• - الموافق2025/08/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مستقبل الحكومة السورية الجديدة

يلزم للدول قبل أن تصل إلى التمكين الكامل، أن تسير في رحلة الصعود، وتحاول تحصيل شروط وخصائص الدول الكبرى في النظام الدولي، ولا تكتفي بمجرد كونها دولة تابعة، أو تتصادم مع قواعد النظام بدون أن تكون لها القوة الكافية للثبات والصمود والتحدي.


منذ ما يقرب من ثمانية شهور، دخلت قوات فصائل الثورة المسلحة السورية دمشق، وأعلنت إسقاط نظام الأسد: الأب والابن، والذي دام ما يقرب من خمس وخمسين سنة، ليتم تأسيس نظام سياسي يحاول فيه مؤسّسوه؛ إيجاد وضع جديد للدولة السورية يُعبِّر عن أحلام الغالبية الساحقة من الشعب السوري، بعد ما يقرب من عشر سنوات عجاف، دفَع فيها السوريون أثمانًا باهظة، تتخطَّى -وفق أرقام الأمم المتحدة- أربعمائة ألف قتيل، وأكثر من ١٣ مليون مُهجَّر، غير المناطق والبيوت التي تمَّت تسويتها بأرض.

ويُواجه النظام السوري الجديد منذ وصوله للسلطة تحديات ضخمة لا تخطئها العين، ويكاد يُجمع عليها كل الخبراء المتابعين للشأن السوري، كما يتفقون على أن ما تمر به سوريا اليوم هو أخطر ما تَمُرّ به هذه الدولة منذ نشأتها في مطلع عشرينيات القرن الماضي.

ولعل أبرز التحديات التي تواجهها سوريا الجديدة هي: تدمير البنية التحتية في ربوع البلاد، وشبه انهيار الاقتصاد السوري، وملف اللاجئين والنازحين داخليًّا، ثم يأتي تمرُّد الأقليات وظهور دعوات للحكم الذاتي أو الانفصال، وفي النهاية تبرز التدخلات الإقليمية والدولية في محاولة لتشكيل وتطويع الوضع الجديد وفق مصالحها وأجندتها.

ولكن، كيف يواجه نظام الحكم السوري الجديد تلك التحديات؟ وهل يمكن تقويم أداء النظام السوري إزاء هذه التحديات والأزمات بالرغم من مرور أكثر من ثمانية شهور على وجوده في الحكم؟ وهي فترة قصيرة جدًّا لتقويم أداء أي نظام سياسي.

في المقابل، لا شك أن ثمة مؤشرات تَشِي بمستقبل هذا النظام، وتعطي بعض الدلالات على ما سيؤول إليه وضعه في السنوات القادمة.

معايير تقويم أداء النظام السياسي السوري

تختلف مناهج علم السياسة في تحديد ماهية المعايير التي يتم بها تقييم أداء النظام السياسي، فمنها: الفكر السياسي، والشرعية السياسية، والاستقرار السياسي، والتمثيل السياسي، والفعالية الحكومية، والتنمية الاقتصادية، والعدالة، والمشاركة السياسية.

وبما أن مدة بقاء النظام السوري الجديد في الحكم لا تتعدَّى عدة أشهر، فمن الظلم والإجحاف محاولة تقويم أدائه بتطبيق كل معايير علم السياسة في تقويم الأنظمة السياسية.

ولذلك سنقتصر على عاملين اثنين؛ وهما الفكر السياسي للنظام الجديد، والشرعية السياسية التي يتمتع بها، باعتبارهما عاملين مؤسِّسَيْن لأيّ نظام، وبدونهما يُعتبر النظام فاقدًا للأهلية أصلًا.

حكومة الشرع بين الفكر والممارسة

توقَّع الكثيرون من هيئة تحرير الشام (وهي الفصيل الذي قاد ثوار سوريا نحو تحقيق الانتصار) أن يمارس السياسة برؤية لا تراعي الواقع الموجود، وأن تصطدم بسنن تغيير المجتمعات.

ولكنّ ما جرى كان عكس ذلك. فقد حاولت الحكومة الجديدة العمل بقواعد السياسة الشرعية، وقامت ممارساتها على التوازن بين المصالح والمفاسد، وتقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، والعمل بأقل المفسدتين.

كما حاولت أيضًا، تطبيق قواعد فقه التمكين والاستضعاف، ومراعاة أن صور التمكين في هذا العصر، هي صور جزئية وليست كاملة، ومجرد الوصول للحكم لا يعني أن النظام الجديد قد تمكَّن بالكامل بأن يحكم وفق مبادئه وأفكاره بالكلية.

ووفق هذا التصور، فإن تطبيق شرائع الإسلام كاملة، مشروط بتمكين تام للدين في الأرض، وأن مفهوم التمكين في هذا العصر في ظل نظام دولي ضاغط ومؤثر على الشعوب والدول، فَرَض أن تكون هناك دول تابعة خاضعة للنظام العالمي، ودول كبرى تؤثر في هذا النظام وتصوغ قواعده وآليات عمله.

ولذلك يلزم للدول قبل أن تصل إلى التمكين الكامل، أن تسير في رحلة الصعود، وتحاول تحصيل شروط وخصائص الدول الكبرى في النظام الدولي، ولا تكتفي بمجرد كونها دولة تابعة، أو تتصادم مع قواعد النظام بدون أن تكون لها القوة الكافية للثبات والصمود والتحدي.

وهذا يقتضي أن تستوعب وتدرس الخطوات والسنن الكونية للصعود في منظومة الدول الكبرى تلك.

فهناك ثلاث مراحل تمر بها الدول التي لديها طموح في أن تكون دولًا كبرى وتخرج من شرنقة الاستضعاف:

أُولَى تلك المراحل إحكام السيطرة على الداخل، والعمل على إيجاد نظام سياسي مُحكم يلتفّ الشعب فيه حول قيادته، وتحقيق التنمية الاقتصادية بجميع أبعادها، وتوفير السلم الأهلي بين مكونات المجتمع بأعراقه ومذاهبه ودياناته، وبناء منظومة عسكرية متكاملة من جيش وتصنيع عسكري يتمكّن من توفير معداته وأسلحته بأحدث الأنواع والطرازات المتطورة. وهذه المرحلة تقتضي تصفير المشاكل والنزاعات في محيط الدولة الإقليمي والدولي.

ثم تأتي المرحلة الثانية؛ وهي: التدخُّل في الصراعات الإقليمية، وإيجاد موطئ قدم، مع مراعاة مصالح الدول الكبرى، ودون كسر قواعد اللعبة الدولية.

وأخيرًا المرحلة النهائية والتي تقتضي كسر قواعد اللعبة الدولية، والاصطفاف في خانة الدول الكبرى القادرة على تغيير قواعد اللعبة تلك.

ويبدو أن القيادة السورية الجديدة كانت واعية لغالبية هذه الأمور، لذلك اتسمت ممارساتها السياسية بالواقعية، والتي تعرف متى تتقدم، ومتى تقف، ومتى تتراجع.

وتلاحظ صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نهج حكومة الشرع هذا، سواء في الداخل السوري ومحاولتها مد الجسور مع الطوائف السورية، وعدم حظرها للكحول، أو فرض قواعد لباس على النساء بحسب تعبير الصحيفة-، أو في سياساتها الخارجية، وحرص الشرع على صياغة رسالته لكل مُضيف. فعند لقائه بوليّ العهد الأمير محمد بن سلمان في السعودية، ارتدى رابطة عنق خضراء تعكس العَلَم السعودي، بينما اختار رابطة عنق حمراء في لقائه بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا؛ كما تقول الصحيفة.

وبالنسبة للعلاقات الإقليمية، ووفق هذا النهج، التقى وفد حكومي سوري بوفد صهيوني في لقاءين؛ تم أحدهما في باكو، والآخر في باريس، ويبدو أن حكومة الشرع قد وضعت شرط التطبيع مع الكيان (والذي تُصِرّ عليه كلّ من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني) بانسحابه من كامل الجولان، وهو يَعلم أن الكيان قد ضمّها إلى أراضيه. كما بدأ يتعامل مع روسيا كأمر واقع في سوريا، محاولًا معها موازنة علاقاته بالغرب المنحاز كليًّا للكيان الصهيوني، وأشاد الشرع في مقابلة على بودكاست بقيادة الرئيس ترامب واهتمامه ببناء السلام، ونَهْجه الإيجابي تجاه الشرق الأوسط ومستقبل السياسة الأمريكية في المنطقة، بالرغم من انتقاده لخطة ترامب تجاه تهجير أهل غزة.

ولكنّ الإعلام الغربي، ينسب هذه السياسات إلى البراجماتية التي يتمتع بها النظام، بينما يُفسّرها أنصار النظام بأنها -كما أسلفنا- مراعاة لقواعد السياسة الشرعية.

حكومة سوريا والشرعية السياسية

هنا نأتي للمعيار الثاني في أداء النظام السوري؛ وهو معيار الشرعية السياسية التي تعني أمرين: مدى تقبُّل الشعب للنظام وقبوله له، وقدرته على تحقيق الإجماع السياسي أو غالبية كبيرة من الناس، ثم تأتي الشرعية الدولية، ومدى اعتراف الدول المؤثرة إقليميًّا وعالميًّا، وتفاعلها مع النظام السياسي.

من حيث الشرعية الداخلية: يتمتع الشرع فور وصوله للحكم بقاعدة شعبية ضخمة تكاد تغطي النسبة الكبرى من شريحة أهل السنة العرب في سوريا، وهي تمثل من 75% إلى 80% من مجموع الشعب السوري (وإن كانت هذه النسبة قد تناقصت في العشر سنوات الأخيرة نتيجة للتهجير)، ويظهر ذلك في الاحتفالات والمهرجانات التي نقلتها القنوات والشاشات العالمية من داخل معظم المحافظات السورية.

وحتى استطلاعات الرأي الموثوقة، والتي أقامتها جهات خارجية محايدة تُظهِر تلك النِّسب، والتي تتنوع داخل شرائح مختلفة من الشعب السوري، ففي استطلاع رأي لمجلة الإيكونوميست البريطانية، تم إجراؤه في الفترة من 15 إلى 20 يوليو 2025م، يظهر أن 81% من العينة (1500 شخص) يوافقون على حكم أحمد الشرع، و70% عبّروا عن تفاؤلهم بالاتجاه العام للبلاد، مشيرين إلى أن النظام الجديد يُعتبر أكثر أمانًا وحريةً وأقل طائفية مقارنةً بحكم بشار الأسد. كما أن استطلاع الإيكونوميست لم يقتصر على شريحة السُّنة العرب، وإنما شمل شرائح وأقليات عديدة، كالأكراد والمسيحيين والعلويين والدروز.

أما بالنسبة للقبول الدولي، فقد مر بعدة مراحل:

في البداية تم ترتيب مؤتمر في الأردن بعد أسبوع من سقوط بشار، شارك فيه أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية التي تضم الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، وبحضور وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين، وتركيا.

ولم يقتصر الحضور على الدول الإقليمية، بل حضرته أيضًا دول أعضاء في المجموعة المصغرة حول سوريا: ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي لسوريا.

وكان الهدف من الاجتماع واضحًا، هو تطويع النظام الجديد ليكون مقبولًا ومعترفًا به دوليًّا.

وحدَّد المجتمِعُون للنظام الجديد شروطًا؛ أهمها: عدم دعم الإرهاب (في المفهوم الغربي)، واحترام الأقليات، وأن تضم المرحلة الجديدة كل المجموعات في سوريا.

وانتهى المؤتمر بأن المجتمعين أو بعضهم سيراقبون أفعال النظام لا أقواله، وظلت هذه الجملة تتردد عدة أشهر، ويتخذها الأوروبيون وغيرهم مُبرِّرًا لعدم قبولهم للنظام الجديد.

كان أهم ما يشغل النظام في ذلك الوقت، هو رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على النظام السابق؛ لأنه اعتبرها مؤشرًا على قبول اندماجه في المجتمع الدولي، وفي نفس الوقت إعادة إحياء الاقتصاد المنهار، ولكن من الواضح تركيز النظام الجديد على الحصول على دعم الاتحاد الأوروبي والدول العربية والولايات المتحدة.

ومن ناحية أخرى، بدأت التغيرات نحو سوريا تتسارع مع قرب استلام الرئيس الأمريكي ترامب للرئاسة في البيت الأبيض.

فقد استضافت الرياض اجتماعًا مهمًّا في 11 يناير الماضي، جمع ممثلين عن الحكومة الانتقالية مع مسؤولين من الولايات المتحدة وأوروبا.

وموازاة لذلك، لاحظ الجميع أن هناك خطوات بدأ النظام السوري في السير فيها وفق أجندة متفق عليها دوليًّا؛ فتم الإعلان عن تشكيل حكومة انتقالية جديدة برئاسة أحمد الشرع، والذي قام بعدها بتوقيع دستور مؤقت للبلاد، يحدد الإطار القانوني للمرحلة الانتقالية التي تمتد خمس سنوات.

واستمر الدور السعودي في مساندة النظام الجديد، والذي توسط أثناء زيارة ترامب للرياض في رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، وترتيب لقاء بين الشرع وترامب، والذي أعلن عن إعجابه بشخصية الشرع، وتلا ذلك رفع اسم الشرع ومساعديه من قوائم الإرهاب الأمريكية.

وتوالت بعدها الوفود الدولية على دمشق، وبدأت الاستثمارات العربية في الدخول إلى سوريا، وعلى رأسها استثمارات السعودية وقطر وتركيا والإمارات.

ولكن في ظل هذه الانفراجة والنجاحات التي حققتها الحكومة السورية، ومع ما بدا أنه فجر يبزغ في سوريا المحررة من جديد، عاد الضباب يلوح في الأفق، وتكشفت خيوط تآمر كان قد اختفى خلف الابتسامات الماكرة.

الوضع الآن في سوريا

إذا حللنا الوضع في سوريا الآن نجد الآتي:

تشهد منطقة الساحل وضعًا أمنيًّا شبه مستقر بعد إخماد التمرُّد العلوي فيه.

بينما يعتبر الكيان الصهيوني سوريا أرضًا مستباحة، خاصة في دمشق ومحافظات الجنوب السوري الثلاثة، يعربد كيفما شاء، ويقصف أهدافًا عسكرية للجيش السوري، بل ويَعتقل مَن يريد مِن أبناء المنطقة.

ويدعم الكيان تمرُّدًا درزيًّا في السويداء بزعامة الهاجري أحد زعماء الدروز الثلاثة، والذي نجح مؤخرًا في استقطاب الزعيمين الآخرين إلى جواره: الجربوع والحناوي.

وتخندق الدروز في مدينة السويداء وبعض البلدات التي يحاصرها الجيش السوري، ولكن الكيان وضَع خطًّا أحمر أمام النظام السوري بعدم اقتحامها، وعزَّز هذا الخط بقصف مبنى وزارة الدفاع ورئاسة الأركان وبجوار القصر الرئاسي في دمشق، ويرسل تعزيزات من الجو إلى ميليشيات الدروز المتمردة.

ويريد زعماء الدروز فتح المنفذ الوحيد لهم إلى الخارج مع الأردن الواقع بين ضغوط دولة الكيان، وبين ضغوط العشائر العربية داخله، والتي تريد التدخل لنصرة فروع العشائر في السويداء.

بينما الوضع أخطر في مناطق شمال شرق سوريا؛ حيث تتجمع جماعات الأكراد المتمردة، والتي يُطلق عليها «قسد»، ومصدر خطورتها من عدة أمور: منها استحواذها على ما يقرب من 28% من مساحة سوريا في دير الزور والرقة والحسكة، وهي مناطق يوجد بها معظم حقول النفط السوري، ومنها تسليحها الجيد وخبرتها القتالية، وأخيرًا تمتعها بغطاء حماية من القوات الأمريكية والفرنسية الموجودة في المنطقة.

وبالرغم من توقيع زعيم «قسد» مع الحكومة الشرعية في دمشق اتفاقًا في مارس الماضي، تندمج بمقتضاه فصائل «قسد» في الجيش السوري، فقد تلكأ الأكراد في تطبيق الاتفاق، الأمر الذي ردّت عليه الحكومة السورية برفض الوساطات الدولية للاجتماع بقيادة «قسد» في مؤتمر باريس.

وصعّدت «قسد» تمرُّدها مؤخرًا، فعقدت مؤتمرًا في الحسكة ضمّ قيادات الأقليات المتمردة، ومن لم يستطع الحضور بنفسه، شارك عن طريق الفيديو، كما تم إجبار زعيم عشيرة عربية على الانضمام، ليظهر المؤتمر وكأنه يمثل كل السوريين، مقدمًا نفسه كبديل لحكومة الشرع في دمشق.

وتثور شكوك عديدة حول دعم صهيوني، ودعم خفي من دول إقليمية، وحضور فرنسي علني لمؤتمر الأقليات، في ظل صمت أمريكي غير مفهوم، ربما لزيادة الضغط على الحكومة السورية لكي تتنازل في ملف التطبيع مع الكيان، وتدخل في دائرة أنظمة دول الطوق المُطبّعة والملتزمة بأمن دولة الكيان، خاصةً بعد ما بدا أنه رفض من جانب حكومة سوريا لهذا التطبيع، في لقاء تم في باريس بين مسؤولين سوريين وصهاينة برعاية أمريكية.

والملاحظ أن مؤتمر الحسكة تم بعد خطوة الحكومة السورية بإعادة تموضعها في علاقاتها مع روسيا وإحياء دورها، بتشجيع أو وساطة تركية.

ومن هنا يبقى الموقف الأمريكي الغامض، ففي الشهر الماضي، وفي الوقت الذي دعا فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تولي الحكومة السورية مسؤولية مراكز احتجاز عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، تزامنًا مع توقيع أمر تنفيذي برفع جزئي للعقوبات عن دمشق، ولكن بعد هذه الدعوة بأيام، طلبت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، تخصيص 130 مليون دولار في ميزانية العام المالي 2026م؛ لدعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، وفصائل سورية أخرى. وأظهرت وثيقة صادرة عن البنتاغون أن المبلغ المخصص يهدف لتمويل برامج التدريب والتجهيز لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، وتقديم رواتب للمقاتلين التابعين لـ«قسد»، إلى جانب قوات «جيش سوريا الحرة» المنتشرة في جنوب البلاد (بعدها تم حل هذا الفصيل عسكريًّا من جانب جيش حكومة دمشق).

وإزاء هذه المتغيرات الداخلية أخذت الحكومة السورية ثلاث خطوات لمواجهة هذه التحديات:

الأولى: استدعاء الشعب السوري المؤيد للنظام بواجهة تسمى العشائر العربية، بل وتحت هذا المسمى تم استنفار عشرات الآلاف من تلك الجماهير المسلحة التي تنتمي لأهل السنة في الدول المجاورة، وخاصة في الأردن ولبنان.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في استرجاع الدور الروسي في سوريا مرة أخرى.

وهذا ما تم في زيارة وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس المخابرات السورية موسكو، والتقوا مع نظرائهم الروس وسط ترحيب روسي رسمي.

وقد كشفت صحيفة كوميرسانت الروسية، أن الحكومة السورية أبدت اهتمامًا باستئناف دوريات الشرطة العسكرية الروسية في جنوب سوريا، كما كانت قبل سقوط نظام الأسد.

ونقلت الصحيفة عن مصدر حضر اجتماع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، مع الجالية السورية في موسكو مطلع شهر أغسطس 2025م، أن دمشق ترى في هذه الخطوة وسيلة للحدّ من النشاط العسكري الصهيوني.

وأوضح المصدر للصحيفة، أن عودة روسيا إلى مواقعها السابقة قد تمنع تدخُّل الكيان الصهيوني في الشؤون السورية، مشيرًا إلى أن موسكو قادرة في الوقت ذاته على تنظيم العلاقة بين الحكومة السورية والكيان.

ولكنّ الدعم الروسي لن يكون مجانيًّا. ووفقًا لعدة مواقع إخبارية، فقد قدَّمت روسيا مطالبها الخاصة؛ وكشفت أنها تسعى إلى إعادة ضُبّاط نظام الأسد إلى الجيش السوري، وخاصة أولئك الذين تربطهم علاقات قوية بموسكو. وتشمل هذه المبادرات إعادة تعيين ضباط أمن من الدروز والعلويين لإدارة الأمن في المناطق ذات الأغلبية الدرزية والعلوية، وإعادة هيكلة ديون سوريا التي تُقدَّر بنحو 50 مليار دولار، واتفاقيات تمنح روسيا الوضع القانوني الكامل لقواعدها العسكرية في سوريا.

أما الخطوة الثالثة فهي التأهب لحسم ملف «قسد» عسكريًّا، أو التلويح بها، ويبدو أن تركيا، التي تقف مساندة وداعمة للحكومة السورية، تحاول الدفع باتجاه حسم الوضع عسكريًّا في مناطق سيطرة «قسد»؛ خوفًا من طموح تلك المنظمة إلى قيادة مشروع الكونفدرالية في سوريا، لتسوس كلّ أقلية شؤونها بنفسها، تحت قيادة دمشق، ليكون تقسيمًا فِعليًّا بغطاء الدولة الشكلي.

فسقوط «قسد» عسكريًّا معناه إنهاء مشروع الكونفدرالية أو التقسيم، وهذا ما تدفع به تركيا، وإن كانت تُؤجّل حَسْم ملف «قسد» بالقوة؛ حتى تتأكَّد من رفع الغطاء الأمريكي بالكامل عن المنظمة الكردية.

وفي نفس الوقت تأخذ تركيا بجدية مخاوف الحكومة السورية، والتي تخشى من أنّ تدخُّل الجيش السوري في مناطق «قسد» بغطاء تركي عسكري يعطي ذريعة لجيش الكيان إلى غزو الجنوب السوري والسيطرة عليه فعليًّا.

هذه الجرأة في سلوك الأقليات السورية المتمردة على الحكومة السورية، وذهاب الحكومة السورية في اتجاه الروس، وتصاعد التهديدات التركية يمكن تفسيره بأن جهود الدولة السورية في بناء تحالفات وتفاهمات مع دول إقليمية وغربية طيلة الأشهر الماضية قد شهد تصدُّعًا.

وكلّ هذا يُنذر بتصاعد التجاذبات في الأيام القادمة، في ظل وجود عسكري في الأراضي السورية للقوى الأربع وهي: تركيا وأمريكا والكيان الصهيوني وروسيا.

وإعادة التحالف مع روسيا لو تم، سيُغْضِب الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، ولعل مؤتمر الحسكة كان ردّ الفعل الغربي على التقارب السوري الروسي الجديد.

وهنا تسير حكومة الشرع على حبل رفيع وسط هذه الصراعات بحسابات دقيقة؛ حتى لا تنفلت الأمور منها، وتصل إلى السيناريو الكارثي: وهو سيناريو التقسيم.

ولا شك أن هناك أخطاء ارتكبها الحكم السوري الجديد، سواء في فَهْم ما يدور من مؤامرات وأخطار، أو حتى ممارسات السياسة الشرعية، ولكنّ الأداء والإستراتيجيات بشكل عام تسير في اتجاه مُبشِّر رغم عِظَم التحديات، والتي يواجهها دائمًا كلّ مَن يسعى لتمكين الأُمّة واستعادة دورها بين الأمم.

 

أعلى