• - الموافق2024/05/06م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
متلازمة ستوكهولم

قامت الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب لأسباب عدة؛ منها: أساليب الحياة، وأنماط الاقتصاد، وغيرها؛ إلا أن قرار أبراهام لنكولن بتحرير العبيد.


في العام 1973م صكَّ الطبيب النفسي السويدي «نيلس بيجيروت» الباحث في علم الجريمة، مصطلح «متلازمة ستوكهولم» (Stockholm Syndrome).

حاول هذا الباحث أن يُحلّل ردة الفعل الرهائن والضحايا المُختَطَفين مِن قِبَل شخصين مسلحين أرادا السطو على أحد البنوك السويدية، وانتهى بهما الأمر إلى احتجاز عددٍ من الرهائن، ومحاولة ابتزاز الشرطة للحصول على فدية ضخمة 700 ألف دولار مقابل الإفراج عنهم.

الجديد والعجيب في الأمر أنه بعد نجاح الشرطة في إطلاق سراح الرهائن المحتجزين؛ رفضوا الإدلاء بشاهدتهم ضد المختطفين، بل والأعجب من ذلك أنهم شرعوا في جَمْع التبرعات للدفاع عنهم، وتخفيض أحكام السجن التي طالتهم، ودأبوا على زيارتهم والتخفيف عنهم.

لجأت الشرطة إلى لـ«بيجيروت» لمحاولة تفسير تلك الظاهرة النفسية الغربية؛ إذ كيف يدافع الضحية عن جلاده؟! كيف يتماهى مع طلباته ويتوحّد معه؟! لقد ظل هؤلاء المحتجزون 6 أيام في أوضاع مزرية مسلوبي الحرية، لا يستطيعون الذهاب لقضاء حاجتهم إلا بإذنٍ، مُلقَوْن على الأرض، ينامون وهم مقيّدو الأيدي والأرجل.

حار الرجل في الأمر، ولم يصل إلا إلى تحليلات لم يستطع أن يثبتها علميًّا، فنَحَت مصطلح «متلازمة استكهولم»؛ نسبة للمدينة التي وقعت بها الحادثة.

قامت الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب لأسباب عدة؛ منها: أساليب الحياة، وأنماط الاقتصاد، وغيرها؛ إلا أن  قرار أبراهام لنكولن بتحرير العبيد. كان عاملاً فاصلاً في تلك الحرب، وإن من المتصور أن يفرّ العبيد من المناطق الجنوبية التي ظلت متمسكة بحق العبودية إلى المناطق الشمالية حيث الحرية؛ إلا أن ما حدث كان عكس ذلك، فلم تفر من الجنوب إلى الشمال إلا أعداد قليلة من العبيد، بل والأعجب أن آلاف منهم قاتلوا بجانب القوات الجنوبية.

أثناء تلك الحرب كوّنت أيقونة الحرية الأمريكية «هاريت تبمن» مجموعة سرية لإنقاذ العبيد، واستطاعت بالفعل تحرير أكثر من 700 شخص، وتهربيهم إلى الشمال، وحين سُئِلَت في أواخر عمرها عن أصعب المهامّ التي قامت بها إبَّان تلك الفترة، صعقتهم بقولها: «أصعب مهمة قمت بها أن أقنع شخصًا أنه لم يَعُد عبدًا».

يصف لنا الله -سبحانه وتعالى- موقف قوم فرعون عندما دعاهم لحضور تلك المناظرة الكبرى بين السحرة ونبي الله موسى -عليه السلام- قائلين: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40].  رغم أن فرعون كان ظالمًا متكبرًا متجبّرًا يسومهم سوء العذاب، وحانت لهم لحظة خلاص أو حتى انتقام ولو معنويّ يرون فيه فرعون وهو خائب مهزوم منكسر، بغض النظر عن مآلات الأمور بعدها، يكفيهم لحظة يرون فيها ضعف هذا المتجبر ووهنه أمام موسى. لكنهم تمنوا في نفوسهم وصرحوا بألسنتهم أن تكون الغلبة لسحرة فرعون؛ رغبةً في بقائه على حاله من قوة هابوا أن يَفقدها، لقد أسنت نفوسهم وتوحَّدت مع الجلاد؛ فلم يروا الحياة إلا مع إذلال فرعون.

لقد استغل فرعون بني إسرائيل؛ فقهرهم واستعبدهم، ولما حاول موسى -عليه السلام- الخروج بهم من مصر، أبَى هذا الطاغية خروجهم، وهو الذي قتل أبناءهم من قبل. والفرق بين الخروج والقتل أن الخروج هو تحرُّر من ربقة التماهي مع الجلاد، وهو الذي لا يريده أيّ طاغية.

في الحقيقة تصبح متلازمة الديكتاتورية حالة قابلة لوصف شعوب عديدة، في تونس على سبيل المثال أُلْغِيَ البرلمان، وكُتِبَ دستورٌ جديد، وصدرت قوانين بمراسيم جمهورية. صاحَب ذلك تَرَدٍّ في أحوال الناس المعيشية وازدياد في حالات الفقر والبطالة ونُدرة السلع الغذائية.

ما الذي يدفع الناس لقبول هكذا حالة؟! لا حرية ولا رفاهية اقتصادية، ربما يكون دافع الخوف من البطش والتنكيل هو السبب لغياب تعبير الناس عن رفضهم، إلا أنه لا تبدو الأمور في تونس بهذا القدر من القمع مقارنةً بالعديد من البلاد المجاورة. فلماذا لم يرفض الناس تلك الحالة.

عندما تستمع لأصوات الناس المؤيدة لقرارات الرئيس لا ترى فيها تأييدًا لشخصه أو ما يقدّمه من برامج ومشاريع أو حتى وعودًا لم تتحقق. لا تلحظ في كلماتهم إلا الملل من الحرية وتداول السلطة وسماع الآراء المختلفة. يريدون أن يخضعوا لحاكمٍ واحدٍ فرد يحكمهم ويعرفونه أبًا واحدًا لهم؛ ظالمًا كان أو عادلاً.

لقد كانت أربعون بني إسرائيل في التيه عقابًا على عصيان أمر الله بترك الجهاد والخشية من قوة العدو والركون إلى الدنيا، وما كان ذلك إلا من إلف إذلال فرعون الذي استعبدهم فألفت نفوسهم الذلة والضعف والاستجداء.

والحقيقة أن الحاكم والمحكوم في العبودية سواء، يقول ابن تيمية: «وكذلك طالب الرياسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يُعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، وهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم».

إن التوحيد الخالص لله هو وحده الذي يُحرّر النفس البشرية من الخوف، وحبّ الدنيا والميل إلى الشهوات.

عن الوعي والفهم وإدراك حقائق الواقع وموازين القوى؛ يتحدث كثيرون، لكنَّ الحقيقة أن قَدَر هذه الأمة وعزّها في إعزاز نفسها بتحقيق التوحيد درسًا وفهمًا وعملاً.

إن توحيد الله والركون إلى الطغاة لا يجتمعان في قلب عبدٍ، وما دخل أحدهما إلى قلب عبد فأُشْرِبه قلبه إلا أخرَج الآخر منه، وما الحنين إلى الطغاة إلا حنين إلى الدنيا. وما الانعتاق من متلازمة الطغاة إلا بإشراب القلوب خلاصة التوحيد. وهو الطريق لمن رنا الحرية، هذا الخلاص وإلا فلا.

 


أعلى