أُمَّة عريقة الأركان

فمن العراقة التي نالتها الأمة بأركان الإسلام الخمسة أن ارتباطها في التعبُّد والتأله اقتصر على الله الذي لا إله إلّا هو سبحانه، وهو الذي تشهد له بالانفراد بالألوهية، واستحقاق العبودية، ثمّ كان دينها على ما جاء به من عند ربه النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه


الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسنَد رُكبتيه إلى رُكبتيه، ووضَع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلًا، قال: صدقتَ، فعجبنا له: يسأله ويُصدّقه.

قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمةُ ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق، فلبثتُ مليًّا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينَكم» رواه مسلم.

 

ورد هذا الحديث في الترتيب الثاني ضِمْن أحاديث الأربعين النووية، فأصبح بعد حديث النية الذي رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كذلك، ويقوم عليها أصل الديانة، فلا تُقبَل جُلّ الأعمال الصالحة بلا نيَّة، وللنية أحكام وآداب، وفيها فُرَص لمن شاء المتاجَرة بها مع الرب الكريم، وهذا موضع للبحث والكتابة، بيد أنه يرتبط بموضوع هذا المقال؛ إذ النية شرط فيها، وسلامة القصد من الشوائب نابعة من الإيمان وحسن التصور، وتلك حقيقة دين الإسلام العريق القويم المستند إلى الإخلاص والصدق والمتابعة.

أما هذا الحديث العظيم ففيه اجتمع التعريف بالإسلام، والإيمان، والإحسان، ثمّ التحذير من شأن الساعة وبيان أشراطها، وهو حديث عظيم للغاية، ذكَر فيه الروح الأمين جبريل -عليه السلام-، مع الجناب الكريم والنبي الخاتم محمد -عليه الصلاة والسلام-، برواية الخليفة الثاني المُحدَّث المُلْهَم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ثمَّ تلقته الأمة بالقبول والتصديق والحفظ والرواية في أهمّ كتبها، ومرويات أبرز أشياخها ومُحدّثيها، وإن علوم الإسناد والرواية والتلقّي لعلامة كبرى من علامات عراقة الأمة المسلمة لربها ومولاها.

ومن جوانب العراقة البادية لنا من هذا النص الشريف، أن لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أركانًا تعرفها لوضوحها، وتؤمن بها لثبوت سندها، وتطيعها لأنها ربانية لا تُخالف فطرة ولا منطقًا، وتؤديها لأنها ميسّرة غير عسيرة ولا حرجة، وترجو مِن خالقها التوفيق والقبول لتنال بفضله الرحمة والجنان، وهذا عين ما تفقده المِلَل المحرَّفة، والمذاهب البشرية المصنوعة، فما أندر أن يعرف أتباعها أركان معتقدهم، ولو وُجِدَ لديهم منها بعض الشيء لما كان فيه من خصائص أركاننا شيء يُذْكَر.

فمن العراقة التي نالتها الأمة بأركان الإسلام الخمسة أن ارتباطها في التعبُّد والتأله اقتصر على الله الذي لا إله إلّا هو سبحانه، وهو الذي تشهد له بالانفراد بالألوهية، واستحقاق العبودية، ثمّ كان دينها على ما جاء به من عند ربه النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تشهد له بالرسالة والبلاغ، وبهذه الشهادة العامرة بالتوحيد والتصديق يكسب المسلمون الإخلاص لله رب العالمين، والمتابعة للنبي الأمين، مع صدق النية والتوجه، ويرجون النجاة والقبول، وأما غيرهم فربما لا يعرفون لهم ربًّا، أو يشركون به إن عرفوه، ثمّ يخالفون تعاليم نبيهم المُرسَل إليهم، ويُحرّفون كتابه إذا كان لهم نبيّ، وأضلّ منهم مَن يطيع بشرًا يهذي عليهم من تلقاء نفسه بلا وحي ولا رسالة سماوية.

ثمّ رسَّخت الصلاة العراقة لأمة الإسلام، فهي عبادة متكرّرة خلال اليوم والليلة، بها تُمحَى الذنوب، وتدوم الصلة المباشرة بالمعبود، وينتظم اليوم والليلة وساعاتهما، ويزداد النشاط والإنتاج، ويرتفع مستوى النظافة والصحة، ويلتقي المجتمع ببعضه، وتعلو روح الوحدة والجماعة على الصفة الفردية التي تكون مردية إذا أصبحت هي السمة السائدة كما في أمم أخرى. وفي الصلاة إمامة واتباع، ولها أركان وشروط وسنن، وضوابط يلتزم بها المتقدم والمتأخر، ومن خالفها قد يبطل عمله، وتفسد صلاته أو إمامته، وتصح مخالفته وتركه.

كما أن الزكاة تقود إلى العمل والتكسب، وتكسر حدة الجشع والشح والبخل، وترفع من تكافل المجتمع، وتشيع الرحمة والمودة بين طبقاته التي لا بد من وجودها، وهي طُهْرَة لأموال الأغنياء التي ربما شابها ما لا قِبَل لهم بدَفْعه، وسبب من أسباب الحرص على طيب المكاسب، والبعد عن الأعمال المحرمة والمشينة مهما كانت أرباحها مغرية. والزكاة عامل من عوامل زيادة العراقة في الجوانب المالية والاقتصادية والاستثمارية، وأحد أسباب ظهور عراقة المسلمين في مشروعاتهم الخيرية والمجتمعية.

وعندما يأتي شهر رمضان المبارك في موعده السنوي الذي لا يتقدم ولا يتأخر، يغدو المسلم على موعد مع العراقة الآتية من هذا الثبات والتكرار، ويرتقي المجتمع في صورة من صور السمو في الأرواح والأخلاق، وفي حال فريدة من التساوي والتشارك في العمل، ويتسابق الناس في بذل الأسباب بغية العودة لربهم وابتغاء مرضاته، وربما أن هذا الشهر يغسل درن الأيام السالفة؛ حتى يعود الناس إلى حال من الصفاء والنقاء، وإن الأمة العريقة لتوجد من السبل ما يسهل على أهلها العودة إلى جادة الصواب، وإن زلّوا أو رتعوا كي لا يَظلّ الناس أسارى لمأثم أو ذنب، فعفو الله عظيم، ورحمته واسعة، وباب التوبة مشرع لا يُغلَق قبل قيام الساعة.

أما الحج فهو أكبر مؤتمر عالمي سنوي؛ إذ يقصده الناس من كل فجّ عميق، ويبادر له أفئدة من الناس تهفو قلوبهم إلى المناسك والمشاعر، وفيه من دلائل الوحدة في المظهر والقول والفعل والرجاء والأحكام ما لا يخفى، هذا غير التعارف بين أبناء الأمة الواحدة وشعوبها، وابتداء حياة جديدة عقب الحج تختلف تصوراتها ومسالكها عما كان المرء عليه قبل أداء هذا النسك العظيم الذي يربط بين الأمة المحمدية وأنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، ويجعل تاريخ أُمّتنا ممتدًّا لآلاف السنين، يمشي على رأسه وأمام جموعه رسل وأنبياء، وتلك عراقة لا تحتاج إلى إثبات.

وفي أركان الإيمان عراقة الاعتقاد القلبي الصادق والصحيح بالرب الإله سبحانه، وبعوالم من الملائكة والرسل دون أن يراهم المؤمن، وبكتب مُنزَّلة على أقوام سابقين قبل تحريفها، وبأحداث مستقبلية لمَّا تحدث بعدُ، وبالقدَر وما فيه من خير أو شر، وهو إيمان يهب صاحبه قوة ومرجعية، ويحثّه على العمل وصدق الرجاء، ويوقفه على حقيقة مفادها أن الدنيا ممر عابر، وأن القوة والعزة لله ربّ العالمين، وليست لقوى الأرض مهما طغت وتمكنت، وبالتالي فالمؤمن يملك الحرية من قيود الأرض الثقيلة بمثل هذا الإيمان.

وللإحسان آثار جليلة جليَّة على المُوفَّق من المسلمين والمؤمنين، فهو في كل شأنه يتعبَّد لله كأنه يراه أمامه، فيُصفّي النية، ويُحْسِن العمل، ويجود الأداء، فإن لم يكن يراه -وهذا هو الحال- فإن الرب الخبير البصير يرى عبده ومكانه وعمله وما في قلبه، وتلك الرؤية موجبة للتذلل والشفقة والإحسان الباطن والظاهر مِن قِبَل العباد، وأيّ كمال تناله الأمة إذا تكاثر فيها المحسنون من أهلها؟ وأيّ خيرية تزداد، وإتقان يُوجَد، وعراقة تتجذر بتوافر الإحسان والمحسنين؟

إن هذه الأمة الإسلامية لأمةٌ عريقة بأركان الإسلام والإيمان والإحسان، فهي تجعلها مرتبطة بالله العظيم سبحانه، وماضية على هَدْي خاتم الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، وسائرة ضمن قافلة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا.

وإن تلك الخصائص لمُتاحة لكل أحد أيًّا كان جنسه أو لونه أو عمره أو عمله أو موضعه أو ماله؛ فالكريم الأكرم هو التقي والأتقى، وهذه عراقة سامية ما أندرها لدى الناس والأمم قاطبة العالقين في مقاييس أرضية زائلة باهتة، وإن بدت على أنها باقية باهرة.

كما أن هذه الأركان بما فيها من إجمال وتفصيل، تُحيل الأمة دومًا إلى القرآن والسنة وإجماع العلماء، وفي هذه الإحالة تثبيت لطرق الاستدلال ومناهجه، وإنما ضلَّت الأمم الأخرى حين حادت عن مراد الرب -عز وجل-، وخبطت خبط عشواء في أهواء وشُبَه، وخاضت في وحل شهوات شتى، ولم تضبط أولوياتها وأصولها، وإن وجود مأرز بارز يُحتكم إليه ويُقدم على غيره؛ لسبب من أسباب تحقيق العراقة، والحماية من الزيغ والضلالة.

ويُضاف لذلك أن تلك الأركان المفروضة من المولى -تقدست أسماؤه- تُفهَم باللغة العربية، وتحسب بالتقويم القمري، وتستلزم وجود الجماعة والطاعة بالمعروف، وتوجد المجتمع والكيان، وتحثُّ على العمل والتعبد لله في كل شأن، وتوازن بين الروح والمادة، وتساوي بين الكافة، وتفتح الباب للتوبة والإنابة دون وسيط، وبها تمتاز الأمة عن غيرها، وإليها تكون الدعوة لا إلى شخص، أو بقعة، أو فكرة أرضية، وذلكم من مكامن العراقة وأصولها، فالحمد لله القائل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].

 والحمد لله أن صمدت أُمتنا على الدين والمنهج قائمة مستقيمة غير كسيرة ولا عرجاء!

  

أعلى