• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
( وتواصوا بالحق )

( وتواصوا بالحق )

«ما أضاع المسلمين، ومزَّق جامعتهم، ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بُعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عِضِين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها، وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليُجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شِرَّتها، وفي مفارق سُبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميِّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميِّز حقَّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب».

تلك بعض الكلمات التي صرخ بها عالم الجزائر البشير الإبراهيمي رحمه الله سنة 1372هـ[1].

هدايات العصر:

روى الطبراني بسنده عن عبد الله بن حصن قال: «كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا؛ لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلِّم أحدهما على الآخر»[2]. فلماذا هذا الاهتمام البالغ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وما هو شأنها؟

لعلَّ صاحب الظلال استطاع أن يلخص الإجابة على هذا السؤال حين قال: «في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهجٌ كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام. وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة... إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناجٍ. هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه. وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار»[3].

فما هو هذا المنهج الذي رسمت السورة حدوده؟

قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ 1 إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ 3} [العصر: ١ - ٣]؛ يقسم العظيم سبحانه بالعصر وهو الزمان والدهر، على أن الإنسان مغمورٌ في الخسران، وأنه أحاط به من كل جانب[4]. والخسران: ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي؛ وهما أكبر رأس ماله[5].

ثم يستثنى العظيم سبحانه من كافة أطياف الناس ومذاهبهم ومساربهم ثلةً ناجية من هذا الخسران، فهي الرابحة إذا الناس يخسرون، وهي الناجية إذا الناس يهلكون، إنهم الموحدون المؤمنون بالله، فلا يأتون بما ينقض إيمانهم ولا بما يفسده، ويلتزمون بالأعمال الصالحة المحببة إلى الله عز وجل، ويتواصون بالحق والصبر.

والقرآن الكريم في مواضع كثيرة دعا إلى الإيمان والعمل الصالح، أما في هذه السورة فأضاف أمرين آخرين وجعلهما من أسباب النجاة والربح الأخروي، هما: التواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

وسنسلِّط الضوء هنا على قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ} لتتبين لنا معالم هذا الحق وملامحه.

قال ابن جرير رحمه الله في معنى الآية: «أوصى بعضهم بعضاً بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه»[6].

هذا التواصي بالحق سبب رئيس في النجاة من الخسران، وباب كبير في زيادة الأرباح الأخروية. والتواصي كما يبدو لك من لفظتها تفاعل. والتفاعل يكون بين طرفين فأكثر، بل الآية نصت على الجمع، أي أن الذين سينجون من هذا الخسران العظيم هم جماعة يتواصون بالحق من قديم، فأصبح هذا الفعل سمتاً لهم.

وهذا التواصي بالحق كما جاءت به سورة العصر مَعْلم مهم من معالم المؤمنين أصحاب المنهج الرباني، وهو سيماؤهم في مجتمعاتهم، فلا تجد المؤمنين إلا وهم ملتزمون بهذا السمت وبهذه السيماء. هذا مقتضى التربية القرآنية الواجبة عليهم: أنهم لا ينفكون عن حث بعضهم بعضاً وتوصية بعضهم بعضاً وحثِّ بعضهم بعضاً على متطلبات الإيمان والعمل الصالح، «والتواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير. والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة. وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين.. والتواصي بتذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة. فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف. تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله»[7].

وأعظم الحق الذي ينبغي أن يتواصى به من أرادوا لأنفسهم الفوز العظيم والربح الكثير ومن أرادوا لأنفسهم النجاة من ذلك الخسران والهلكة هو القرآن العظيم وما فيه من التصورات والأحكام والعظات والآداب والقصص والحِكم، حيث يجتمع المؤمنون مثنى وثلاث ورباع على تذكير أنفسهم بما يريده الله تعالى منهم، من خلال استعراض آيات القرآن وتدارسها وتعلُّمها والتأدب بآدابها. قال قتادة والحسن البصري في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ}: هو كتاب الله[8].

القرآن حياة:

في كل صلاة يصليها المؤمن؛ يقف مناجياً ربه بأنواع من المحامد والتمجيد، ليختم ذلك بدعاء الله تعالى وسؤاله الهداية.. الهداية التي تنكبتها أممٌ وجماعات وكيانات لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ووفق الله لها بعض خلقه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ 6 صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ 7} [الفاتحة: ٦، ٧] فأين تكمن الهداية؟

أجاب القرآن على هذا السؤال الكبير في الآيات التي بعدها مباشرة، حين افتُتحت سور القرآن كلها بعد الفاتحة بقوله تعالى: {الــم» 1 ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ 2} [البقرة: ١، ٢]، وكأنَّ الله عز وجل يأمرنا في هذه الآية بالإقبال على كتابه، وإيقاد قناديل الهداية من آياته، في مساربنا ومدارجنا في هذه الحياة.

وفي أكثر من موضع من كتاب الله تعالى يُنعَت القرآن بـ«الروح». قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْـمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: ٢]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].

والمقصود بالروح هنا القرآن كما ذكره بعض السلف، واختاره ابن جرير الطبري[9]، وأخرج بسنده عن الربيع بن أنس قال: «كلُّ كلِمٍ تكلم به ربنا فهو روح منه»[10]. وحين يستشعر المؤمن هذه الفضيلة لكتاب الله، وحين يتعامل معها بوصفها نعمة جليلة وفيضاً ربانياً ستتغير طريقته مع القرآن الكريم إلى الأفضل.

وأما في أصلها اللغوي فإن لفظ «الروح» جُعل اسماً للجزء الذي به تحصل الحياة والتحرُّك واستجلاب المنافع واستدفاع المضار[11]. فهل شيء ينطبق عليه هذا المعنى أكثر من القرآن الكريم؟! فهو والله المضخة التي تنعش جسدك وروحك بالحياة.

تأمل خطاب الله تعالى لنبيه إذ يقول: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52]  فمن أنت لولا هذه الآيات التي أنعم الله عليك بتلاوتها وتدبرها؟

عن أي إيجابية تتحدث لولا إدمانك النظر في كلام الله العلي الحكيم؟

وأين موقعك من الحياة ومن العالم ومن الكون كله وأنت لا تدري ما الكتاب؟

هل كنت قبل أن تقرأ القرآن تعرف أي شيء عن الجنة والنار وأهوال البعث والحساب والجزاء؟

هل كنت قبل أن تقرأ القرآن تعرف أي شيء عن آدم وإبراهيم وموسى وعيسى والدراري البيضاء من أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام؟

هل كنت قبل أن تقرأ القرآن تعرف أي شيء عن عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبع، وأمم قبلهم، وأمم بعدهم؟

بل هل كنت قبل أن تقرأ القرآن تستطيع أن تبني مجداً أو تقيم حضارة؟

بل هل كنت قبل أن تقرأ القرآن تعرف أصلك ومنشأك وبداية خلقك؟

كلا!! والله! حتى أفاض الله على هذه الأمة من رحماته فأنزل كتابه العزيز، فسرَت الحياة في هذه الأمة كما تسري الروح في الجسد.. وحياة قلبك وإيجابيتك وقوتك بحسب علاقتك بهذا القرآن، فانظر موقعك منه.

قال الرازي: «قال أهل التحقيق: الجسدُ مواتٌ كثيفٌ مظلمٌ، فإذا اتصل به الروح صار حياً لطيفاً نورانياً، فظهرت آثار النور في الحواس الخمس. ثم الروح أيضاً ظلمانيةٌ جاهلةٌ، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]. ثم العقل أيضاً ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق، حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد وعالم الدنيا والآخرة. ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن.

إذا عرفت هذا؛ فنقول: القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية والمكاشفات الربانية. وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل، والعقل به يكمِل جوهر الروح، والروح به يكمِل حال الجسد. وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن، لأن به يحصل الخلاص من رقدة الجهالة ونوم الغفلة، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة»[12].

ومن هذا البيان نستطيع أن ندرك الأثر الإستراتيجي للاهتداء بالقرآن.. الاهتداء بالقرآن في صياغة التصورات الإيمانية والكونية، وفي رسم السلوك العِبادي مع الله، وفي وضع الحدود والآليات الاجتماعية مع الناس.

حين كان القرآن الكريم هو روح المؤمنين ومصدر هدايتهم صلحت أحوالهم، وزكت نفوسهم، وطهرت جوارحهم. لقد بنوا الحضارة، وأعلوا من شأن الإنسان، وبعثوا نور العلم إلى العالم كله، وأهدوا للناس الرحمة والحب والخير.. حتى جهادهم الذي يعلوه صليل السيوف وتلونه الدماء بحمرتها؛ كانت لهم فيه بصمة الحياة.

وحين استعاض المسلمون بغير القرآن الكريم ضمرتْ حياتهم، وخَفَتَ بهاؤهم، وأصبحوا مستنقعاً لمناهج البشرية على اختلاف مشاربها، فلا ديناً حفظوا ولا دنيا أقاموا.

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

                                          والماء فوق ظهورها محمول

وتشتد الظُلمة حين يغفل عن هذا «الروح» دعاةٌ ومربون، سخروا حياتهم لخدمة دين الله وإقامة دعوته وهداية الناس. إن هذا «الروح» هو أعظم وأهم ما يجب أن تُعقد له جلسات التواصي بـالحق؛ ليُعكَف عليه تعلُّماً وتدبراً واستنباطاً واستخراجاً للمنهج التربوي والمنهج الدعوي والمنهج الحضاري والمنهج الاجتماعي.

إنها دعوة ربانية أيها الدعاة والمربون إلى أن نجعل من سوَر القرآن الكريم وآياته وعظاته وقصصه: مادةً لدعوتنا وتعلُّمنا وتربيتنا. وحين نطالب ونأمل من الولاة تحكيمَ كتاب الله تعالى في أحوال الناس ومعاملاتهم وجناياتهم، فإنَّ أهل العلم والدعوة والتربية مطالبون بالدرجة الأولى، بجعل القرآن الكريم مادةَ المناهج وأسَّ الأعمال والتقنيات.

كم سيكون نجاح برامجنا إذا هي اعتمدت القرآن الكريم مصدراً أساساً للتلقي والمعرفة والتخطيط والإدارة!

وحين يتساءلون في دوائر العمل الإسلامي عن أسباب الإخفاقات؛ أفليس ضعف استمدادنا الإداري والتربوي من القرآن الكريم سبباً في هذه الإخفاقات؟

إن استلهام الهدي القرآني في كافة مجالات الدعوة إلى الله واجبٌ، وشرف، وحياة، وسدادٌ حتمي.

الاهتداء بالقرآن في طريق الدعوة:

ما هي مساحة الاهتداء بكلام الله تعالى في طرائق المؤثرين ومناهجهم؟ من طلاب العلم والدعاة والمربين؟

في أول ذِكرٍ لإبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم؛ نوَّه الله عز وجل بشأنه ورفع قدره باهتدائه بكلام الله، وفي هذا تعريض لبني إسرائيل الذين جاءهم الوحي وأنزل عليهم الكتاب فلم ينتفعوا به إلا قليلاً منهم.

{وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] .

قال ابن جرير الطبري: «كان اختبار الله تعالى ذِكرُه إبراهيم اختباراً بفرائض فرضها عليه، وأمرٍ أمرَه به، وذلك هو الكلمات التي أوحاهن إليه وكلَّفه العمل بهنَّ امتحاناً منه واختباراً»[13].

لقد كان الوحي الذي أوحاه الله إلى إبراهيم عليه السلام بما فيه من كلام الله تعالى ابتلاءً واختباراً وامتحاناً له. وهكذا كلام الله تعالى! يُبتلى به ورثة الأنبياء من طلبة العلم والدعاة والمربين؛ لا ليرى الله صدقهم في تحمل تكاليف ما أنزل عليهم، فإنه أعلم بهم، بل ليُظهر للناس ذلك، فيصبحوا أئمة يقتدى بهم، تأمل سياق الآية: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} [البقرة: 124] فلم يصيروا أئمة حتى أتمُّوا كلمات الله التي أنزلها في كتابه. «كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق الذي ترتفع درجته، ويزيد قدره، ويزكو عمله، ويخلص ذهبه، وكان منْ أجلِّهم في هذا المقام الخليل عليه السلام، فأتمَّ ما ابتلاه الله به، وأكمله ووفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكوراً فقال: {قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} أي: يقتدون بك في الهدي، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم والأجر الجزيل والتعظيم من كل أحد. وهذه لعمر الله أفضل درجة يتنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين، وأتباعهم من كل صدِّيق متبع لهم داعٍ إلى الله وإلى سبيله»[14].

وإن على أتباع المرسلين من طلبة العلم والدعاة والمربين ومن المؤثرين بوجه عام أن يكون القرآن الكريم الذي هو كلمات الله نصب أعينهم وهم يدعون الناس إلى الله تعالى، فإن التأثير المعبَّر عنه بالإمامة مرتبط بالاهتداء بالقرآن. فـ«لا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن يلتمسون فيه الأشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدى بها أسلافهم»[15].

المدارسة سبيل الاهتداء والربانية:

 وكما أن طالب العلم وهو يسلك طريق الاهتداء بالقرآن بحاجة إلى أنْ يطَّلِع إلى جماعة من أقوال المفسرين في الآية الواحدة، فكذلك هو بحاجة إلى أن يتدارس القرآن الكريم مع جماعة من الناس؛ أشار إليهم النبي في قوله: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»[16]. ففي هذا الحديث تبيان لفضل الاجتماع مع آخرين، بغرض مدارسة القرآن وتلاوته في جماعة؛ في المسجد، قال ابن الأثير في معنى المدارسة: «أي اقرؤوه وتعهدوه لئلا تنسوه، وأصل الدراسة الرياضةُ والتعهُّد للشيء»[17]. ومادة دَرَسَ تفيد التمكن[18] وتفيد أيضاً المداومة وكذلك بقاء الأثر[19]، وهذه الإفادات اللغوية تشير إلى الجهد الذي يُبذل في المدارسة للاهتداء بآيات القرآن الكريم.

النووي رحمه الله يشير إلى أن استحباب الاجتماع لا ينحصر على المسجد وحدَه، فيقول: «في هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد. وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور.. ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط، ونحوهما إن شاء الله تعالى، ويدلُّ عليه الحديث الذي بعده [يقصد: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة...] فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب»[20]. وعليه؛ فإن الاجتماع على تلاوة كتاب الله تعالى ومدارسته مندوب في أي مكان يصلح لهذا الغرض: في البيوت والمكتبات والديوانيات والصالونات والاستراحات والحدائق والمتنزهات وغير ذلك.

عن ابن زيد قال: «كان عمر بن الخطاب إذا صلى السبحة وفرغ، دخل مربداً له، فأرسل إلى فتيان قد قرؤوا القرآن؛ منهم ابن عباس وابن أخي عيينة. فيأتون فيقرؤون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف، فمرُّوا بهذه الآية: {وَإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْـمِهَادُ 206 وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ صلى الله عليه وسلم207} [البقرة: 206، 207] قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله. فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأي شيء قلت؟ قالا: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم؛ قال هذا: وأنا أشتري نفسي. فقاتله، فاقتتل الرجلان. فقال عمر: لله تلادك يابن عباس»[21]. والمربد هو: فضاء وراء البيوت يرتفق به[22]. وقال الخليل الفراهيدي: «شبه حجرة في كل دار مما يلي المرافق بمنزلة الدار المستديرة»[23]. وعلى أية حال فهذا اجتماعٌ تتلى فيه الآيات وتعالَج موضوعاتها ومعانيها، تحقيقاً لقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ}.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «وعلى هذا السماع [أي سماع القرآن الكريم] كان أصحاب رسول الله يجتمعون، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ؛ والباقون يستمعون. وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: يا أبا موسى! ذكِّرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون»[24].

كما أنه هديٌ قرآني نوَّه المولى الكريم بشأنه حين قال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [آل عمران: 79].

فالربانية التي دعا إليها الرسل عليهم السلام منوطة بدراسة ما أنزل الله تعالى وتعلمه. والمذاكرة مع جماعة: وجهٌ من وجوه الدراسة؛ وقد أشار أبو رزين في معنى «تدرسون» إلى أنها مذاكرة الفقه[25]. واكتساب الفقه من مدارسة القرآن الكريم أمرٌ حتمي، فإن آيات الله تعالى هي ينبوع الأحكام الشرعية، وبها يعرف الإنسان مراد الله تعالى منه، ولهذا قال الضحاك رحمه الله: «حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً»[26]. بل إنَّ أولى ما يتفقه به الإنسان هو القرآن الكريم؛ المفسر بسنة النبي والتي هي وحي من عند الله.

وبتعلُّم القرآن الكريم، وتعليمه، ومدارسته، ومذاكرة أحكامه تنال الربانية.. تلك المنزلة الرفيعة، والتي تعني: العلم والحكمة والحلم، وتعليم الناس وتربيتهم، والعمل بالعلم، والتي هي «مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل»[27]، وهذا هو مراد الله تعالى بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ}.

فثبتت بهذا الحاجة إلى عقد المجالس والاجتماعات لتدارس كلام الله تعالى، والتواصي بما جاء فيه من الحق المبين، والحاجة إلى تشييد الصروح والمحاضن التي تربي على أحكامه وآدابه وتصوراته.

لا تهجروا القرآن:

إما الأوراد القرآنية والتدبر والعمل، أو هو الهجر والجفاء والغفلة. إما مجالسٌ معمورة بذكر الله والنظر في آياته وكلامه، أو هو اللغو واللهو والحسرة. إما دعوة تستقي منهجها من الينبوع الصافي والصراط المستقيم، أو هو الكدر والقذر والحيرة والتيه.

ألا يطرق سمعك ذلك الصوت المنبعث من الشكوى المحمدية إذ ترتفع إلى الله عز وجل، مخبرة عن واقعٍ لا يسرُّ: {يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]؟

ألا تحسُّ بكمدٍ يصاحب هذه الشكوى.. من قوم آتاهم الله كتابه وفيه كلماته العليَّة ورحماته السنيَّة؛ ثم هم يأبون فيعرضون ويدبرون؟ ويستبدلون به أقوال الناس وأحاديث الناس وفلسفات الناس؟

وهل يصح أن يكون طريق الدعوة والتربية والتعليم غير ريان من هذا الفيض الرباني؟

إنها دعوة إلى المراجعة الشاملة والجادة والصادقة لطريقتنا مع القرآن الكريم، على كافة الأصعدة والمستويات: الفردي والجماعي، والذاتي والمتعدي، العملي والفكري والوجداني، التربوي والإداري والقيادي.

دعوة إلى أن تكون دعوتنا قرآنية، وشمائل تعليمنا قرآنية، وسمت تربيتنا قرآني.. ودعوة إلى أن تكون مجالسنا قرآنية، وكذا اهتماماتنا وثقافتنا، محاوَلةً لبلوغ ما كان عليه وأصحابه الكرام.

إن هجر القرآن الكريم ليس مقصوراً على ترك تلاوته فقط، بل يشمل كذلك العمل به، وإعماله في كافة المناحي: الدعوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، قال ابن كثير رحمه الله: «كانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضاً من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره - من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره - من هجرانه»[28].

وأختم بكلام نفيس للغاية سطَّره ابن القيم يرحمه الله، يقول:

«هجر القرآن أنواع، أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.

والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.

والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصِّل العلم.

والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.

والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها؛ فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.

وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} وإن كان بعض الهجر أهون من بعض».

ثم يلفت الانتباه إلى مسألة قد تكون هي الأخطر، وهي جفاف الرغبة في الاهتداء بالقرآن، فيقول:

«وكذلك الحرج الذي في الصدور منه. فإنه تارة يكون حرجاً من إنزاله وكونه حقاً من عند الله.

وتارة يكون من جهة متكلِّمٍ به أو كونه مخلوقاً من بعض مخلوقاته ألهمَ غيره أن تكلَّم به.

وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها، وأنه لا يكفي العبادَ، بل هم محتاجون معه إلى المعقولات أو الأقيسة أو الآراء أو السياسات.

وتارة يكون من جهة دلالته وهل أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب؟ أو أريد به تأويلها وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة؟!

وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق، وإن كانت مرادةً فهي ثابتةٌ في نفس الأمر؟ أو أوْهمَ أنها مرادةٌ لضربٍ المصلحة؟

فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن، وهم يعلَمون ذلك من نفوسهم، ويجدونه في صدورهم»[29].

فاللهم ارزقنا حبَّ القرآن وتلاوته، وإدمانَ النظر في معانيه وهدايته، والعملَ بأحكامه وحكمته.. اللهم أضئ لنا به الدروب، واعمر به مجالسنا والقلوب، وافتح به مغاليق الخطوب، آمين.

 

:: مجلة البيان العدد  348 شـعـبـان  1437هـ، مــايو 2016م.


[1] آثار الإمام البشير الإبراهيمي 4/226.

[2](١) المعجم الأوسط رقم 5079 مجمع البحرين.

[3] في ظلال القرآن 6/3964.

[4] تفسير الرازي 32/280.

[5] تفسير البغوي 4/679.

[6] تفسير الطبري30/290.

[7] في ظلال القرآن 6/3968.

[8] تفسير الطبري 30/290.

[9] تفسير الطبري 25/46.

[10] تفسير الطبري 14/77.

[11] معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ص231.

[12] تفسير الرازي 19/175.

[13] تفسير الطبري 1/524.

[14] تفسير السعدي 1/90.

[15] آثار الإمام البشير الإبراهيمي 4/227.

[16] مسلم 4/2074 كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، ح (2699).

[17] النهاية في غريب الحديث 2/113.

[18] انظر: التحرير والتنوير 3/295.

[19] انظر: عمدة الحفاظ 2/8.

[20] شرح النووي 17/24.

[21] تفسير الطبري 2/319.

[22] لسان العرب 3/171.

[23] كتاب العين 8/31.

[24] مجموع الفتاوى 11/559.

[25] فتح القدير 1/448.

[26] تفسير ابن كثير 2/66.

[27] تفسير السعدي 4/2055.

[28] تفسير ابن كثير 6/108.

[29] الفوائد 118.

أعلى