• - الموافق2025/07/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تربية مرتَّلة

إنَّ التربية رحلة مُضنية، تطوي السنين والأجيال، حتى تصل إلى غاياتها الحقيقية، وليست نُزهة مؤقَّتة ينتظر فيها المربون نتائج غرسهم.


من أكثر الأسئلة التربوية حضورًا في العقد الأخير: سؤال الثبات والتراجع؛ وذلك لوجود عددٍ من العوامل التي أفضت إلى تساقط البعض وتراجع آخرين. عافانا الله وإياكم، وهدانا إلى صراطه المستقيم.

ويأتي في مقدمة هذه العوامل: ضَعْف الإيمان في القلب.

ومنها أيضًا: قوة الفتنة التي تُعرَض اليوم على شباب الإسلام عرضًا؛ من دعوات إلى الانحلال والإلحاد، واللهو والرذائل، ونبذ الإسلام، وعبودية الشهوات والملذات.

ومنها أيضًا: الدعوة إلى تسيُّد العقل على النصوص الشرعية، بشكل أو بآخر، والتزهيد في تراثنا الإسلامي الرصين، والدعوة إلى إعادة تفسيره.

وتجد هذه الدعوات احتفاءً ودعمًا لا يَخفيان على ذي بَصر، وليس المقصود هنا تتبُّع هذه المسألة، وإنما أردت الإشارة إلى أنَّ هذه العوامل وغيرها مجتمعةً أفضت إلى زعزعة داخل أبناء الدعوة الإسلامية، ومن منا سلم؟! إلا مَن سلَّمه الله تعالى.

والحق أن ثُلَّة بقيت متمسكة بهُويتها، محافظة على هديها، مستقيمة على دينها، وهي تجاهد نفسها تارة، وتارة تجاهد كلّ هذا المكر الذي يَحُفّ بها بغيةَ اقتلاع جذور الإيمان في وجدانها وسلوكها، والله وحده المسؤول أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يُثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وفي هذه المقالة، أودّ أن أُشير إلى واحد من عوامل التثبيت على دين الله تعالى، عامل واحد لكنّه الأقوى والأعمق تأثيرًا، وهو عامل اختاره الله –تعالى- لتثبيت نبيّه -صلى الله عليه وسلم- أمام ما يُواجهه من محاولات القوم لحَرْفه عن بوصلته الرسالية؛ قال الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا ٣١ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا ٣٢﴾[الفرقان: 31- 32].

فهنا عدوّ مُجرِم يرصد للنبي، وإلهٌ رحيمٌ يهدي وينصر، ومن هدايته ونصره أنه أنزَل القرآن مُفرَّقًا طيلة عُمر الدعوة؛ ليُثبِّت النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فسبب الثبات هنا هو عامل الزمن المتمدّد الذي يستغرقه الجهد التربوي.

ولاحِظ العبارة السابقة جيدًا: زمن يتمدّد، وتتخلله جهود التربية.

هكذا أراد الله -تعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يتربَّى، وهكذا أراد الله -تعالى- لصَدْر الأُمَّة أن يتربَّى، ولم يُرِد أن ينزل عليهم القرآن بتوجيهاته وأحكامه وآدابه وقصصه مرة واحدة؛ لأنه لا يكون بذلك مُثبِّتًا لهم.

وحين اقترح المشركون أن يُنزَّل القرآن مرة واحدة في كتاب؛ نبَّه القرآن على أنَّ هذا المقترَح يتنافَى مع ناموس التربية، والذي من طبيعته: وقت طويل وتوجيه متفرّق خلال هذا الوقت الطويل.

قوة الزمن

في قوله تعالى: ﴿وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا﴾؛ تناول المفسِّرون معنى الترتيل، فقال ابن جرير: تنزيله عليك الآية بعد الآية، والشيء بعد الشيء[1]. وقال ابن عطية: الترتيل التفريق بين الشيء المتتابع، ومنه ترتيل القراءة[2]. وقال السعدي: مهَّلناه ودرّجناك فيه تدريجًا[3].

فأنتَ تُلاحظ أن عامل الزمن مُضمَّن في معنى الترتيل؛ فالآية بعد الآية ترتيل، ويلزم منها الزمن، والتفريق بين الشيء المتتابع ترتيل، ويلزم منه الزمن، والتمهُّل والتدرُّج ترتيل، ويلزم منه الزمن.

إذًا الترتيل هنا هو سِرّ التثبيت «لنُثَبِّت به فؤادَك»، أي: أن ترتيل القرآن بمعنى تفريقه وتدريجه وتنزيله في مدة طويلة هو الذي يجعل من التربية القرآنية أقوى نجاحًا وأعمق تأثيرًا، ولذلك استغرق نزول القرآن ثلاثة وعشرين عامًا، منذ مبعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى قُبَيل وفاته. وعلى هذا الفهم كان أهل العلم، ثم فرعوا عليه بعض المعاني المهمة.

قال ابن جريج: لنُصحِّح به عزيمتك ويقين نفسك، ونُشجِّعك به[4]. وفي هذا القول التفاتة إلى بعض مظاهر التثبيت بعامل الزمن، وهي تصحيح العزيمة وتقوية اليقين وتحفيز النفس بـ«الترتيل الزمني».

وقال الواحدي: كذلك أنزلناه مُفرَّقًا لنُقوِّي به قلبك فيزداد بصيرة، وذلك أنه إذا كان يأتيه الوحي متجددًا في كل أمر وحادثة كان ذلك أزيد في بصيرته وأقوى لقلبه[5]. فأنت تقرأ في كلام الواحدي التجدُّد في مسيرة التربية، فلا يعني «الترتيل الزمني» أو الزمن الذي تستغرقه التربية أن يكون آسنًا جامدًا، بل تتجدَّد فيه التربية بحسب ما يستجد في تلك المدة.

والشوكاني يشير إلى تأثير «الترتيل الزمني» في تشكيل المفاهيم وتجلية التصورات من الغَبَش، فيقول: فإن إنزاله مُفرَّقًا مُنجَّمًا على حسب الحوادث أقرب إلى حِفْظك له وفَهْمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت[6]. وما ذكره الشوكاني والواحدي مُهِمّ في إيضاح نقطة مركزية، وهي أن طبيعة التعليم تتطلب وقتًا كافيًا لتحقيق الغاية منه؛ إذ لا تكتمل صورة المفهوم في أول الأمر، بل مع مرور الزمن يزداد المفهوم وضوحًا لأهمية تراكم الخبرات التعليمية في إيضاحه.

متى تنتهي التربية؟

من كلّ ذلك يتشكّل قانون الثبات في التربية الإسلامية: مدة زمنية تطول، وتستغرقها الجهود التربوية. وبالتالي لا معنى لتحديد زمن التربية في مجتمعٍ ما بسَنة أو سنوات قلائل، ولا معنى لتوقُّعنا بتحوُّل هائل في المجتمع جراء الجهود التربوية في وقتٍ قصير، فلربما استغرقت التربية عقودًا من الزمن أو أجيالاً، وقد قصَّ القرآن علينا أن تربية قوم موسى -عليه السلام- استغرقت عشرات السنين، وما استطاعوا القيام بالمهام الرسالية المطلوبة منهم إلا بعد أن قضوا أربعين سنة يتيهون في الأرض، وقد تُوفِّي في هذه المرحلة إمام دُعاتهم موسى -عليه السلام-، وما فتح يوشع بن نون الأرض المقدسة إلا بعد ذلك التيه، في مشهد مهيب وقف فيه الزمان حين وقفت الشمس عن حركتها قبل الغروب، حتى إذا فتح الله عليهم استأنفت مسيرها وغربت. فكم كانت أعمار يوشع بن نون والذين معه في فتح بيت المقدس حين دخلوا في التيه؟ بل كم كانت أعمارهم حين نَجَّى الله -تعالى- بني إسرائيل من فرعون في العاشر من المحرم؟ وكم جيلاً استغرقت التربية في بني إسرائيل حتى أصبحوا -بشكل عام- على قَدْر من المسؤولية الرسالية يمنحهم الفتح؟!

وهكذا كان الحال في أصحاب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكم كان بين مبعثه وبين خضوع الجزيرة العربية له؟!

إنَّ التربية رحلة مُضنية، تطوي السنين والأجيال، حتى تصل إلى غاياتها الحقيقية، وليست نُزهة مؤقَّتة ينتظر فيها المربون نتائج غرسهم.

إنها الزمن الطويل والاجتهاد طوال هذا الزمن الطويل، لا يكفي أن نعلم أننا بحاجة إلى زمن طويل، بل علينا أن نعي أنه يلزمنا جهود مضاعفة خلال هذا الزمن الطويل: جهود في الإدارة، وجهود في التخطيط والتدبير، وجهود في التنفيذ والمثابرة، وجهود في التقويم، وجهود في فَهْم ما نقوم به وفي فهم ما نعيشه من واقع.

تالله إن السنين، والعقود من السنين؛ إن بذلنا فيها نفيس أوقاتنا وربيع أعمارنا وحُرّ أموالنا تربيةً على دين الله، ودعوةً إلى الله فستنتج لنا الأشخاص الثابتين، الذين صَقَلتهم تربية القرآن الطويلة، وعَرَكتهم منعطفات الحياة المتنوعة، فعرفوا حقيقة الدنيا وعرفوا حقيقة الإسلام، فازدادوا إيمانًا ويقينًا، بل ستُنتج لنا المجتمع الثابت الذي يقوم بالدفاع عن دينه ونشر دعوته. هذا أثر الترتيل!

ترتيل التربية وافتراض الزمن الطويل المملوء بالجهود التربوية هو القانون الذي لا تخسر فيه الحسابات، ولا تنحرف به الطريق، فلماذا نستعجل نتائج التربية إذن! ولماذا نظن أن للتربية زمنًا قصيرًا ننتظر انقضاءه!

طائف الشيطان

حين يطول زمن التربية فإنه من المتوقَّع أن تحدث في المجتمع وقائع مختلفة، يكون من شأنها أن تُمثِّل امتحانًا لصقل الإيمان من جانب، وفرصة لتجلية المفاهيم والتصورات من جانب آخر، وهنا يقع ترتيل التربية موقعه من التأثير، فإن المؤمنين مُعرَّضون للابتلاء بالسراء والضراء طوال وقت التربية ليتمّ صَقْل ما خشن منهم بترتيل التربية، كما وقع من بني إسرائيل في حادثة الأنواط والبقرة وغيرهما، وكما حدث لأصحاب محمد في بدر وأُحُد والخندق والإفك، وغيرها.

فلا يُمثِّل كلّ خطأ يقع في زمن التربية تراجعًا أو سقوطًا، بل كثير منها يأتي في السياق الطبيعي. وهذا ما يجب أن يتنبّه إليه المربّون؛ لئلا يظنوا أن جهودهم أُهْدِرت، ولئلا يُصابوا بالإحباط والحزن على ما فاتهم.

نعم! تستحق هذه الظواهر والحالات أن تكون محل دراسة وعناية وملاحظة.

وفي حقيقة الأمر، إن القرآن تعرَّض للذين ينسلخون من الآيات التي أوتوها، وغووا، وأخلدوا إلى الأرض، واتبعوا أهواءهم؛ قال تعالى: ﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ ١٧٥ وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ ١٧٦ سَآءَ مَثَلًا ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمۡ كَانُواْ يَظۡلِمُونَ ١٧٧ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِيۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٧٨﴾ [الأعراف: 175- 178]. عافانا الله وإياكم وثبَّتنا على دينه.

لكنهم -حين تكون التربية في اتجاهها الصحيح-، هم الأقلون، أما الأكثرون ممن نالتهم التربية المُرتلة فينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ ١٥٥﴾ [آل عمران: 155]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١﴾ [الأعراف: 201].


 


[1] جامع البيان: 17/444.

[2] المحرر الوجيز: 4/209.

[3] تيسير الكريم الرحمن: 3/1198.

[4] جامع البيان: 17/446.

[5] التفسير الوسيط: 3/340.

[6] فتح القدير: 4/85.

 

  

أعلى