• - الموافق2025/07/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هل اقتربت نهاية المشروع الإيراني؟

ما مدى الأضرار التي لحقت بالمشروع الإيراني في المنطقة؟ وما تأثير تلك الضربات المتلاحقة، والتي بدأت منذ أكثر من عام، وعقب اندلاع معركة الطوفان بشهور قليلة، على وضع المشروع الإيراني وتمدُّده في المنطقة؟


في واحدٍ من أكبر التحديات التي واجهت الجمهورية الإيرانية منذ نشأتها، وفي الساعات الأولى من فجر يوم الجمعة الموافق للثالث عشر من شهر يونيو 2025م، وبقوة 200 طائرة، وأكثر من 300 قنبلة وصاروخ؛ شَنَّ الكيان الصهيوني أُولَى ضرباته الجوية التي استهدفت البرنامج النووي الإيراني، وقيادات النظام الإيراني الحاكم، في عمليةٍ أطلقوا عليها «الأسد الصاعد».

استهدفت تلك العملية في يومها الأول مائة هدف، من أهمها: برامج التخصيب النووي، والصواريخ الباليستية الإيرانية، بالإضافة إلى القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين. ووفق المصادر الصهيونية، فقد بلغت هجمات سلاح الجو الصهيوني أكثر من 1000 ضربة ضد إيران خلال 10 أيام.

وقبلها بنحو عام، قصَف الكيان القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي أسفَر عن قتل ضباط كبار في الحرس الثوري، وردَّت إيران بقصف الكيان بصواريخ منزوعة الرؤوس المتفجّرة، وتبعها ردّ صهيوني لإيران بقصف محدود طال الدفاع الجوي الذي يحمي المنشآت النووية الإيرانية.

وفي أكتوبر من العام الماضي، عاد الكيان ليقصف إيران في ضربة أكبر من سابقتها، حين شاركت أكثر من مائة طائرة صهيونية، بما في ذلك مقاتلات F-35، في قصف نحو 20 هدفًا في إيران، من بينها: بطاريات الدفاع الجوي، ونظام الدفاع الجوي الروسي S-300 في إيران، ومنشأة نووية في بارشين.

وفي نفس الوقت، تَحُوم شبهات كبيرة على دور الموساد في إسقاط طائرة رئيس الجمهورية الإيرانية إبراهيم رئيسي في مايو ٢٠٢٤م، كما اغتال الكيان الصهيوني في يوليو ٢٠٢٤م قائد حركة «حماس» إسماعيل هنية، في أثناء زيارته لإيران.

ثم كان الختام بالقصف الأمريكي للمفاعلات النووية الإيرانية، والذي استخدم فيه قاذفات B-2 الشبحية وقنابل GBU-57 الخارقة للتحصينات وصواريخ توماهوك.

ولكنّ هذه الضربات المتتالية المُوجَّهة مِن قِبَل الكيان الصهيوني أو الولايات المتحدة لم تُوجَّه لإيران فقط. فقبلها تم إلحاق الضرر الأكبر بالذراع الرئيسي لإيران في المنطقة، وهو حزب الله، باغتيال قياداته السياسية والعسكرية، وتفجير أجهزة البيجر لدى كوادر الحزب وعائلاتهم، وقصف أماكن وجود الشيعة والمقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت.

وكلّ هذا يَدفعنا إلى التساؤل عن مدى الأضرار التي لحقت بالمشروع الإيراني في المنطقة؟ وما تأثير تلك الضربات المتلاحقة، والتي بدأت منذ أكثر من عام، وعقب اندلاع معركة الطوفان بشهور قليلة، على وضع المشروع الإيراني وتمدُّده في المنطقة؟

لمحاولة سَبْر أغوار مدى تأثُّر المشروع الإيراني ومستقبله، لا بد أولًا من استعراض طبيعة هذا المشروع وإستراتيجياته، ومدى ما وصل إليه قبل بدء هذه الضربات، ثم نُعرّج إلى الخسائر العسكرية التي تكبَّدها من هذه الضربات، ثم نحاول تحليل تأثير تلك الخسائر العسكرية على مكانة إيران الإستراتيجية، وما يترتب بعد ذلك على الصراع في المنطقة.

مشروع يتمدّد ويتوغل

في أعقاب ثورة أطاحت بالشاه الحاكم السابق لإيران عام 1979م، ظهر على رأس هذا النظام الجديد ما اعتبره كثير من الإيرانيين زعيم هذه الثورة، والذي أطلق على نفسه «روح الله» الخميني.

ومنذ مجيئه اصطبغ النظام بصبغة دينية مذهبية، وامتد تأثيره ليس على الداخل الإيراني فقط، بل امتدَّ تأثيره ليشمل بعض الطوائف الشيعية في الإقليم والعالم.

وبعد قيام النظام الجديد بعدة شهور، تم إصدار دستور جرى فيه تحديد هوية الدولة الجديدة وطابعها.

وفي عام 2005م، أصدرت الحكومة الإيرانية وثيقة أبرزت فيها رؤيتها في العشرين عامًا القادمة، هدفها كما يلي: أن تصبح إيران بحلول عام 2025م بلدًا متقدمًا يحوز الموقع الاقتصادي والعلمي والتقني الأول في منطقة جنوب غرب آسيا، التي تشمل جوار إيران وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط، بل وصاحبة دور مُؤثّر في العلاقات الدولية.

ثم عاد مرشد إيران علي خامنئي في عام 2016م، ونشر وثيقة أطلق عليها «النموذج الإسلامي الإيراني التأسيسي للتقدم»، حدَّد فيها أنه في خلال خمسين عامًا، أي بحلول عام 2065، سوف تكون إيران من حيث المستوى العام للتقدُّم والعدالة ضمن البلدان الأربعة الأولى في آسيا والبلدان السبعة الأولى في العالم.

 لكنْ، وبصرف النظر عن ديباجات الدستور والوثائق، فإن المتتبِّع للسلوك الإيراني نفسه، وما يتساقط من بعض المسؤولين فيها من تصريحات على فترات متباعدة، يستنتج أن إيران لا ترى نفسها دولة ذات حدود محكومة بالشرعية الدولية، بل دولة لها حُلْم الصعود في النظام الدولي، تستمدّ هويتها من شيئين: الصبغة الفارسية، وما تُمثّله من ماضي إمبراطوري، ثم عقيدة الولي الفقيه الذي يأمر ويحكم من طهران، ويُوجِّه الدولة من خلال عشرات المؤسسات، ويجتمع مع مندوبيه وممثليه بالدول المجاورة، الذين أقسموا له يمين الطاعة في المنشط والمكر، وباتوا لا يُخْفُون ولاءَهم وتبعيتهم المباشرة له، وإيمانهم بأنه ولي أمرهم في السياسة قبل الفقه؛ بأمره يعلنون الحرب، وبعد مشورته يَقبلون بالسلم، غاضِّين الطرف عن مصلحة مَن يتعايشون معهم في تلك الأوطان، فهم لا يرون في البحرين أو لبنان أو سوريا (قبل التغيير) أو العراق وطنًا، وإنما يعيشون في ظل ولاية لا حدود جغرافية لها، وأن هذه الأوطان ما هي إلا مرحلة عابرة حتى يأتي ذلك اليوم الموعود الذي يسود فيه حكم ممثل الإمام الغائب الولي الفقيه.

ويصف الباحث الأمريكي في معهد واشنطن «آش جين» مهمة إيران العالمية، بأنها ترتكز على استبدال النظام الدولي الحالي بنموذج جديد يقوم على المثل العليا للثورة الإسلامية (النموذج الشيعي والولي الفقيه).

وهذا ما قاله بصراحة أحد قيادات النظام الإيراني علاء الدين بروجردي، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، في حديث لوكالة تسنيم الدولية للأنباء منذ أيام وعقب الضربات الصهيونية الأخيرة حين قال: «ستتحول إيران إلى واحدة من القوى البارزة والعظمى في العالم».

ولكن إذا كانت تلك الرؤية الإيرانية، فما هي إستراتيجيتها لتحقيق تلك الرؤى والأحلام؟

استهلكت إيران عدة سنوات لكي تتحوَّل من رؤية ثورية لتصبح رؤية لدولة، و«لتتخطَّى اللحظة الانفعالية الدينية الأولى»، كما أطلق عليها الباحث الأمريكي ذو الأصل الإيراني «فالي نصر»، في كتابه (الإستراتيجية العظمى لإيران: تاريخ سياسي).

وتمثَّل صعود إيران الإستراتيجي في عدة مراحل:

أولًا: إقامة نظام سياسي متماسك ومُعقَّد المؤسسات والأبنية والأهداف؛ لضمان البقاء والسيطرة على الفسيفساء العِرْقية والمذهبية داخل الحدود الإيرانية، مع تدشين اقتصاد وتصنيع وخدمات، وفي نفس الوقت الشروع في بناء برنامج نووي طموح، مع تعزيز القدرات العسكرية والتسليحية.

ثانيًا: بالتوازي مع ذلك، تم إنشاء أذرع تتبنَّى المشروع الشيعي في المنطقة، وتكون بمثابة حائط صدّ وخط الدفاع الأول ضد كلّ مَن يحاول أن يقف في وجه المشروع الإيراني، أو يريد أن يَحُدّ من القدرات الإيرانية وخاصةً برنامجها النووي.

ثالثًا: تطويع واستغلال عناصر الجغرافيا السياسية التي تتمتع بها إيران لخدمة مشروعها، متمثلةً في تحكُّمها في مضيق هرمز الذي يقع قبالة الساحل الإيراني في مدخل الخليج العربي، وهو أحد أهم الممرات المائية في العالم، نظرًا للحجم الهائل من صادرات النفط التي تَعْبُره يوميًّا، وكذلك الواردات الضخمة لدول الخليج العربي؛ حيث تقول إدارة معلومات الطاقة الأمريكية: إن إمدادات النفط التي تَمُرّ عبر المضيق تُشكّل نحو 40% من إجمالي المعروض النفطي المتداول عالميًّا.

كذلك إعادة تموضعها الإقليمي بما يتناسب مع تلك الجغرافيا، فإيران نظرت إلى حدودها فوجدت بجوارها؛ إما باكستان القوة النووية، أو مع دول واقعة تحت النفوذ الروسي، أو مع تركيا الدولة القوية ذات النفوذ الإقليمي، فلم يتبقَّ لها إلا الفراغ الموجود في المنطقة العربية لمدّ نفوذها إليه، وهذا ما حدث بالفعل.

وقد اتسمت الإستراتيجية الإيرانية بثلاثة محددات؛ هي: الطائفية والبراجماتية والهجومية.

وكمثال على السّمة الطائفية لهذه الإستراتيجية، فقد رصدها تقرير مطوَّل لمركز كارنيجي الأمريكي، حيث يُلاحظ أن السلوك الإقليمي الإيراني منذ الربيع العربي قد نَحَا منحًى أكثر طائفية. ويلحظ التقرير أن الحرس الثوري بات ينظر إلى نفسه وإلى ساحة المعركة السياسية الإقليمية ككل من منظور طائفي، وبيانات مسؤولي الحرس الثوري وسلوكهم يشهدان على مثل هذا التحوُّل، وأن أجندة الحرس في الشرق الأوسط باتت تحت سطوة النوازع الطائفية.

ويستشهد التقرير بعدة أمثلة، منها ما أكَّده قاسم سليماني قائد فيلق القدس (والذي اغتالته أمريكا) أن قوة إيران تنبع من مصدرَيْن رئيسَيْن: عظمة الثورة الإيرانية، وتأثيرات الثورة على العقيدة الشيعية «المُبجَّلة». ويشير إلى العراق كنموذج تمكَّن فيه الشيعة من حَصْد حقّ الحكم؛ للدلالة على مدى النفوذ الإيراني.

ويخلص تقرير كارنيجي إلى أنه بدلًا من أن يعمل المسؤولون الإيرانيون على تقويض الجمعيات الطائفية، تُغذِّي بياناتهم السرديات الطائفية عبر خطابهم نفسه. علاوةً على ذلك، تتطابق هذه البيانات مع شيء من الصدقية الفكرية، من حيث إنها تشير إلى أن المسؤولين الإيرانيين أنفسهم يدركون أن حركتهم السياسية -مهما كانت الأوصاف التي يسبغونها عليها-، هي شيعية في المقام الأول، وتجري في عكس تيار مصالح أو سياسات معظم الدول السُّنّية.

صدام الحلفاء

قبل طوفان الأقصى في أكتوبر 2023م، تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة، وبدا كأنه قد قفز قفزة كبيرة نحو زعامة المنطقة، مستغلًّا فراغ القوة، وسقطت أربع عواصم عربية تحت المد الإيراني: بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء.

لم يكن الضعف العربي وحده هو الذي سمح للمشروع الشيعي بالتمدُّد في المنطقة، بل كان أيضًا التحالف الإيراني الصهيوني الأمريكي، والذي أطلق عليه الكاتب الإيراني الأمريكي «تريتا بارزي» حلف المصالح المشتركة، وعنون بها أحد أهم كتبه، علمًا بأن «تريتا بارزي» كان يرأس لفترة من الزمن اللوبي الإيراني في أمريكا المُموَّل مِن قِبَل الحكومة الإيرانية.

ساهم هذا التحالف في إسقاط النُّظُم السُّنيَّة التي تسعى إلى التخلص من التبعية الغربية، في العراق وأفغانستان، حتى إن نائب الرئيس الإيراني «علي أبطحي» صرَّح بذلك في أحد المؤتمرات في عام 2004م، والذي عقد في «أبي ظبي»؛ حيث قال مُذكِّرًا الجانب الأمريكي: «إنه لولا طهران ما سقطت بغداد ولا كابول».

وقبلها في عام 1981م، قدَّمت إيران خدمات لوجستية، وفتحت أحد مطاراتها للعدوان الصهيوني على المفاعل النووي العراقي، والذي دمَّره نهائيًّا، وكشفت الصحف البريطانية والأمريكية وقتها عن لقاءات عُقدت في باريس بين الموساد الصهيوني ومبعوث الخميني للتنسيق لهذه الضربة.

في المقابل، يبدو أن إيران توقَّعت أنه في حال تعاظم نفوذها، أن يأتيها التحدي من جانب الصهاينة، فعملت على الاستثمار في القضية الفلسطينية، كورقة لها في الصراع المحتمَل مع دولة الكيان.

وبالفعل عند تعاظم النفوذ الإيراني، وظهر أنه القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة بسيطرته على سوريا والعراق ولبنان واليمن، وتحالفها مع حركات المقاومة المسلحة في فلسطين، جلب عليها غضب الحليف السابق، وهي الدولة الصهيونية، والتي شعرت بخطورة هذا النفوذ على الطموح الصهيوني لتسيُّد المنطقة، فالصراع بعدها صار بين مشروعين يتطلعان إلى زعامة المنطقة: مشروع يهودي صهيوني، وآخر شيعي فارسي، فكان لا بد من الاصطدام.

ووفَّرت لحظة طوفان الأقصى في أكتوبر من عام 2023م، هذا التصادم.

ولكن كيف تم ذلك؟

كان من أكبر الخسائر الإستراتيجية التي لحقت بالدولة الصهيونية من هجوم السابع من أكتوبر، هو خسارتها لأحد أهم أركان النظرية الأمنية للكيان، وهو مبدأ الردع، كمكوّن أساسي لهذه النظرية للمحافظة على وجودها ومصالحها، سواء من ناحية دفاعية أو هجومية، وذلك عبر مسارين: الردع بالمنع، والردع بالعقاب.

وكلا الأمرين يعتمد على أربع وسائل:

أولًا: التفوق العسكري بامتلاك ترسانة عسكرية متطورة وقوية بما في ذلك الأسلحة النووية.

ثانيًا: الضربات الانتقامية غير المتناسبة: والتي تتمثل في الرد على الهجمات بضربات أشد بكثير من الهجوم الأصلي، بهدف إحداث دمار كبير وإيصال رسالة واضحة بأنّ أيّ تصعيد سيؤدي إلى نتائج كارثية.

ثالثًا: استهداف البنية التحتية للخصم.

رابعًا: الدفاع القوي، معتمدًا على تطوير منظومات دفاعية متقدمة.

ومن هذه المنطلقات الأربعة كان الهجوم على حماس، وأتبعه على حزب الله، ثم كان الهجوم على إيران.

والكيان تحرَّك في هذه الاتجاهات كوحشٍ نازفٍ يحاول استعادة هيبته في الإقليم، ليستعرض قوته التكنولوجية والمخابراتية والتدميرية.

وانعكست إستراتيجية استعادة الردع على الخسائر التي تكبَّدتها إيران نتيجة الضربات الصهيونية الأخيرة، حيث تختلف الروايات بين المصادر الصهيونية والإيرانية، وحتى داخل المصادر الإيرانية نفسها.

فمن حيث عدد القتلى، أشارت وكالة أنباء إيرانية رسمية (هرانا) إلى أن عدد الشهداء قد يصل إلى ما أقل من 500 شخص، منهم أكثر من 263 مدنيًّا، وما يزيد عن 154 من أفراد الأمن. بينما وفقًا لوزارة الصحة الإيرانية تشير إلى أن عدد القتلى المدنيين في إيران جراء الضربات الإسرائيلية قد بلغ 610 مدنيين على الأقل، بينما ذكرت منظمات لحقوق الانسان، أن 1190 شخصًا قُتِلوا؛ منهم 436 مدنيًّا، و435 عسكريًّا، و319 لم يتم تحديد هويتهم بعد.

أما الخسائر البشرية على صعيد القادة والعلماء؛ فقد صرَّح الكيان الصهيوني بأنه تم قتل نحو 30 من كبار القادة العسكريين الإيرانيين، وقُتل أيضًا 9 علماء وخبراء في البرنامج النووي الإيراني.

أما المعدات العسكرية، فتقول المصادر الصهيونية: إنها قامت بتدمير حوالي ثلثي قاذفات الصواريخ الباليستية الإيرانية (حوالي 250 قاذفة)، وحوالي 1000 صاروخ.

بينما اكتنف الغموض مصير البرنامج النووي، وتعمدت إيران التعتيم حول مدى الأضرار التي تكون قد لحقت به.

ولكنّ الخسارة الأكبر تمثلت في تدمير أنظمة دفاعات إيران الجوية، وسيطرت طائرات جيش الاحتلال على السماء الإيرانية.

التراجع الإستراتيجي

أحد عناصر إستراتيجية الصعود الإقليمي الإيراني تمثَّل في تطوير نظريتها الأمنية، خاصة بعد الهجوم العراقي في سنوات الثورة الأولى فيما يُعرَف بالحرب العراقية الإيرانية، والذي كاد أن يُسقط نظام الملالي لولا الدعم الأمريكي الصهيوني.

حاولت إيران صياغة نظرية الدفاع الأمامي في إدارة صراعاتها الإقليمية. وتتلخَّص في زرع التنظيمات والأذرع المحلية في الإقليم لجَعْلها سياجًا يحميها من غزو أراضيها.

بموجب هذا المفهوم، لم تَعُد إيران تكتفي بردع الأعداء داخل حدودها، بل باتت تسعى إلى نَقْل خطوط التماس بعيدًا عن جغرافيتها، لتدور المعركة -ماديًّا ومعنويًّا- على أرض الخصم أو في محيطه القريب،

الأمر الذي يجعل أيّ اعتداء على العمق الإيراني مُكلِّفًا ومُعقدًا للغاية.

ومن أجل ذلك أنشأت إيران فيلق القدس، ليكون بمثابة الذراع الخارجي للحرس الثوري، الذي تحوَّل خلال ربع قرن إلى رأس حربة في تنفيذ النظرية الأمنية الإيرانية؛ إذ لم يكن الفيلق مجرد أداة تدخُّل عسكري، بل جهاز إستراتيجي لإدارة تلك الأذرع والحلفاء في خارج إيران، وقيادة محور واسع من الفاعلين المسلحين المحليين الذين يدينون بالولاء أو يُنسِّقون بدرجات مختلفة مع طهران: من حزب الله في لبنان، إلى الحشد الشعبي في العراق، إلى الحوثيين في اليمن، وصولًا إلى دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة.

الكاتب الأمريكي من أصل إيراني «فالي نصر»، يُوضِّح هدف هذه الإستراتيجية الإيرانية فيقول: «إيران لا تسعى -في واقع الأمر- إلى القضاء على إسرائيل أو طرد أمريكا عسكريًّا من المنطقة في حقيقة الأمر، بل هدفها هو إنهاك الخصوم بما يُقلِّل من فرص شنّ أيّ أعمال عدائية مباشرة ضدّها، وجعلها مكلفة إستراتيجيًّا للغاية.

ولكن بعد الطوفان انهارت تلك النظرية.

فبعد عجز الجيش الصهيوني عن تحقيق أهدافه في غزة بسبب صمود أهلها، وقيام المقاومة بإدارة حرب عصابات ناجحة ضد الكيان، جعلته عاجزًا عن تفكيك جماعات المقاومة أو إجبارها على تسليم سلاحها كما فشلت مخططاته في تهجير أهل القطاع، استدار نتنياهو محاولًا تحقيق صورة النصر على حساب إيران وأذرعها، مستهدفًا قطع تلك الأذرع أو إضعافها، ثم تحوَّل إلى القلب الإيراني.

وتحقَّق له كثير مما أراد، فكان هذا بمثابة انهيار جزئي للنظرية الأمنية الإيرانية، والتي بذلت الجهود والأموال طيلة عقود في تطبيق هذه النظرية وتعزيزها.

فالمتأمل فيما قام به الكيان الصهيوني يجد أنه نجح في إبعاد إيران عن الحدود مع دولة الكيان، سواء في لبنان وسوريا، وهي حدود يتجاوز طولها 150 كيلو مترًا مع الدولتين، ومع تحرُّر سوريا من نظام بشار، وانسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، سقط الجوار الإيراني لدولة الكيان، وباتت لبنان وسوريا منطقتين عازلتين تفصلان إيران عن الكيان، الأمر الذي جعلها شبه معزولة عن ذراعها الرئيس في المنطقة، وهو حزب الله.

ولم يكن يقتصر الأمر على إضعاف حزب الله، ذراع إيران الأقوى في المنطقة، بل ظهر أيضًا ضعف الذراع الثاني في ترتيب قوى هذه الأذرع المتمثل في الميليشيات الشيعية في العراق، وعلى رأسها الحشد الشعبي.

ففي تقرير نشرته مجلة الإيكونمست البريطانية تحت عنوان (إيران تفقد العراق)، ذكرت المجلة عدة أسباب لتراجع النفوذ الإيراني في العراق؛ أهمها ظهور جيل جديد من السياسيين في العراق الذين وصلوا من الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2020م، ويعارضون الميليشيات المدعومة من إيران بصوت أعلى من ذي قبل.

والسبب الثاني تمثَّل في تحوُّل الميليشيات الشيعية إلى قوى سياسية وذوبانها في النظام البيروقراطي والاقتصاد العراقي، وبحسب التقرير، فإن الأعضاء السابقين في الجماعات التابعة لإيران، الذين أصبحوا الآن قوى سياسية ثرية في الحكومة والاقتصاد العراقيين، على عكس الماضي، لديهم الكثير ليخسروه إذا دخلت بلادهم في حرب مع الولايات المتحدة أو الكيان، ولهذا السبب يتزايد غضبهم من دور العراق كدولة تابعة للحكومة الإيرانية.

ولكنّ التراجع الإستراتيجي الإيراني أظهر أيضًا هشاشة تحالفاتها السياسية مع القوى الإقليمية والدولية، وذلك نابع من اعتمادها على المنظمات من غير الدول.

فتحالفات إيران في السابق مع أمريكا والكيان الصهيوني، كانت سببًا في الصمود الإيراني أمام الهجوم العراقي عام ١٩٨٠م، وقلب دفاعها إلى الهجوم.

ولكن الآن، نجد أن إيران قد وضعت البيض في سلّة واحدة، وهي الجماعات المُمَوَّلة إيرانيًّا، وحتى شراكتها مع روسيا والصين لم تنفعها في صراعها ضد الصهاينة والأمريكان.

فروسيا، حدّدت موقفها بوضوح، وبشكلٍ لا لبس فيه، وأشارت إلى أن اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين إيران وروسيا لا تنصّ على تقديم مساعدة عسكرية في حالة العدوان، كما صرَّح بوتين بأن روسيا عرضت على إيران أنظمة دفاع جوي وصاروخي، لكنّ طهران لم تُبْدِ أيّ اهتمام بذلك.

أما بالنسبة للصين، وعلى الرغم من أنها هي المستهلِك الأكبر للنفط الإيراني، كما تنتشر في ربوع إيران العديد من فروع ومشاريع الشركات الصينية؛ إلا أنها تنأى بنفسها حتى الآن عن الدخول في أيّ صراعات عسكرية لا تُمثِّل لها تهديدًا مباشرًا، وكما كتبت صحيفة نيويورك تايمز، فإن ترامب بقصفه إيران، كشف عن محدودية قدرات الصين على مواجهة الأمريكيين.

المحصّلة النهائية للضربات الصهيونية والأمريكية، هي خروج إيران، ولو مؤقتًا، من معادلة الصراع على زعامة المنطقة، والتي كما يقول إيتان يانرغوك -خبير الشؤون التركية في المركز «الإسرائيلي» للإستراتيجية الكبرى-: «لقد تمّ ملء الفراغ الذي نشأ بعد الضربة التي تلقتها إيران، مِن قِبَل قوتين إقليميتين صاعدتين: «إسرائيل» وتركيا».

 


أعلى