النصر في القرآن يحمل معاني متعددة: عطاء من الله للمؤمنين، ثابت بالإيمان والصبر، دعم للمستضعفين، ردع للظالمين، وتحقيق التماسك الاجتماعي. هو التغلّب على الشر وإعلاء كلمة الله، وإرساء الخير والأمن، كما تجلّى في معارك المسلمين التاريخية والحالية.
تتعدد دلالة كلمة (النصر) في اللغة في ضوء سياقها في القرآن الكريم، بما يُعزّز من
تحديد مفهوم النصر ومقوماته وأنماطه.
فمادة (نصر) في اللغة تدلّ على إيتاء الخير أو إتيانه؛ فنَصَر اللهُ المسلمين؛ أي
آتاهمُ الظّفرَ على عدوِّهم، تقول: نصرتُ بَلَد كذا؛ إذا أتيتَه[1].
وهذا المعنى يفيد بأن النصر عَطِيّة من الله -تعالى-، يخص به عباده المؤمنين، كما
قال الله -تعالى-: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ}
(الرُّوم: 47)؛ أي: لزامًا علينا إيتاءَهم النصر على عدوهم. وفي المصدر (حقًّا)
دلالة على تأكيد النصر لعباد الله المؤمنين[2].
وربما يتبادر إلى أذهاننا سؤال: هل النصر يقتصر على المؤمنين فحسب؟
سياق الآية يشير -بوضوح- إلى أن النصر يخصّه الله بعباده المؤمنين، ولكن ذلك لن يتم
إلا بتقديره -سبحانه-؛ فربما يتأخر النصر لحكمةٍ يريدها الله -تعالى-؛ بأنْ تُنقَّى
صفوفهم، وأن يزيدهم إيمانًا وثباتًا، كما قال -تعالى-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ
اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]؛ فَهُم أصابهم ما أصاب الأمم مِن قبلهم مِن أنواع
المضارّ؛ الفقر والأمراض، والتهديد بالقتل، والنفي وقتل الأحبة، وأخذ الأموال، حتى
وصل بهم الحال أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به؛ فكان الفرج بعد الشدة بأن وعدهم
بالنصر القريب[3]؛
«وهكذا
كلّ مَن قام بالحق فإنه يُمتَحَن؛ وكلما اشتدت عليه وصعبت إذا صابَر وثابَر على ما
هو عليه؛ انقلبت المِحْنَة في حقه مِنْحَة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك الانتصار
على الأعداء، وشفاء ما في قلبه من الداء»[4].
يتضح مما سبق أن النصر يُؤتيه الله عباده المؤمنين، ولا يتحقّق إلا بالإيمان الصادق
-بالله- الذي لا يتزحزح صاحبه مهما تعرَّض للمِحَن والمصائب.
والنصر أرض خصبة، تنبت وتزهر بالإيمان بالله، وتثمر بالتقرب إليه، كما قال الله
-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]؛ فكلما ابتعد الناس عن الله؛ ابتعد عنهم
النصر؛ وحينما يقتربون منهم قليلاً في معركتهم، ويتذكرون النشيد العلوي الذي كان
أسلافهم يهتفون به من قبل؛ نشيد (الله أكبر)؛ فإنهم يضعون أقدامهم على طريق النصر[5].
وفي معارك المسلمين مع أعدائهم التي تُوِّجَت بالانتصارات العظيمة ما يُؤيِّد هذه
الحقيقة؛ فقد أرسل
«هرقل»
مَن يتجسَّس على المسلمين؛ فلما رجع قال له الرسول:
«جِئْتُكَ
مِنْ عِنْدِ رِجَالٍ دِقَاقْ، يَرْكَبُونَ خُيُولًا عِتَاقْ، أَمَّا اللَّيْلُ
فَرُهْبَانْ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَفُرْسَانْ، يَرِيشُونَ النَّبْلَ
وَيَبْرُونَهَا، وَيُثَقِّفُونَ الْقَنَا، لَوْ حَدَّثْتَ جَلِيسَكَ حَدِيثًا مَا
فَهِمَهُ عَنْكَ؛ لِمَا عَلَا مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ. قَالَ:
فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: أَتَاكُمْ مِنْهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَكُمْ
بِهِ»[6].
والنصر هو الغيث والمطر؛ فيقال: أرض منصورة؛ أي: التي سُقِيَتْ بالغيث والمطر،
والغيث ينصر البلاد؛ أي: سقاها وأَنبتها وأَعانها على الخِصْب والنبات[7]؛
فتزدان الأرض بالخضرة والثمر؛ ويستبشر الناس؛ وكذلك النصر على الأعداء؛ يشفي صدور
قوم مؤمنين، ويسود العدل، ويعيش الناس في أمن وأمان ورخاء، كما قال الله -تعالى-:
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ
*
بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ}
[الرُّوم: 5-6].
وثمة إشارة لطيفة تدلّ عليها لفظة (نصر) في الآية؛ وهي أن النفوس التي سُقِيَتْ
بنور الإيمان، وانتصرت على الهوى والشيطان؛ هي أَوْلَى بالابتهاج والفرح بالنصر
والتمكين في الأرض.
والنصر هو الانتقام للمظلومين من الظالمين، وانتصر الرجل إذا امتنع من ظالمه[8]،
كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]؛ فهو إشعار من
الله -تعالى- بالانتقام لعباده المؤمنين، وإظهار كرامتهم؛ حيث جعلهم مستحقين على
الله أن ينصرهم[9].
وقال الله -تعالى-: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
[الأنبياء: 77]؛ أي: انتقمنا له.
وقوله -سبحانه-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48)؛ فلا دافع لهم من عذاب يوم القيامة، وأنهم إذا
عُذِّبُوا لم يجدوا من ينتقم لهم[10].
وقال الله -تعالى- مخبرًا عن نوح -عليه السلام- في دعائه على قومه: {فَدَعَا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]؛ أي:
«إني
ضعيف عن مقاومتهم؛ فانتصر أنت لدينك»[11].
والنصر عون للمستضعفين؛ فنصره الله؛ أي: ساعده وأعانه، وفي الحديث قال النبي -صلى
الله عليه وسلم-:
«انصر
أخاك ظالمًا أو مظلومًا»[12]؛
أي: يمنعه من الظلم إن وجده ظالمًا، وإن كان مظلومًا أعانه على ظالمه؛ فليت قومي
يعلمون كيف ينتصرون؟! أبنُصْرَة المظلومين وإعانتهم بالسلاح والرجال؛ أم بالركون
للظالمين والخضوع لهم؟!
والنصر هو التآزر والتماسك؛ فتناصر القوم؛ أي: نصَر بعضهم بعضًا، والنواصر هي
مَجاري الماء إِلى الأَودية التي تجيء من مكان بعيد حتى تقع في مُجْتَمع الماء حيث
انتهت، ولأَن كل مَسِيل يَضِيع ماؤه فلا يقع في مُجتَمع الماء فهو ظالم لمائه[13].
ومنه سُمِّي الأنصار من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لأنهم آووا النبي #، وأعانوه على
إظهار الإسلام.
* * *
يتبين مما سبق؛ أن القراءة اللغوية لكلمة (النصر) في ضوء سياقها القرآني تشير إلى
معانٍ جديدة؛ منها:
- أن النصر لا يتحقّق إلا بالإيمان الصادق بالله، وإعلاء كلمة الله -سبحانه-.
- أن النصر يقوم على العطاء، وفِعْل الخير وإتيانه.
- أن النصر عَوْن للمستضعفين، وردع للظالمين.
- أن النصر يتحقق بالتماسك والإخاء بين أفراد المجتمع.
وخلاصة القول: إن مفهوم النصر هو التغلُّب على قوى الشر وإخضاعهم وإزالتهم؛ لإعلاء
كلمة الله -تعالى-، ونشر الخير والأمن والسلم في المجتمع.
وهذا المفهوم يتجسَّد في معركة المسلمين مع اليهود منذ عهد النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وإلى وقتنا الحاضر، فعلى الرغم ممَّا يتعرَّض له أهلنا في فلسطين مِن قتل
وأَسْر ومحاولات تهجير؛ إلا أنهم ثابتون في أرضهم، واثقون بنصر الله -تعالى-.
[1] يُنظَر: ابن فارس، أبو الحسين، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبدالسلام هارون، دار
الفكر، بيروت، 1399ه، ج5، ص348.
[2] يُنظَر: الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير، دار إحياء التراث، بيروت، ط3،
1420ه، ج25، ص108.
[3] يُنظَر: السعدي، عبدالرحمن، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق:
عبدالرحمن اللويحق، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420ه، ص96.
[4] المرجع نفسه.
[5] ينظر، الطنطاوي، علي، قصتنا مع اليهود، دار المنارة، السعودية، ط1، 1411ه، ص29-
30.
[6] يُنظَر: ابن كثير، أبو الفداء، البداية والنهاية، دار إحياء التراث العربي،
بيروت، ط1، 1408ه، ج7، ص19.
[7] يُنظَر: ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1414ه، ج 5، ص 210.
[8] يُنظَر: المرجع نفسه.
[9] يُنظَر: البيضاوي، أبو سعيد، التفسير، تحقيق: محمد المرعشلي، دار إحياء التراث
العربي، بيروت، ط1، 1418ه، ج4، ص209.
[10] يُنظَر: الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير، سابق، ج3، ص495.
[11] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، سابق، ج7، ص87.
[12] رواه البخاري عن أنس بن مالك.
[13] ينظر: ابن منظور، لسان العرب، سابق، ج5، ص 210.