حقيقة الرؤى والأحلام وأنها من آيات الله، وبيّنت ثلاثة مواقف للناس منها: منكرون لها، مغالون يجعلونها مصدر تشريع، ومعتدلون يستبشرون بها دون بناء الأحكام عليها، مؤكدة أن الرؤيا الصالحة بشرى للمؤمن وتنبيه له، وأن التعامل المتوازن معها هو نهج أهل الإيمان دون إ
الحمد لله الخلاق العليم،
الرزاق الكريم؛ يبشر عباده المؤمنين، وينذر العاصين، ويكبت الكفار والمنافقين، ولا
يصلح عمل المفسدين، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له؛ الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إمام المرسلين،
وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم، وأسلموا له وجوهكم، ﴿بَلَى مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 112].
أيها الناس:
النوم ضرورة للبشر، ولو منع الإنسان النوم أياما لهلك، وهو آية من آيات الله تعالى
الدالة على ربوبيته ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾
[الروم: 23]. وفي آية أخرى ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ: 9].
ويعتري النائم رؤى وأحلام
يراها في نومه، منها ما هو مفرح ومنها ما هو محزن، ومنها ما هو مرعب مفزع، حتى إن
النائم إذا رأى أنه سقط من علو، أو ضرب بما يقتل يستيقظ فزعا مذعورا، وربما يحس
بألم في الجزء الذي ضرب أو سقط عليه، وكأنه وقع حقيقة.
والناس منذ القدم مختلفون
في الرؤى والأحلام اختلافا كثيرا، ولهم فيها مذاهب عدة، بحسب أديانهم ومعتقداتهم،
ويجمعها ثلاثة مذاهب:
فالمذهب الأول:
مذهب من ينكرونها، ولا يرون لها أثرا في الواقع، ويفسرونها بأنها خيالات وأوهام
تعتري الإنسان أثناء النوم، ولا يقع شيء منها، وما وقع موافقا لها فهو مجرد صدفة
وعوامل نفسية جعلت الإنسان يعتقد بأن ما وقع دلت عليه رؤاه واحلامه في المنام. وهذا
مذهب الماديين من الملاحدة ومن وافقهم؛ وذلك لأنهم ينكرون الغيب جملة وتفصيلا،
والرؤى من الغيب الذي ينكرونه.
والمذهب الثاني:
مذهب من يغلون فيها، ويرتبون عليها أحكاما شرعية، ويستمدون دينهم منها، وهم طوائف
من المتصوفة، وبلغ بهم الحال أنهم يشرعون للناس أحكاما بما يزعمونه رؤى رأوها، أو
يبطلون عن أنفسهم شرائع بتلك الرؤى، أو يحلون محرمات، أو يسقطون واجبات، بدعوى أن
الله تعالى أوحى إليهم في المنام، أو أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم
بذلك، أو رأوا من يعتقدون فيهم من أوليائهم فأمروهم أو نهوهم، وكل ذلك من الضلال؛
فالرؤى والمنامات لا يؤخذ منها أحكام، ولا تبطل بها الشرائع، وليست مصدرا من مصادر
التشريع. ومن غلاة الصوفية من سوغوا الشرك الأكبر ودعوا إليه بما يزعمونه من منامات
رأوها؛ كالنذر لغير الله تعالى، والاستغاثة بغيره، وتبديل شرعه، والابتداع في الدين
ما لم يأذن به، وكثير مما يزعمون رؤى يكذبون فيها لتسويق مذاهبهم الباطلة على
الناس. ومن صدق في أنه رأى من ذلك شيئا فإنما هو من تسلط الشيطان عليه، أوحى إليه
به ليضله ويضل الناس معه؛ كما قال تعالى ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]، قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما:
«هما
وَحْيان؛
وَحْيُ اللهِ تعالى، ووحيُ الشيطانِ، فوحْيُ اللهِ تعالى إلى محمدٍ، ووحيُ
الشياطينِ إلى أوليائِهم»
ثم قرأ الآية. فمن أتى بما يخالف شرع الله تعالى، وزعم أنه رأى رؤيا في ذلك؛ فلا
يقبل قوله مهما كان وزنه.
والمذهب الثالث:
مذهب أهل الإيمان والحق؛ فيثبتون الرؤى، ولا يغلون فيها، ولا يستخرجون منها شرعا؛
لأن الشريعة ختمت بموت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيستبشرون بالصالح منها، ويعتبرون
بالإنذار فيها؛ كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ
الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:
لَكِنِ
الْمُبَشِّرَاتُ،
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: رُؤْيَا الْمُسْلِمِ
وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ»
رواه الترمذي وقال: صحيح غريب. وحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«لَمْ
يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ،
قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»
رواه البخاري. وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على أن الرؤى مبشرات في مرضه الذي مات
فيه؛ كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
«كَشَفَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتْرَ -وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ فِي مَرَضِهِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ -ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ- إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا
الرُّؤْيَا يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ»
رواه مسلم.
ورؤيا الأنبياء عليهم
السلام وحي يوحيه الله تعالى إليهم، وتكثر الرؤى فيهم قبيل بعثتهم؛ تهيئة من الله
تعالى لهم؛ كما أخبرت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
«أَوَّلُ
مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ
فَلَقِ
الصُّبْحِ»
رواه الشيخان.
ولذا كانت الرؤيا الصالحة
من المؤمن جزء من النبوة لتبشيره وتثبيته على إيمانه؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«رُؤْيَا
الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»
رواه الشيخان، وحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
«الرُّؤْيَا
الْحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ
جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»
رواه البخاري. وذلك
«لأن
أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان، وهذا ستة أشهر، فإذا نسب
هذا إلى
بقية
زمن
الوحي،
كان جزءا من ستة وأربعين جزءا؛ لأن الوحي كان ثلاثا وعشرين سنة. وستة أشهر مقدمة له».
ورأى الخليل عليه السلام
أن الله تعالى يأمره بذبح ابنه فامتثل لأمر الله تعالى؛ لأنها وحي من الله تعالى ﴿فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: 102-105]. وفي غزوة بدر ثبت
الله تعالى المؤمنين برؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم قللت المشركين في عينه،
ولو كان المؤمنون ثلثهم؛ كما قال تعالى ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
[الأنفال: 43].
نسأل الله تعالى أن يعلمنا
ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين. إنه سميع
مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا
مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم
إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
[آل عمران: 131 - 132].
أيها المسلمون:
ما يرى المؤمن في منامه من رؤى صحيحة إما أن تكون مبشرة وإما أن تكون منذرة، وأهل
الإيمان تجاه ما يرون في منامهم على أقسام ثلاثة:
فقسم منهم لا يأبهون بها،
ولا يلتفتون إليها، ولا يسعون في تعبيرها، وكأنها لم تقع. وهذا فيه جفاء لا ينبغي؛
وذلك لأن الرؤى وتعبيرها قد ينفعه في دينه أو في دنياه؛ فتحذره من عدو يتربص به، أو
تبشره بخير يقدم عليه، أو تدله على طاعة يغفل عنها، أو تنذره من معصية يفعلها،
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقص على أصحابه ما يرى، ويبشرهم ببشائرها، وينذرهم
بنذرها. ويسألهم كثيرا عن رؤاهم ليعبرها لهم؛ كما في حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ
رضي الله عنه قَالَ:
«كَانَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ:
هَلْ
رَأَى
أَحَدٌ
مِنْكُمْ
مِنْ
رُؤْيَا؟
قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُصَّ»
رواه الشيخان. قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
«وَهَذَا
الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى
شَرَفِ
عِلْمِ
الرُّؤْيَا
وَفَضْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا انْصَرَفَ من
صلاة الغداة: هل رأى أحد مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا إِلَّا لِيَقُصَّهَا
عَلَيْهِ، وَيَعْبُرَهَا لِيَتَعَلَّمَ أَصْحَابُهُ كَيْفَ الْكَلَامُ فِي
تَأْوِيلِهَا؛ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا وَشَرَفِ
عِلْمِهَا، وَحَسْبُكَ بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ
مِنْهَا، وَفِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ».
وقسم آخر يغلو في الرؤى،
فيتعلق بها غاية التعلق، وربما قعد عن العمل والكسب بسببها، ينتظر وقوعها، ثم لا
تقع على ما أراد؛ لأن رؤياه غير صحيحة، أو لأن المعبر أخطأ في تعبيرها، والرؤى
يستأنس بها، ولا يبني الإنسان حياته وأعماله عليها؛ كما لا يأخذ دينه منها.
وقسم ثالث وهم أهل الوسط
في ذلك؛ فيأخذون بالرؤى، ويعبرونها، ويستبشرون ببشارتها، ويتعظون بنذارتها، ولا
يغترون بها، ولا يعلقون أعمالهم عليها، فإن رأوا خيرا رجوه وحدثوا به من يحبون، وإن
رأوا شرا استعاذوا بالله تعالى وكتموه. وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن مع ما يرى في
منامه؛ عملا بالنصوص، واتباعا للشرع.
وصلوا وسلموا على نبيكم...