السعادة الزوجية تتحقق بالتوافق النفسي والعاطفي، والاحترام المتبادل، والاهتمام، والهدف المشترك، ما يحوّل البيت إلى ملاذ آمن مليء بالمودة والرحمة.
قلَّما يختلف واحد من الناس على أن حُسن اختيار الزوجين لبعضهما البعض يُحقّق أرقى
درجات السعادة المطَّردة والمتجدِّدة؛ لما ينتج عن ذلك من ذرية بارّة سويّة تخلو من
الأمراض العصبية والاضطرابات النفسية. ولولا وجود قاسم مشترك يربط هذه الأسرة لما
استفادت من هذه النعمة، ولما حقَّقت تقدُّمًا واضحًا على غيرها من الأُسَر.
فهل يوجد زواج سعيد وآخر تعيس؟ وما معيار وضابط السعادة إن وُجِدَتْ؟ وهل من الممكن
تحقيق مثل هذا التوافق الأُسَري ويتحوَّل بيت الزوجية إلى جنة فيحاء؟
تعالوا نتفق أولًا على أن السعادة التي نعنيها
«هي
رابطة تنشأ بين الزوج وزوجته على نحو خاص، وبشروط خاصة، وهذه الرابطة تسمى الرابطة
الزوجية، والتي صارت مشروعة بالعقد، وهي ما عبَّر عنه القرآن الكريم بـ«الميثاق
الغليظ»؛
قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [سورة النساء، آية: 21].
قال صاحب الكشاف:
«الميثاق
الغليظ هو حقّ الصُّحبة والمُضاجَعة، ووصفه بالغليظ لقُوّته، وقد قالوا صحبة عشرين
يومًا قَرَابة؛ فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟»[1].
ويرى الطاهر ابن عاشور أن الميثاق الغليظ هو عقد على نية إخلاص النية ودوام الألفة؛
أي: كنتم على حال مودة وموالاة كالميثاق على حُسْن المعاملة[2].
وللشيخ محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى، يقول:
«إن
المرأة لا تُقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها إلا
وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة، وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا
ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدّها إحكامًا»[3].
وكلمة الميثاق الغليظ كلمة موجزة، لكنّها موحية ومُعبِّرة؛ لأن السعادة الزوجية لا
تتم إلا بتوافق متناغم بين الزوجين. وبعبارة أخرى تعني: التآلف، والتكاتف،
والتعاطف، والتناغم والأشواق والتضحية، والنصيحة والصحبة.
وعند هذه النقطة تحديدًا فثمة أمور تُدْرَك ولا تُقَال للوصول إلى درجة التوأمية؛
(شعور الفرد بنفس إحساس الآخر)، وهي درجة راقية في تنامي السعادة المطّردة، حتى إذا
ما أُصيب أحد الطرفين بصداع مثلًا شعر الآخر مثله بنفس الأعراض، وإذا جاع طرف أحسَّ
الآخر بالجوع أيضًا، وإذا ما ظهَر البِشْر والسرور بأحدهما ابتهج الآخر حتى وإن لم
يره. لقد اشتكت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: فقالت وارأساه! فقال النبي
صلى الله عليه وسلم
على الفور:
«بل
أنا وارأساه!»[4].
ضوابط السعادة الزوجية
أولًا: تحقيق الرضا التام بين طرفَي العلاقة الزوجية
أو بمعنى آخر: قبول كلا الطرفين لصاحبه قبولًا وجدانيًّا (نفسيًّا)، فتتقوى تلك
الأرواح ببعضها البعض، فتكون كالجند المجنّدة تتعارف فيما تحبّ وتتناكر فيما تكره؛
ففي الحديث:
«الأرْواحُ
جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها
اخْتَلَفَ»[5].
وحَدِّث ولا حرج إذا ما اختلفت تلك الأرواح، وأنكر بعضها بعضًا، ولكنْ هل الرضا
المطلوب هنا هو الرضا التام الذي لا تشوبه شائبة؟ أم أنه قد ينوب عن المرأة وليُّها
فيما يعرفه بواقع خبرته الحياتية؟
الصحيح في المسألة أن الرضا المطلوب هو
«الرضا
النفسي»،
أو بمعنى آخر: الارتياح الداخلي، فهو رضا قلبي وجداني محض؛ لكون الأرواح جنودًا
مجندة.
ثانيًا: إيجاد موضوع مشترك بين الطرفين سلفًا
«وهو
هنا الزواج»،
وهذا بدوره يحتاج إلى تخطيط مسبق، بأن يسأل كل طرف من أطراف العلاقة عددًا من
الأسئلة التي يستوضح بها كُنْه ما يريد، لا سيما وأن عقد الزواج -كما يقول الفقيه
الكاساني الحنفي-
«عقد
عمري يدوم»؛
أي: يأخذ مساحة كبيرة من عمر الإنسان؛ لكون الأصل فيه على التأبيد، فيسأل كلّ منهما
نفسه قبل الارتباط وتوريط النفس والأهل بما لا ينبغي أن يكون:
ما حاجتي النفسية لهذه الزوجة أو هذا الزوج؟
ولماذا أنا مشدود إليها أو إليه؟
وهل ثمة ارتياح لخُلُق الطرف الآخر وخِلْقته؟
ثالثًا: الإلزام
بمعنى أن الإنسان كان قبل ارتباطه بزوجته حرًّا مختارًا، يملك وقته بطوله وعرضه،
ولا يُنازعه فيه أحد، كما أنّ كدّه وكَسْبه يُنفقه كيفما شاء وحيثما أراد، مِن غير
أن يسأله أحد، لكنّه بعد ارتباطه بمَن يشاركه حياة زوجية مشتركة صار مُلزمًا بما
يُمليه عليه الشرع والعُرف والذوق الإنساني العام، فلم يَعُد حُرًّا ولا مختارًا أن
يسهر خارج البيت لغير حاجة، أو يسافر بغير ضرورة، أو يُنفق ماله في غير موضعه،
وإنما أصبح هناك مَن تشاركه أفكاره، أمواله، حياته، مستقبله، عواطفه. وبمعنى آخر
فإنّ مراعاة شعور الزوجة هو جزء من التزام غير مكتوب، يقع بالدرجة الأولى على عاتق
الزوج. وما عَقْد الزواج إلا صورة رمزية وقرينة على الوفاء بهذا النوع العظيم من
الإلزام.
رابعًا: وجود هدف مشترك يحيون به معًا
فمثل هذا الهدف يُبقي على ديمومة الحياة واطراد النظام بين الطرفين، وهل هناك قاسم
مشترك أعظم من الدين والخُلق، وفي الحديث:
«إذا
أتاكم مَن ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[6].
خامسًا: المُلاطفة من جانب الزوج
لأن المرأة تزبل كالوردة إذا لم تُسقَ بالماء، وسَقْي المرأة هو الاهتمام بها،
وملاطفتها، وإطراؤها، والثناء عليها، وهذا سيجعلها تتحول مائة وثمانين درجة لصالحك
ولصالح بيتك.
بعض الأزواج إذا مرضت زوجته يُرسلها إلى بيت أهلها، وعندما تتعافى يأتي بها، وهو
أسلوب مملوء بالقسوة، فمن الذي يُلاطفها في بيت أبيها، أضفت إليهم عبئًا جديدًا.
لقد تغيَّب عثمان -رضي الله عنه- عن غزوة بدر؛ لأنه كان يُمرِّض زوجته رقية بنت
رسول الله
صلى الله عليه وسلم
، وقد جاء في صحيح البخاري:
«إنَّما
تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عن بَدْرٍ؛ لأنَّه كَانَتْ تَحْتَهُ بنْت رَسولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم
، وكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقالَ له النبيُّ
صلى الله عليه وسلم
: إنَّ لكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وسَهْمَهُ»[7].
أهمية السعادة الزوجية
لقد ثبت أن السعادة الزوجية ترفع مناعة الجسم، وتقوّيها. وأثبتت الدراسات أن
السعادة الزوجية تؤثر على زيادة نسبة الكوليسترول الجيد بين الأزواج، وبأن هرمون
الكورتيزون مرتبط بالضغط العصبي، وأن السيدات اللواتي يرتفع عندهن نسبة هذا الهرمون
يتعرضن للطلاق بعد مرور عشر سنوات من الزواج.
وصدق الله حيث يقول: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]؛ في الآية إشعار بأن
السعادة والرضا لا تكون في وحشة الانفراد، وإنما تكون في التوافق والتآلف بين
الزوجين لقضاء حياة مشتركة مملوءة بالمودة والرحمة، لكنّ الوحدة والانعزال
والانفراد شقاء وألم محض حتى لو صار في الجنة.
نقاط على الحروف
إن كثيرًا من الزوجات ترغب في الحد الأدنى من الاحترام، وقد يُفضّلنه على الحُبّ،
إن غاب هذا الأخير؛ لأن الحب يصبح مزيفًا عندما تُهدَر المشاعر، وتُصادَر الأحاسيس،
وتُنتَهك الخصوصيات، وتُتَعَدَّى الخطوط الحمراء.
وإذا سألنا جمهرة من النساء منذ أن خلق الله الدنيا: ماذا تريد المرأة -أيّ امرأة-
من زوجها؟
رغم اختلاف المشارب، والثقافات، والأولويات، لكن تبقى الإجابة مُسطَّرة في قلوبهن
هو:
«جانب
الاهتمام بها»؛
لأن المرأة تُحِبّ مَن يسمعها، ويُصْغي إلى همومها واهتماماتها، ويمسح جراحها.
وهي أيضًا تسعد بالعطاء والحب المتبادل والطبيعي والفطري غير المتكلّف أو المصنوع.
أي امرأة تحب أن تشعر بالأمان النفسي والحياتي، ولا يتحقق هذا الأمان إلا بالمعاملة
الصادقة؛ فيتغاضى الزوج عن زلاتها وهفواتها، ويصل به التغافل كأنه لم يسمع ولم يَر.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- قدوة لنا في هذا الجانب؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ
أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} [سورة
التحريم، آية: 3]؛ لقد أخفى النبي -عليه الصلاة والسلام- كلامًا أسرّ به إلى السيدة
حفصة -رضي الله عنها-، ولكنّها أخبرت به عائشة، فعرّفه الوحي بذلك، فيعرض النبي
بعضه لحفصة، ويُعْرِض عن بعض؛ قال السمرقندي:
«أي:
سكت عن بعض؛ لأن الكريم لا يُبالغ في العتاب»[8].
وإذا ما استطاع الرجل أن يُعظِّم من الجوانب الإيجابية لدى زوجته، ويُشجّعها، ويدفع
بها، ويكافئها؛ انطلق إحساسها المتدفق بالحب والعطاء والتشبث بالحياة الجميلة
الراقية التي هي جزء منها.
ومن المهم أن نعلم أن بعض الرجال يسيطر عليهم شعور سلبي هو مِن مدد الشيطان -بأن كل
نساء الأرض أفضل من زوجته، أو العكس تشعر بعض النساء أن كل رجال الأرض أفضل من
زوجها، وأنها قد دُلِّس عليها في زواجها، فأعطوها المتردية والنطيحة وما أكل
السبع... هذا الشعور يقتل الحياة الزوجية ويهدمها، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة، بل
إن الزوج لو اطلع على نساء منطقته ممن يتوقع أنهم أفضل منها؛ لرجع راضيًا بزوجته
يَعَضّ عليها بالنواجذ. ولأدرك أن زوجته تَفُوق الكثير منهن فطنةً وجمالًا، وتتبدّد
وساوس نفسه ويخنس شيطانه؛ فإذا هو في حالة من الوفاق الأُسري والتناغم العاطفي؛
فتنقشع الغشاوة من على عينه، فتعظم زوجته عنده، ويتسع قلبه الكبير لأن يضمها إليه
حبًّا ورغبة ومودة.
احتياجات المرأة من زوجها
ثمة مثلث من الاحتياجات لا تستغني المرأة عنه، وحينما يوجد في بيت من البيوت فهو
الجنة الدافئة الوارفة التي تظلل بأغصانها كلّ مَن في البيت -هذا المثلث يتمثل في
(الأمن- الاستقرار- الحب)، ومتى فقدت المرأة واحدًا منها؛ تبدأ رياح القلق وبوادر
الشقاق تَعصف بالأسرة.
وعندما يغيب السكن المعنوي للزوجة يبرز ضعف الترابط الأسري والاجتماعي، وتبرز وجوه
كالحة عليها غضب الرحمن، فإذا بالأزواج يهربون من السكن ولا يعودون إلا للنوم
(مصالح مؤقتة)، والأولاد يقهر بعضهم بعضًا، وينحرفون في غير ما رقابة من أحد؛ لأن
الأبوين قد انشغلا في مشاكلهما الخاصة، وصارت البيوت ليس فيها مودة ولا رحمة...
أشبه ببيوت العنكبوت؛ {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ
أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]؛
والوهن هنا هو وهن العلاقات الاجتماعية، ليكون البيت المملوء بالصخب والصياح
والجدال بيت عنكبوت، حتى وإن شُيِّد بالحديد والحجارة والفولاذ. وكأن بيت العنكبوت
هو أبعد البيوت عن صفة البيت، بما يلزم من أمان وسكينة وطمأنينة، بيت العنكبوت يأكل
بعضه بعضًا، يُخيِّم عليه الخوف والتربُّص وشراسة ووحشية وقسوة وانعدام أواصر
القربى. وهذه البيوت (بيوت العنكبوت)؛ كما حدثنا عنها القرآن هي بيوت خَرِبَة غير
عامرة.
الأب (الذكر) هارب من البيت طول الوقت من جبروت الأنثى؛ حيث لا تسمح له بدخوله إلا
عند حاجتها إليه؛ حيث تعيش أنثى العنكبوت في أنانية مفرطة بعيدًا عن قيود الذكورة.
وهذا البيت لا تُوجد فيه رحمة حتى للحيوان، فلو اقترب منه أحد يُقتَل على الفور...
والقوامة في هذا البيت للأنثى، وتأمل عبارة القرآن {اتَّخَذَتْ بَيْتًا}
بتاء التأنيث؛ فهي التي تُشيِّد هذا البيت.
{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؛
يعلمون ماذا؟ يعلمون أهمية المودة والرحمة، والحب والتفاني في تقوية الروابط
الأسرية، والتخطيط بالعقل الجمعي والمشورة، ومعرفة خطورة ضياع مملكة الأسرة وهدمها.
إن أيّ امرأة سوية لا يمكنها العيش بلا أمن واستقرار وحبّ، لتسير هذه الثلاثة جنبًا
إلى جنب؛ فيجني جميع أفراد الأسرة ثمارها. وقد كان الرجل فيما مضى ينام على باب
الخيمة، يحمي زوجته ورضيعها، فهي بالداخل تُرضِع ولدها، وهو بالخارج يحرس باب
خيمتها من أيّ اعتداء أو أذى، وهي إذ ذاك تشعر بالأمان والاستقرار والحب في وقت
واحد؛ لأن بَعْلها يخاف عليها وعلى صغيرها، وعليه أن يتحمل الأهوال وركوب الخطر؛
لأنه يُحبّها ويغار عليها فينعكس ذلك كله عليها من أمومة لطفلها وتبعُّل لزوجها.
والسر في نجاح أيّ بيت يكمن في تحقيق هذا المثلث، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى حتى
يتحقق هذا المعنى ينبغي لكلا الطرفين أن يعرفا الاختلافات والفروق الجوهرية بينهما؛
لكي لا تختلط المهام فيضيع الوقت في غير ما أُريد له.
فهناك اختلافات في الطباع... جِبِلَّة طبيعية لتسير الحياة وفق مراد الله تعالى،
فالرجل يقوى على: الصيد، السفر، العمل، الكدح في الأعمال والمهن الشاقة التي يبذل
فيها عرقًا وجهدًا ملحوظًا. لكن المرأة مشدودة إلى رعاية بيتها وبعلها وأبنائها، هي
تشعر بهذا المعنى، والمرأة السوية تؤديه بإتقان وحُبّ.
وفارق آخر هو أن المرأة تهتم بالتفاصيل، بينما الرجل يحب الإجمال والخلاصة، وهذا
يعني أنك إذا علمت هذا الفارق فعليك أن تُصغي إليها، وتُعطيها مساحة من وقتك؛
لتُشعرها إنك تسمعها؛ لقد قصَّت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- على سمع النبي
قصة أم زرع... إحدى عشرة امرأة بالتفصيل الوافي لكل واحدة منهن، وعن علاقتها
بزوجها، والنبي لم يُقاطعها، وإنما تفاعل معها.
حاسة السمع عند المرأة أقوى من الرجل، ولذلك تنتبه من نومها، وهي تسمع صراخ طفلها
بخلاف الرجل.
وثمة فارق آخر، هو أن جِلْد الرَّجُل سميك، بما يعني الصلابة والرجولة والقوة،
ولكنّ جِلْد المرأة رقيق، ومعناه أنها تتأثر بالمداعبة، وتحب أن يَمَسّ جلدها
الرقيق راحة زوجها فيُشْعِرها بمزيد من الأمان والعاطفة.
ومن الفروق أيضًا: أن المرأة تُورِّي بحاجتها بطريقة غير مباشرة؛ لأن الحياء يغلب
عليها، تقول لك مثلًا بعد عودتك من الشغل: أبناؤك أزعجوني اليوم بشدة. لو عالجت
الموضوع بعدم اكتراث وهزّ الكتفين، ثم دخلت تُبدّل ملابسك بدون كلام. أو قلت لها:
أنا مُتْعَب الآن، وعندما أرتاح سوف نناقش الموضوع.
بهذا تكون قد أصبتها بالإحباط؛ فهي تنتظر منك ردًّا غير هذا؛ كأن تقول: الشر بعيد
عنكِ يا ست الكل... أو يا زوجتي الحبيبة، الشر عنك بعيد. اليوم سنتغدَّى كلنا خارج
البيت، نشم هواءً نقيًّا، ونجلس على الخضرة سويًّا، ونترك الأولاد يُفرِّغون طاقتهم
في الألعاب المتاحة بالنادي... ما رأيك؟ على الفور ستتغير ملامح وجهها في الحال،
لترى صفحة وجهها البريئة التي تحتاجك أنت، لكنها تُورِّي برغبتها بموضوع آخر.
المرأة يظهر عليها الحزن، وتريد ممن حولها أن يُشاركها نفس المشاعر؛ لكي لا تتألم
وحدها... ومن أقرب إليها غير زوجها؟ لكن الرجل يتجلَّد ويتماسك. وهذا يعني أنه
مطلوب منك أن تُشْعِرها أنك حزين.
حدث أن امرأة مات أخ لها يُدْعَى ابن طريف، حزنت عليه حزنًا شديدًا، وفي فترة
الحداد رأت شجرًا مورقًا يسمى -شجر الخابور- أنشدت شعرًا، وكأنها أخذت على خاطرها
منه:
أيَا شجر الخابور مَا لَك مورقًا
كأنك لم تجزع على ابن طريف؟
الحزين يريد مِن كل مَن حوله أن يتأثروا بمصابه ومشكلته، وقد ثبت أن المرأة يقتلها
الحزن أسرع من الرجل، ولذا قال القرآن لمريم -عليها السلام-: {ولا تحزني}... يترتب
على ذلك أن تُشْعِرها بالطمأنينة والأمن والسلام النفسي؛ فالنبي -عليه الصلاة
والسلام- يقول لعائشة بعدما حكت له حديث النسوة:
«يا
عائشةُ! كنتُ لكِ كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ، إلا أنَّ أبا زرعٍ طلَّق، وأنا لا أُطلِّقُ»[9].
والنبي
صلى الله عليه وسلم
كان يُشِيع في البيت جوّ المرح والأنس والدعابة واللطف... تراه يسابق عائشة، وتراه
يُطْلِعها على الأحباش وهم يلعبون بالحراب في المسجد. ويأتيها بصويحباتها يلعبن
بالعرائس معها في بداية زواجهما، ويتركها تلعب بعرائسها، وتصنع خيلًا لها أجنحة،
ويمزح معها ويداعبها... لأن دعم الحالة النفسية الإيجابية للمرأة يُوفِّر عليها
صحتها ونضارتها ورغبتها في العطاء.
عندما يفهم كل فرد من أفراد العلاقة الزوجية هذه الفروق؛ لن يصطدم مع الطرف الآخر،
بل يتناغم ويتعاون، ويُسدِّد ويُقارب، وسيكون شعار الجميع
«استقيموا
يرحمكم الله».
ساعتها سوف يشعر كلا الزوجين أن الزواج آية من آيات الله، وأن البيت سكن، والزوج
والزوجة سكن حتى قالت العرب: إن كل ما يُسْكَن إليه وتستأنس به النفس من زوجة أو
نار فهو سكن؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ
ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠]، وقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ
بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: ١٨٩]، وقال سبحانه: ﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: ٢١].
في المقابل عندما يغيب هذا السكن المعنوي، يبرز ضعف الترابط الأسري والاجتماعي،
والبيوت التي ليس فيها مودة ولا رحمة هي بيوت العنكبوت. المطلوب منا حتى لا تكون
بيوتنا كبيوت العنكبوت، أن نُقدِّم الرعاية والعناية والاهتمام والاحترام، ولن
يتحقق ذلك إلا في مناخ من الحبّ والتسامح والتغافل والصفح.
[1] الزمخشري، تفسير الكشاف، ص228.
[2] الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير: 4/290.
[3] الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة، ص187، دار الشروق، القاهرة.
[4] رواه البخاري برقم: 5666.
[5] رواه مسلم برقم: 2638.
[6] رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في الصحيحة برقم: 1022.
[7] رواه البخاري: 3130.
[8] السمرقندي، بحر العلوم جــ3 - صــــ3109.
[9] صحيح الجامع للألباني برقم 141.