• - الموافق2025/12/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الغيب

الإيمان بالغيب أساس من أسس العقيدة الإسلامية، وبه يتميّز المؤمن، بينما يُعدّ ادعاء علم الغيب والكهانة والتنجيم انحرافًا خطيرًا؛ إذ إن الغيب المطلق مختصّ بالله وحده، والتعدّي عليه ضلال وكفر.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فهذه المفردة: (غَيْب) قصيرة الحروف، عظيمة القَدْر، واسعة الدلالة، شديدة الوضوح في الإسلام جدًّا، وعليها مدار أركان الإيمان الستة كلها.

والغيب في اللغة: مصدر غاب يَغِيبُ غِيابًا، وغَيْبًا، وغَيْبَةً، وغَيْبُوبةً، وهي كلمة تدل على تَسَتُّرِ الشيء عن العيون. كقولنا: غابت الشمس، ومنه الغابة؛ لأنه يُغاب فيها، والغِيبَة وهي الوقيعة في الناس؛ لأنها لا تقال إلا في غَيْبَةٍ، ومنه قول إخوة يوسف -عليه السلام-: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف: 10]؛ أي: قعرها، لأنه يغيب فيها فلا يُرَى[1].

وحقيقة الإيمان بالغيب: التصديق التام بكل ما غاب عن حواسنا أو علمنا؛ كلّ بحسبه، مما ورد في الكتاب والسُّنة، أو أخبرت به الرسل، من وجود الله تعالى، وصفاته، وحقائقها وكيفيتها، والغيوب الماضية والمستقبلة؛ من الأمم السابقة، والحوادث اللاحقة، وأمْر الموت والقبور، والبعث والنشور، والحساب والجزاء، والجنة والنار، وغيرها، ويتيقنها المسلم، وإن لم يشاهدها أو يفهم كيفيتها.

وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المُشاهَدة والمحسوسة، فإنه لا يتميز به مسلم من كافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نَره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا الإيمان الذي يتميَّز به المسلم من الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يُؤمِن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقَله، أو لم يهتدِ إليه عقْله وفهْمه. بخلاف الزنادقة والمُكذّبين بالأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المُقصِّرة لم تهتدِ إليها، فكذَّبوا بما لم يُحيطوا بعِلْمه؛ ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. في المقابل، زكت عقول المؤمنين المصدّقين المهتدين بهدى الله، فامتدحهم وزكاهم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وأتى بـ«على» في هذا الموضع، للدلالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ«في» كما في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]؛ لأن صاحب الهُدَى مُستعْلٍ بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال مُنغمِس فيه مُحتَقر[2].

كهانة العصر

تَرُوج بضاعة التنبؤات والكهانة، وتقوم سُوقُها الكاسدة، على سُوقِها النَّخِرة الهزيلة الفاسدة، في المجتمعات الجاهلة، وتتعالى أمواجها الهوجاء عند بدايات الأعوام الشمسية والقمرية ونهاياتها، وكلٌّ يَستعرض بضاعته، عبر القنوات الفضائية والشاشات، وحسابات التواصل الاجتماعي ومواقع الشبكة العنكبوتية، وبعض المجلات الكاسدة، والصحف الفاسدة، وغيرها! وقد تطفو على السطح توقُّعات لا  دليل عليها، ربما بلغت بالبعض حدّ الكهانة، فيتحدثون عن السِّلم والحرب، والمجاعات والرخاء، والاتفاقات والاختلافات، والموت والحياة، وقيام دول وسقوط أخرى.. إلى ما لا نهاية له ولا ضابط، من هذه التكهنات.

ولا تَحيك هذه العناكب أعشاشها الواهية الواهنة إلا في ذَرا الجهل، وتحت خيمته، وتتهشم في ذُرا العلم والوعي.

وإمعانًا في التعمية وإضفاء الهيبة، يَعمد بعضهم إلى ذَرِّ شيء من الحركات المُنمَّقة، مخلوطة بشيء من الزمزمة والهمهمة والطلاسم على تنبؤاتهم؛ ليخطف بها أبصار البسطاء، ويمدّوا بها إليه أعناقهم.

وهذا كله لا يعدو أن يكون نوعًا من أنواع التطفُّل على الغيب ومحاولة اقتحام أسواره المنيعة، ذلك الغيب الذي اختصه الله لنفسه، وأحاطه بحُجُب كثيفة، وأرسل الشُّهَب لتُنْزَع من النجوم نزعًا فتحرق مسترقي السمع من شياطين الجن في فضاء الكون الواسع؛ {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب  ﭬ  وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِد ﭲ   لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب ﭼ  دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِب إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِب} [الصافات: 6-10]، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 8- 9]، لتنطلق بسرعاتها الهائلة في فضاء الكون لتحرق المتطفلين على الغيب من الشياطين، المتكسبين من ورائه تقديرًا وتقديسًا من البشر وإرهابًا وإرعابًا لهم؛ {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ على صفوان، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -ووصف سفيان بكفّه فحرفها، وبدَّد بين أصابعه-، فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى مَن تحته، ثم يُلقيها الآخر إلى مَن تحته، حتى يُلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يُدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصَدَّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء»[3].

وقالت عائشة -رضي الله عنها-: سأل أناسٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم  عن الكُهّان، فقال: «إنهم ليسوا بشيء». فقالوا: يا رسول الله، فإنهم ُيُحدّثون بالشيء يكون حقًّا؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «تلك الكلمة من الحقّ، يخطفها الجني، فيُقرقرها في أُذن وليه كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة»[4].

هذا الغيب هو الذي استأثر الله تعالى به لنفسه، فلا يعلمه مَلَكٌ مُقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، ولا أحد من الخلق مهما علا قدره، وارتفعت منزلته، إلا بالقَدْر الذي يَفتحه الله تعالى له؛ قال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﯼ  إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26- 27]، وهاهم الملائكة العظام الكرام، القريبون من رب الأنام، الذين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، نفى الله عنهم عِلْم الغيب؛ كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِين ﭿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [البقرة: 31- 32]. وقال تبارك وتعالى لهم بعد ذلك: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]، وهذا من إحاطة علمه سبحانه، فإذا كان عالمًا بالغيب فالشهادة من باب أولى[5].

وهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم  يُعلنها بين قومه، ويُكرّرها: {لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50، هود: 31]، ويقول صلوات الله وسلامه عليه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}[الأعراف: 188]؛ «أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يُفْضي إلى سوء ومكروه، لعِلْمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تُفْضِي إليه، ولكني -لعدم علمي- قد ينالني ما ينالني من السوء، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها، فهذا أدلّ دليل على أني لا علم لي بالغيب[6]، (وَمَا هُوَ) صلى الله عليه وسلم  (عَلَى الْغَيْبِ) الذي أوحاه الله إليه (بِضَنِينٍ)؛ أي: بمُتَّهَم يزيد فيه أو ينقص، أو بخيل شحيح يكتم شيئًا منه[7].

وفي صحيح مسلم[8] عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: « ومن زعم أنَّه -أي: النبي صلى الله عليه وسلم - يُخبر بما يكون في غدٍ؛ فقد أعظَم على الله الفِرْيَة، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].

وروى خالد بن ذكوان عن الرُّبَيِّعِ بنت مُعَوِّذِ بن عَفْرَاءَ -رضي الله عنها- أنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم  غداة بُنِيَ عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن مَن قُتِلَ مِن آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبيٌّ َيَعْلم ما في غدِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين»[9]، وفي رواية أنه قال: «دَعِي هذا، وقولي بالذي كنت تقولين»[10].

وأمَره الله تعالى أن يقول لقومه: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9].

فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما بال الضِّعَةِ من الناس اليوم يزعمون أنهم يتجوّلون في عوالم الغيب، ويستخرجون نفائسه، ويذيعون أسراره!

قال البخاري في صحيحه[11]: «وقال قتادة: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]؛ خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتَدى بها، فمن تأوَّل فيها بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به».

 زاد الخطيب البغدادي في روايته عنه: «وإن أناسًا جهلة بأمر الله تعالى قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: مَن أعْرَس بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ولعمري ما من النجوم نجم إلا يُولَد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والذميم، قال: وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب، وقضى الله تعالى أنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} [النمل: 65].

ولعمري لو أن أحدًا عَلم الغيب لعَلِمَه آدم الذي خلقه الله تعالى بيده، وأسجَدَ له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، فأكل منها رغدًا حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة، فما زال به البلاء حتى وقع بما نُهِيَ عنه.

ولو كان أحد يعلم الغيب لعلمه الجن حين مات نبي الله سليمان -عليه السلام-؛ فلبث الجن يعملون له حولًا في أشد العذاب وأشد الهوان لا يشعرون بموته، و {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ}  [سبأ: 14]، وهي في مصحف عبد الله: تبينت الإنس أن الجن {لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين}، قال: قد كانت تقول قبل ذلك: إنا نعلم».

وهذا سليمان -عليه السلام- الذي سخَّر الله له الجن والإنس والطير، وآتاه مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده؛ لم يعلم بأن قوم سبأٍ في اليمن يعبدون الشمس من دون الله تعالى حتى أخبره الهدهد، طائرٌ صغيرٌ أخبره بذلك، وجرى ما جرى مما قصَّه الله تعالى علينا في سورة النمل[12].

ونراهم يكتفون بالكلام المُجْمَل الذي يصدق على كل حدث، فمن ذا الذي لن تواجهه في حياته صعوبة، وقد قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد} [البلد: 4]! أو يمر به يوم جميل! ليظل هذا المسكين المخدوع بقية عمره يحمل كل حدث سارّ أو صعوبة تمر به على تنبؤات ذاك المشعوذ.

جلست طالبة في كليتها على طاولة المطعم، فجاءتها أخرى لا تعرفها، وسألتها في أيّ بُرْج وُلِدْتِ؟ فقالت: في برج كذا وكذا، فقالت على الفور: ستكون ميتتك بحادث سيارة أو بمرض في الرأس.. ومضت.. وتركت هذه المسكينة في دوامة من الهلع والترقب!

إن أمر الغيب إلى الله تعالى، ومفاتيحه بيده سبحانه، قال تعالى عن نفسه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، فـ«هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلًا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يُطْلِع منها ما شاء مِن خلقه، وكثير منها طَوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلًا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها. {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة {إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ} من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات. {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} هذا عموم بعد خصوص {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل عليها. فهذه الآية، دلَّت على عِلْم الله المحيط بجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الحوادث»[13].

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله»[14]. وفي رواية أخرى: «مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}» [لقمان:34][15].

وشُبّه الغيب -لجلالة قدره وعظيم شأنه- بخزائن النفائس، الموثقة بالأقفال، التي لا يمكن التوصل إليها، ولا معرفة ما فيها، إلا عن طريق مَن بيده مفاتيحها، سبحانه وتعالى.

مدح المؤمنين بالغيب

أثْنَى الله تعالى على {الذين يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}؛ في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﭥ  وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1-5]، وامتدح الذين: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} [الأنبياء: 49، فاطر: 18، الملك: 12]، ومن {وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: 11، ق: 33]، و{مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94].

قال صالح بن جبير: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم  بيتَ المقدس ليُصلِّي فيه، ومعنا رجاء بن حيوة يومئذ، فلما انصرف خرجنا معه لنُشيِّعه، فلما أردنا الانصراف قال: إن لكم عليَّ جائزة وحقًّا؛ أُحَدِّثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: فقلنا: هاته يرحمك الله! قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، قال: فقلنا: يا رسول الله! هل مِن قوم هم أعظم منا أجرًا؛ آمنا بك واتبعناك؟ قال: «ما يمنعكم من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  بين أظهُركم، يأتيكم بالوحي من السماء؟! بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرًا»[16].

لقد شبَّه الله تعالى المكذبين بالحق، القاذفين بشُبَههم المظلمة في ساحة الحق المضيئة بمن يقذف بتخرُّصات في أمور الغيب؛ فقال تعالى: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيد} [سبأ: 53]، فأَنَّى للرامي من مكان بعيد أن يُصيب هدفه؟![17]

خطورة الحَوَمان حول حمى الغيب

إن ادعاء علم الغيب كفر، وتصديق المدعين لعِلْم الغيب كفر. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «من أتى كاهنًا، أو عرّافًا، فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفَر بما أُنزل على محمد»[18]، هذا وعيدٌ مَن يُصدّقهم، أما وعيد مَن يُكَثِّر سوادهم، بمجرد المجيء إليهم -ولو من باب الفضول، من غير تصديق لهم-؛ فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تُقْبَل له صلاة أربعين ليلة»[19].

أدعياء علم الغيب

يتّخذ ادّعاء علم الغيب صورًا وأشكالًا مختلفة؛ منها القديم، ومنها الجديد.

وأدعياء علم الغيب كثيرون: منهم الكُهَّان والعرَّافون، والمُنجّمون والمشعوذون وقراء الكفّ، والفنجان، والحروف، وأصحاب البروج والطوالع، والبانون المستقبلَ على معاني الأسماء، وخطَّاطو الرمال، وكلهم دجال كذاب.

والإسلام يحثّ ويشجّع على البحث والتأمل، والنظر والاستدلال، وهذا في الأمور المتاحة الممكنة، التي يستعين بها البشر على تسهيل أمور حياتهم، واستثمار الخصائص الطبيعية في هذا الكون؛ إلا أن المحذور هو الخوض في الغيب فيما وراء المحسوسات، فإنه متاهة لن يؤوب منها العقل إلا بالضلال المبين.

أنواع الغيب

الغيب نوعان: غيب مُطلَق وغيب نِسْبي. فأما الغيب المطلق المُحْكَم المحفوظ فهو الذي لا يعلمه إلا الله، ولا سبيل لمخلوق إليه، كعلم الساعة، فهذا إسرافيل -عليه السلام-، المُوكَّل بالنفخ في الصور، لا يعلم متى يُؤمَر بالنفخ فيه، فعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «كيف أَنْعَمُ! وقد التقمَ صاحبُ القَرْنِ القَرْنَ، وحنَى جَبْهَته، وأصْغَى سَمْعَه، يَنْظُر متى يُؤْمَر»[20].

وأما الغيب النِّسبي فهو ما يعلمه أحد دون أحد، فهو غيب في حق مَن غاب عنه، وله أحكام الغيب، فمن حضر أمرًا فهو في حقه شهادة، وفي حق مَن لم يحضره غيب.

وما ورد الخبر عنه في الوحي مما يقع في المستقبل فهو غيب حتى يقع، وحين يقع تنتفي صفة الغيبية عنه في حق مَن حضره؛ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأوِيلَهُ يَوْمَ يَأتِي تَأوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلُ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53]، والحوادث القادمة كلها غيب في حقّ مَن سبقها، وفي حق مَن سيأتي بعدها، لكنّها مِن عالم الشهادة لا الغيب لمن سيدركها.

وأحداث القيامة والجنة والنار هي غَيْب لنا اليوم، شهادة حين نَحْضُرها ونراها.

ومن هذا الغيب النسبي ما يُطْلِع الله عليه الملائكة في صُحفها، وما يُرسِل به المَلَك إلى الجنين في بطن أُمّه.

الاطلاع على الغيب

قد يُطلِع الله على شيء مِن غَيْبه مَن يشاء مِن عباده؛ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، من أمثلة ذلك:

• الملائكة المُوكل إليهم شيء من الأعمال، كالقطر والنبات والأجنة وقبض الأرواح.

• النبيون المُؤيَّدون بالوحي المُخْبِر عن الماضي والمستقبل.

• الرؤى المنامية الصالحة، فعن أبي هريرة، -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «... ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة...»[21]، لذا فالكذب في الرؤى من الكبائر، فهو عبثٌ بالغَيْب، له وَعِيده، فعَنِ ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أن يُرِي عَيْنه ما لم تَرَ»[22]، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، -رضي الله عنهما-، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «مَنْ تَحَلَّم بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّف أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ...»[23]، وتأويلها يدخل في باب الظن الغالب، وليس من باب اليقين، فهذا يوسف -عليه السلام- الذي زكَّى الله تأويله بقوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 21]، وأقر هو -عليه السلام- بذلك قائلاً: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]؛ ها هو يُؤوِّل ولا يَجْزم.. فقد قال عن أحد فتيي السجن: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، هكذا (ظنّ).

• ما يُقْذَف في القلب من الإلهام للأتقياء البررة، كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فإنه مُحَدَّث مُلْهَم، وقد توسَّعت بعض الطوائف المنحرفة في هذا الموضوع، وحطَّمت حواجز الضوابط والشروط.

والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.


 


[1] انظر: لسان العرب (1/654)، ومقاييس اللغة (4/403).

[2] انظر: تفسير السعدي (40)، و(122).

[3] أخرجه البخاري (4522)، ومسلم (229).

[4] أخرجه البخاري (7122).

[5] انظر: تفسير السعدي (49).

[6] تفسير السعدي (311).

[7] انظر: تفسير السعدي (912).

[8] أخرجه مسلم (287).

[9] أخرجه البخاري (3779).

[10] أخرجه البخاري (4852).

[11] صحيح البخاري (ص: 1168، 1169).

[12] القول في علم النجوم للخطيب البغدادي (ص: 185، 186).

[13] انظر: تفسير السعدي (259).

[14] أخرجه البخاري (6944).

[15] أخرجها البخاري (4500).

[16] أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (88)، والطبراني في المعجم الكبير (3540)، وجوَّد إسنادَه الألبانيُّ في سلسلة الأحاديث الصحيحة (‌‌3310).

[17] انظر: تفسير السعدي (683).

[18] أخرجه الإمام أحمد (9536)، وحسَّنه محققو المسند.

[19] أخرجه مسلم (2230).

[20] أخرجه الإمام أحمد (11039)، وصححه محققو المسند.

[21] أخرجه مسلم (2263).

[22] أخرجه البخاري (6636).

[23] أخرجه البخاري (6635).

أعلى