• - الموافق2025/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
كيف تَعبث القوى الإقليمية بمستقبل السودان؟

الحرب السودانية تحوّلت لساحة لصراع مليشيات الدعم السريع والمرتزقة والقوى الإقليمية والدولية، محوّلة الدولة إلى نموذج «خصخصة العنف» واختبار لإعادة رسم النفوذ في البحر الأحمر والموارد الاستراتيجية، مع عجز الخرطوم عن السيطرة.


 

منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023م، ظهَر واضحًا أن الخرطوم لم تَعُد ساحة نزاع داخلي فحسب، بل تحوَّلت إلى نقطة التقاء حاسمة بين شبكات المرتزقة العابرة للحدود ومشاريع القوى الإقليمية، وساحة اختبار لتوازنات دولية تجري على أطراف البحر الأحمر والساحل الإفريقي.

وفي قلب هذا المشهد المُعقَّد؛ جاءت دراسة «ياسر زيدان» المنشورة في مجلة الدراسات الإستراتيجية الصادرة عن دار تايلور وفرانسيس (٢٠٢٥م)؛ لتُقدِّم الإطار الأكثر عمقًا لفَهْم التحوُّل الذي ضرب السودان، انطلاقًا من صعود مليشيات الدعم السريع كنموذج جديد للعنف التجاري، وتجذّر «المرتزقة» كقوة محورية في الحرب، وتحوُّل السودان إلى عقدة محورية في خريطة تنافُس دولي صامت، تُعاد عبرها صياغة النفوذ في المنطقة.

الدراسة تُفكِّك جذور الصراع بالعودة إلى عقود من تسليح الدولة السودانية لقبائل عربية في جنوب كردفان ودارفور، قبل أن تتطوَّر هذه التشكيلات إلى مليشيات الجنجويد، ثم إلى مليشيات الدعم السريع في صيغتها شبه الرسمية.

لكنّ اللحظة المفصلية جاءت حين تحوَّلت هذه المليشيات إلى كيان عابر للسيادة، يستند إلى اقتصاد مستقل مبني على الذهب وطرق التهريب وشبكات الرعي عبر الحدود. ومع الوقت، أصبحت هذه المليشيات تتحرك وفق منطق اقتصاد الحرب لا منطق الدولة، متجاوزة قدرة الخرطوم على السيطرة، ومتموضعة كقوة إقليمية تتغذّى من الفراغ الأمني في الساحل والصحراء.

أهم ما كشفته الدراسة هو ظاهرة «المرتزقة»، وهي تسمية دقيقة لمقاتلين ينتمون إلى حزام القبائل العربية الممتد من تشاد إلى النيجر وليبيا ودارفور. هؤلاء ليسوا مرتزقة بالمعنى التقليدي الذي يفترض وجود عقود رسمية وأجور ثابتة، ولا هم مليشيات عقائدية، بل هم خليط فريد من أبناء مجموعات رعوية فقدت مصادر رزقها التقليدية بفعل تغيُّر المناخ، وانهيار الاقتصاد الريفي، وتآكُل سلطة شيوخ القبائل، فتحوَّل الشباب فيها إلى «عمالة مسلحة» تتحرَّك عبر شبكات القرابة واللغة والمصالح، وتقاتل لصالح الطرف الذي يُوفّر السلاح والراتب والغنيمة. وبهذا أصبح السودان جزءًا من سوق عابر للحدود للعنف المأجور.

في قلب هذا السوق، تقف مليشيات الدعم السريع باعتبارها «مُشغِّلًا عملاقًا للمرتزقة»، قادرة على جلب مقاتلين من تشاد والنيجر وليبيا خلال أيام، مستفيدة من مسارات تهريب قديمة، ومن دعم سياسي وعسكري غير مباشر من جهات إقليمية مؤثرة. ومع ازدهار اقتصاد الذهب في دارفور، أصبحت المليشيات قادرة على تمويل عملياتها بشكل مستقل، ما جعلها أكثر خطرًا من المتمردين التقليديين وأكثر قدرة على تحدّي الدولة.

لكنّ هذه الصورة لا تكتمل دون فَهْم صراع القوى الدولية الذي يدور فوق الخريطة السودانية. فبينما تتلقَّى المليشيات دعمًا لوجستيًّا من أطراف إقليمية تسعى لتوسيع نفوذها في البحر الأحمر والساحل؛ اعتمد الجيش السوداني على محور مضاد شمل تركيا وإيران.

تركيا قدّمت طائرات مسيّرة وأنظمة مراقبة في سياق دافع أيديولوجي مرتبطة بمنظومة الحكم في السودان، وفي إطار إستراتيجية تحاول فيها أنقرة تثبيت حضورها في نطاق نفوذ أهم المضائق المائية وعلى ساحل البحر الأحمر.

ووفّرت إيران دعمًا نوعيًّا عبر معدات قتالية ومسيّرات هجومية، في سياق سعي طهران إلى توسيع مجال نفوذها على الموانئ والممرات البحرية ذات القيمة الإستراتيجية، واستغلال اللحظة السودانية كنافذة للعودة إلى إفريقيا بعد سنوات من التراجع.

أما الدولة العبرية، فوجودها في الأزمة أكثر تعقيدًا من مجرد اصطفاف عسكري. تل أبيب تنظر إلى السودان باعتباره جزءًا من منظومة أمن البحر الأحمر، لكنّها في الوقت ذاته ترى في تفكيك السودان وضعفه مصلحة إستراتيجية؛ لأنه يُشكِّل ضغطًا جيوسياسيًّا على مصر، ويُضْعِف الظهير الجنوبي للقاهرة، ويعيد تشكيل موازين القوة في حوض النيل. لذلك فإن الموقف الصهيوني يمكن وصفه بأنه «داعم غير مباشر لمسار التفكيك»؛ من خلال الحفاظ على حالة عدم الاستقرار بدلاً من الدفع نحو توحيد السلطة. فوجود دولة مركزية قوية في الخرطوم لا يخدم تل أبيب، بينما وجود مليشيات مسلحة وكيانات ضعيفة ومتداخلة يجعل البحر الأحمر أكثر سهولة للاختراق وأقل قدرة على تشكيل توازن مضاد.

وتتخذ المواجهة بُعدًا إضافيًّا بسبب الدور الليبي، خصوصًا شرق ليبيا الذي تحوَّل إلى ممر لوجستي للدعم المتَّجه نحو مليشيات الدعم السريع. المناطق الخاضعة لنفوذ خليفة حفتر أصبحت محطة لعبور شحنات السلاح، والوقود، وحتى المقاتلين، مستفيدة من الفراغ الأمني وامتداد شبكات التهريب عبر الصحراء الكبرى، واستكمالاً لتبعية هذا المحور لتقاطع النفوذ في الصراع الدائر في السودان.

المشهد يزداد تعقيدًا بحضور مرتزقة محترفين من دول لاتينية، خصوصًا كولومبيا وفنزويلا، الذين وجدوا في السودان امتدادًا لسوق القتال العالمي الذي تشكَّل في ليبيا والعراق. أمثال هؤلاء يَجْلبون خبرات عالية في العمليات الخاصة والاستخبارات الميدانية، ويعملون لصالح الطرف الذي يُقدّم الأجر الأعلى، ما يُضْفِي على الصراع السوداني طبقة جديدة من «العولمة العسكرية».

جميع هذه التدخلات تجعل السودان اليوم نموذجًا صارخًا لـ«خصخصة العنف»، وانهيار الدولة أمام اقتصاد حرب متجذّر يدعمه الإقليم إما بصَمْته أو بتدخُّله. فالجيش نفسه لم يَعُد قادرًا على فَرْض سيادة وطنية دون دعم خارجي، والمليشيات باتت تعتمد على موارد عابرة للدول. ومع تشابك خطوط الدعم بين تركيا وإيران، وتحوّل شرق ليبيا إلى ممر، ووجود مرتزقة من الساحل ومن دول لاتينية، وتبنّي واشنطن والدولة العبرية لموقف يرى في التفكيك مصلحة إستراتيجية، يصبح الصراع السوداني معركة لإعادة رسم خريطة المنطقة أكثر مما هو صراع داخلي.

إن الخطر الأكبر يكمن في أن هذه الشبكات لن تختفي حتى لو توقّفت الحرب. فـ«المرتزقة» سيبقون قوة جاهزة للاستخدام في أيّ صراع آخر، ومليشيات الدعم السريع -باعتبارها مؤسسة تجارية للعنف- قد تتحوَّل إلى لاعب إقليمي طويل الأجل، بينما سيتحوّل السودان -إن استمرّ هذا المسار- إلى فسيفساء من الفاعلين المسلحين، أشبه بليبيا بعد 2011م أو بمالي بعد 2012م، لكنّه أخطر بكثير بسبب موقعه على البحر الأحمر، وصلته بمصر، وباعتباره جزءًا لا يتجزأ من أمن الخليج البحري.

إن ما كشفته دراسة «زيدان»، ليس مجرد وصف لظاهرة، بل تشخيص لنظام إقليمي جديد قيد التشكُّل، نظام تحلّ فيه شبكات المرتزقة مكان الدولة، وتتنافس فيه القوى الكبرى على الموانئ والذهب ومسارات الحركة، ويصبح فيه السودان مُختَبَرًا لمرحلة ما بعد الدولة في إفريقيا.

في هذا السياق، قد لا تكون الحرب الحالية سوى فصل أوّلي في مسار طويل يُعاد فيه توزيع النفوذ بين فاعلين إقليميين آخرين، بينما يُتْرَك السودان بين الانهيار الكامل وإعادة التشكّل في صورة جديدة لا تشبه دولته التي عرفناها لعقود.

 

أعلى