أزمة العلاقات الأوروبية الأمريكية... حقيقتها وتداعياتها

إن أهم الخسائر التي قد تواجهها القارة الأوروبية في حال فقدت المظلة الدفاعية الأمريكية؛ هي: عملية الردع النووي التي كانت تسهم بصورة كبيرة في احتواء الصراع في أوكرانيا، والتحكم في وتيرة سرعته


في اللحظة التي أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ترشُّحه للرئاسة، أصابت موجة من الارتباك والترقب النُّخَب السياسية الأوروبية؛ لأن صعود الرجل للسلطة تعني شيئًا واحدًا، وهو زيادة الفجوة بين كتلتين في القارة العجوز:

الأولى: تبحث عن أوروبا يمينية متطرفة يقودها رئيس الإتحاد الأوروبي الحالي؛ الرئيس المجري فيكتور أوربان، الذي يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا عبر اتفاق سلام مع روسيا، وهو أمرٌ يتبنَّاه ترامب.

والأخرى: تعتلي قمتها ألمانيا وبريطانيا، وتدفع باتجاه التصعيد مع روسيا واستمرار الحرب.

تقول مجلة بولتيكو: «إن عودة نجم تلفزيون الواقع إلى السلطة في واشنطن ليس فقط اختبارًا للعلاقات عبر الأطلسي، بل أيضًا يُعتبر خطرًا وجوديًّا على الوحدة الأوروبية، وسيكون أبرز مُحفّزاتها السياسة التجارية التي بدأها ترامب مع البلدان الأوروبية بفرض ضرائب على العديد من السِّلع المُصدَّرة إلى الولايات المتحدة، وملف الإنفاق على الناتو».

وقد نجحت القارة الأوروبية في تجاوز الفترة الأولى لحكم ترامب، لكنّ المؤشرات تدلّل أن الجولة الثانية في حال فوز ترامب في الانتخابات ستكون أصعب من سابقتها، لا سيما وأن ترامب يتبنَّى موقفًا واضحًا بشأن إنهاء الحرب الأوكرانية بوصفها واحدة من أكبر الملفات التي تستنزف الخزانة الأمريكية. وكذلك مسألة تقليص مشاركة الجيش الأمريكي في المناورات المشتركة مع الناتو، بعد أن أقرَّ الكونجرس قانونًا يمنع الانسحاب من الناتو دون موافقة أعضاء الكونجرس.

التهديدات الواضحة التي تبنَّاها ترامب في فترته الرئاسية الأولى؛ جعلت أوروبا تُعيد صياغة إستراتيجيتها الدفاعية؛ من خلال إعلان فرنسا وألمانيا وبلدان أوروبية أخرى عن حقبة جديدة في السياسات الدفاعية؛ عن طريق تمويل مشاريع تسليح مكثَّفة لجيوشها؛ لتفادي الوصول إلى نقطة انفصال واشنطن عن حلف شمال الأطلسي. 

لقد أظهر ضغط ترامب على الأوروبيين محورًا مهمًّا في القدرات الدفاعية الأوروبية، وهو عدم وجود وحدة دفاعية بين أعضاء الاتحاد، والتوجُّه العام نحو المشاريع الدفاعية الفردية؛ فقد أظهرت خطة الاقتراض المشتركة لزيادة الإنفاق العسكري الأوروبي، والتي تدعمها إستونيا وفرنسا، معارضة شرسة في عواصم أخرى، وخاصةً برلين. وفي حين يتزايد الزخم السياسي لمثل هذه الخطة؛ فإن معارضة ألمانيا تدفع الكتلة الآن إلى التفكير في بدائل أخرى.

إن أهم الخسائر التي قد تواجهها القارة الأوروبية في حال فقدت المظلة الدفاعية الأمريكية؛ هي: عملية الردع النووي التي كانت تسهم بصورة كبيرة في احتواء الصراع في أوكرانيا، والتحكم في وتيرة سرعته؛ فالدول التي تمتلك رؤوسًا نووية هي فقط بريطانيا وفرنسا، وهي ملتزمة فقط بالدفاع الوطني، فقد عرضت فرنسا القيام بدور للردع النووي الأوروبي، لكنَّ مشروعها واجَهه رفض ألمانيا. 

لذلك تشير التحليلات القادمة من بروكسل إلى أن فقدان الكتلة الأوروبية المظلة الدفاعية الأمريكية يعني إطلاق سباق تسلُّح شرس، قد يجعل العالم يتجاوز نتائج الحرب العالمية الثانية، وهذا الأمر من شأنه تغيير قدرة واشنطن على التحكم في تداعيات مثل هذه الخطوة وصياغة تحالفات جديدة لن يكون وجودها في مصلحة واشنطن.

وأبرز هذه التداعيات: الملف الاقتصادي الذي تضرَّر في عهد ترامب عقب فَرْضه تعرفة جمركية تصل إلى 10% على الواردات الأوروبية، بالإضافة إلى استيراد الكتلة الأوروبية أكثر من 50% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي المسال عبر الأراضي الأوكرانية.

لا تُواجه أوروبا فقط القرارات الأمريكية المصادمة لوجهتها السياسية، بل أيضًا تواجه اختراقًا داخليًّا ينادي به الرئيس المجري فيكتور أوربان، يتعلق بتحسين العلاقات مع روسيا، و«استعادة أوروبا العظيمة»؛ وهو شعار تتبنَّاه رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني ومجموعة من القوى اليمينية في أوروبا، وأبرزهم أوربان الذي يتولى رئاسة الإتحاد الأوروبية في الفترة المقبلة، وهو من الشخصيات الأوروبية التي تتمتَّع بعلاقة عميقة مع ترامب.

لذلك يُعتَبر التقرُّب من ترامب رهانًا أفضل بالنسبة لبعض الساسة الأوروبيين؛ الذين يرفضون استمرار الحرب في أوكرانيا، ويحاولون التهرب من تدخلات الناتو في حروب الشرق الأوسط والصراع مع الصين. لكنَّ بعض الحقائق التي يمكن أن تُواجه أوروبا لا تتعلق بالسياسيات العسكرية أو حسم الصراع في أوكرانيا فقط، بل إستراتيجية ترامب الأساسية، وهي تبنّي سياسيات عامة من شأنها تحفيز مسارات اقتصادية لاستنزاف الموارد المالية الأوروبية، مثل التعرفة الجمركية، أو التعاون الاقتصادي بين الصين والكتلة الأوروبية.

في تحليل لغولدمان ساكس بشأن الحالة الاقتصادية الأوروبية في حال صعود ترامب؛ بيَّن أن حالة عدم اليقين بشأن السياسيات التجارية والضغوط الدفاعية والأمنية، قد تؤثر سلبًا على منطقة اليورو، ويزيد من ذلك ملف العجز التجاري الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال مرتفعًا؛ بحسب تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية.

ورغم كل التفاصيل الواردة والآراء والبيانات المتضاربة بشأن العلاقات الأمريكية الأوروبية؛ إلا أن تيري بريتون، المفوّض الأوروبي للسوق الداخلية، يرى أن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبروكسل؛ سواء كان ترامب أو بايدن في الحكم، يحكمها شعار «أمريكا أولًا»، فالحاجة إلى التماسك بين واشنطن وبروكسل حاجة تفرضها الكثير من التحديات الخارجية؛ مثل: قضايا الشرق الأوسط، والصراع مع الصين وموسكو. أما الضغوط الأمريكية فتأتي في سياق استنزاف الموارد المالية الأوروبية لموازنة الميزان التجاري بين الطرفين. إنه يتعين على الاتحاد الأوروبي ألَّا يبقى ساذجًا، وأن يبني علاقات قوة مع الولايات المتحدة»، مضيفًا أن «البيت الأبيض سواء بحضور بايدن أو ترامب فإنه يستخدم الشعار ذاته: أمريكا أولاً».

أعلى