النبي صلى الله عليه وسلم جسّد الرحمة واللطف مع الأطفال، فالمداعبة والملاعبة تنمّي العقل والجسم، تعزز التواصل الاجتماعي، وتغرس القيم الأخلاقية، ممهّدة لنمو سليم ورفاه نفسي وجسدي، بما يحقق طفولة صحية ومتوازنة.
إذا كان الطفل يحتاج إلى الغذاء الجيّد لكي يتمتع بصحة جيدة، فهو أيضًا يحتاج إلى
المداعبة والملاعبة؛ لكي ينمو بشكل صحي؛ من خلال التواصل الحركي والحسي والعقلي
بينه وبين أقرانه ومُحبّيه، مما يزيد من قدراته العقلية والفكرية وتحصيله الدراسي.
وليس أدلّ على أهمية المداعبة والملاعبة مما كان عليه نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان يُمازح الأطفال، ويُلاعبهم، فمن مكارم أخلاقه
وجميل صفاته صلى الله عليه وسلم : تلطُّفه بالأطفال، ومداعبته لهم، وإدخاله
السرور عليهم.
في أحد الأيام دخل سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على النبي صلى الله عليه
وسلم ، وكان الحسن والحسين -رضي الله عنهما- على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم ؛
فقال ابن الخطاب لهما:
«نِعم
الفرس تحتكما»؛
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
«ونِعم
الفارسان هما»[1].
والتلطف بالأطفال من عادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا قدم من السفر
يتلقاه الصبيان فيقف لهم، ثم يأمر بهم فيُرْفَعُون إليه، منهم بين يديه، ومنهم مَن
خلفه، ويأمر أصحابه أن يَحملوا بعضهم، فربما تفاخر بعضهم بعد ذلك؛ فيقول بعضهم
لبعض: حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين يديه، وحملك أنت وراءه»[2]؛
فالنبي الكريم لا يجد حرجًا أن يُلاعب الأطفال، ويحنو عليهم، وينزل إلى مستواهم
ليُشْبِعهم مداعبةً ولعبًا، مما يكون له مردوده الطيب في علاقتهم به وحبّهم له.
ومما هو جدير بالذكر في جانب مداعبة الأطفال وملاعبتهم والنزول إلى مستواهم، ما جاء
في الحديث، عن أنس بن مالك قال: كان سول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا، وكان
لي أخ صغير، وكان له نُغَر -عصفور- يلعب به، فمات، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم
ذات يوم فرآه حزينًا، فقال: ما شأن أبي عمير حزينًا؟ فقالوا: مات نُغَره الذي كان
يلعب به يا رسول الله. فقال:
«يا
أبا عمير، ما فعل النغير؟ أبا عمير، ما فعل النغير؟»[3].
وفي جانب الحديث عن زوجاته صلى الله عليه وسلم ، لم ينكر على السيدة عائشة، وهي
زوجته، أن تلعب بالبنات ترفيهًا وتخفيفًا عن النفس، فنراها تقول -رضي الله عنها-:
كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيُسرّبهن إليَّ فيلعبن معي»[4]؛
فكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يُرسلهن إلى السيدة عائشة ليواصلن اللعب
معها. فهذا إن دلَّ فإنما يدل على روح النبي الطيبة وأخلاقه الحسنة وتواضعه الجمّ.
ويأتي الصحابي الجليل محمود بن الربيع، ويكشف عن روح النبي الطيبة في مداعبته
وملاطفته له، في رشّة ماء رشَّها في وجهه، وهو طفلٌ صغير، فيقول: عقلتُ من النبي
صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو»[5].
وتأتي أم خالد طفلة صغيرة تُداعب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُداعبها، فيدعو
لها بطول العمر والبركة فيه، ففي الحديث، عن أم خالد بنت خالد بن سعيد، قالت: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم :
«سَنَهْ
سَنَهْ»،
قال عبد الله: وهي بالحبشية: حسنة. قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزَبَرَني أبي
-زَجَرَني-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«دعها»،
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي،
ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي».[6]
يُلاعب النبي صلى الله عليه وسلم طفلاً فيبول على ثيابه، فقامت أُمّه لتأخذه
وتضربه، فمنعها رحمةً به وشفقةً عليه، فقد رُوِيَ أنه بينما رسول الله صلى الله
عليه وسلم مُستلقٍ على ظهره يُلاعِب صبيًّا إذ بالَ، فقامت لتأخذه وتضربه. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«دعيه،
ائتوني بإناء من ماء».
قالت: فأتيته بإناء فنضح الماء على البول[7].
وذات مرة دُعِيَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام، فإذا بالحسين يلعب، فاستقبل
أمام القوم، وتقدم يلعب هنا وهناك، ورسول يبسط يده له، متقدمًا القوم، يُضاحِك
الحسين ويُلاعبه، فعن يعلى بن مُرَّة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ،
ودُعينا إلى طعام، فإذا حُسَيْن يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم
أمام القوم، ثم بسط يديه، فجعل يمر ها هنا، ومرة ها هنا، يُضاحكه حتى أخذه، فجعل
إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه فقَبَّله، ثم قال صلى الله عليه وسلم
:
«حُسَيْن
مني وأنا منه، أحَبَّ الله مَن أحَبَّ حُسَينًا، الحسن والحسين سِبْطان من الأسباط»[8].
ويربط النبي صلى الله عليه وسلم المداعبة واللعب بالرياضة المفيدة للجسم والعقل؛
فيروّح عن النفس في آنٍ واحدٍ، حتى إنه يضع الجائزة للفائز مُرغِّبًا ومُشجِّعًا؛
فعن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُفُّ عبد الله،
وعبيد الله، وكثيرًا من بني العباس، ثم يقول:
«مَن
سبق إليَّ فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيُقَبِّلهم
ويلتزمهم»[9]؛
وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين لُعْبَة العَدْو كرياضة مُفيدة للجسم
والعقل، والمُداعبة في تقبيل الأطفال، وحنوّه عليهم، عندما يقعون على صدره،
فيلتزمهم ويُمْسك بهم رحمةً وحنانًا.
ومن حبّه للأطفال وحنوّه عليهم أنه كان يُقْعِد الحسن بن عليّ على فخذه، وأسامة بن
زيد -رضي الله عنهما- على فَخِذه الأخرى؛ فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيُقْعِدني على فَخِذه، ويُقْعِد الحسن
بن عليّ على فَخِذه الأخرى، ثم يقول:
«اللهم
إني أرحمهما فارحمهما»[10].
ومن مداعبته وملاطفته للحسين -رضي الله عنه-: أنه صلى الله عليه وسلم كان
يُدْلِع لسانه له؛ أي: يُخْرِجه له، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: كان النبي
صلى الله عليه وسلم يُدْلِعُ لسانه للحسين، فيرى الصبي حُمْرة لسانه، فيهشّ إليه.
فقال له عيينة بن بدر: ألا أراك تصنع هذا بهذا، فوالله إنه ليكون لي الولد قد خرج
وجهه، وما قبَّلته قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
«مَن
لا يَرْحَم لا يُرْحَم»[11].
ويَعيب النبي صلى الله عليه وسلم على الأقرع بن حابس لما رأى فيه من الجفاء بينه
وبين أطفاله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَبَّلَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً
مِن الولد ما قبَّلت منهم أحدًا؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال:
«مَن
لا يَرْحَم لا يُرْحَم»[12].
ويحكي أنس بن مالك حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم في جانب ملاطفته له؛ فيقول:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، فأرسلني يومًا لحاجةٍ، فقلت:
والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم . فخرجت
حتى أَمُرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه، وهو يضحك، فقال: يا أُنَيْس، أذهبتَ حيث
أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله»[13].
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال وشفقته عليهم: أنه كان ذات يوم ساجدًا في
صلاته، فأطال السجود حتى ظن أصحابه أنه قد حدَث أمر، أو يُوحَى إليه، فرفع أحدهم
رأسه ليرى سبب إطالة رسول الله السجود، فرأى صبيًّا ارتحل النبي في صلاته، وهو
ساجد. فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا، أو حسينًا، فتقدّم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فوضعه، ثم كبَّر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي:
فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى
سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله
إنك سجدتَ بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يُوحَى
إليك، قال:
«كلّ
ذلك لم يكن، ولكنّ ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»[14].
مما سبق يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب في مداعبة الأطفال وملاعبتهم
كوسيلة من وسائل الترفيه، واستعادة النشاط والحيوية للجسم، يتبعه النمو السليم
للطفل عقليًّا وجسميًّا، مما ينعكس إيجابًا على صحة الطفل العامة، وحياته الدراسية،
وتَواصله الاجتماعي.
وهذا كله من مظاهر سَبْق الإسلام في الدعوة إلى الاهتمام بالطفل، والحثّ على
التنشئة السليمة للطفل وحُسْن رعايته من جميع الوجوه، قبل أن تنصّ المنظمات
العالمية القائمة على حقوق الطفل على حقّه في المداعبة والملاعبة والرعاية الصحية،
وفق ما يُحقّق أهدافه الحياتية، وتفوقه الدراسي، وبنائه الجسمي.
[1] الهيثمي، مجمع الزوائد، ج9، دار الكتاب العربي، بيروت 1967، ص182.
[2] الغزالي، إحياء علوم الدين، ج2، دار الفكر، ص219.
[3] أخرجه أحمد في مسنده، ج21، حديث رقم (14071)، ص456.
[4] أخرجه البخاري، ج8، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، حديث رقم (6130)، ص30.
[5] أخرجه البخاري، ج1، كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير؟، حديث رقم (77)، ص26.
[6] أخرجه البخاري، ج4، كتاب الجهاد والسير، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث
رقم (3071)، ص84.
[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، دار الفكر، ص219.
[8] أخرجه البخاري، الأدب المفرد، ج1، باب معانقة الصبي، حديث رقم (364)، ص133.
[9] أخرجه أحمد في مسنده، ج2، باب فضائل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، حديث
رقم (1886)، ص964.
[10] أخرجه البخاري، ج8، كتاب الأدب، باب وضع الصبي على الفخذ، حديث رقم (6003)،
ص8.
[11] أخرجه ابن حبان، ج15، كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم بمناقب الصحابة -رضي
الله عنهم أجمعين-، باب ذكر ملاعبة المصطفى صلى الله عليه وسلم للحسين بن علي بن
أبي طالب -رضوان الله عليهم-، حديث رقم (5596)، ص408.
[12] أخرجه البخاري، ج8، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، حديث رقم
(5997)، ص7.
[13] أخرجه مسلم، ج4، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن
الناس خُلقًا، حديث رقم (2310)، ص1805.
[14] أخرجه أحمد في مسنده، ج45، حديث رقم (27647)، ص613.