدها في الشرق الأوسط،
بدءًا من غزة وليس انتهاءً بطهران، أكَّد أن لحظة الانكشاف لم تكن استثناءً، بل
كانت جزءًا من مسار تراجعي ممتد.
لحظة الانكشاف
نحن لا نعيش فقط لحظة صراع مسلح، بل لحظة تفكُّك للأساطير المُؤسِّسة. إسرائيل،
التي قامت على وَهْم التفوُّق العِرْقي والعِلْمي، اكتشفت أن التفوق لا يصمد أمام
مقاتل يملك الإيمان والبوصلة. وإيران، التي بنت سرديتها على مقاومة الإمبريالية،
وقعت في شرك اختراقاتها. وأمريكا، التي لطالما احتكرت مشهد «صناعة القرار العالمي»،
بدأت تفقد القدرة على التحكُّم في الأطراف.
لكنّ الخطر الأكبر لا يكمن في قوة الآخر، بل في الاستبطان النفسي لضعف الذات. لقد
تم إقناعنا، عبر عقود من التغريب السياسي والثقافي، أننا أقل شأنًا، وأدنى قدرة،
وأننا لا نملك من أدوات الفعل إلا الشكوى أو التبعية!
ومع انكشاف الآخر، حان وقت انكشاف الذات؛ أن نُدرك أن ضعفنا ليس حقيقيًّا، وأن
إمكاناتنا -حين تُوظَّف بإرادة واعية- يمكن أن تُغيِّر المعادلة.
إن الخروج من تقسيم «سايكس-بيكو» وتقزيمها لا يكون فقط عبر وحدة الجغرافيا، بل
أولاً عبر وحدة الوعي. فالطريق إلى التحرُّر ليس عبر مقاومة العدو فقط، بل عبر
تحرير الذات من عقدة النقص، واستعادة الثقة في مشروع حضاري يربط بين العقيدة،
والكرامة، والإرادة، فالانكشاف الحقيقي هنا، بعد كل تلك الأزمات التي مرَّت وتمر
بها الأمة، هو أن ضعفنا وَهْم، وقوتهم مُتوهَّمة.