في ظل ترقب مصير غزة بعد انتهاء المرحلة الأولى من خطة ترامب، تتصارع سيناريوهات مستقبلية بين السلام الهش، عودة الحرب، أو الجمود، وسط ضغوط دولية وإقليمية ومواقف متباينة للأطراف الرئيسية
يترقب أهل غزة ومن يقف خلفهم من أمة
الإسلام بقلق بالغ، ما ستؤول إليه الأمور في غزة، بعد تسليم المقاومة جثة آخر أسير
صهيوني إلى الدولة العبرية، وانتهاء ما يعرف بالمرحلة الأولى من خطة ترامب لوقف
الحرب في غزة.
هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل غزة بعد
ما جرى في خلال الشهور الثلاثة الماضية، والذي توقف فيهم القتال تقريبا:
السيناريو الأول هو الانتقال إلى
المرحلة الثانية من خطة ترامب.
والسيناريو الثاني، يتعلق بانهيار
الخطة والعودة إلى الحرب والإبادة.
أما السيناريو الأخير، فهو بقاء الوضع
الحالي، فلا انهارت الخطة كليا، ولا تم الانتقال إلى وضع جديد.
ولذلك سنحاول تحليل العوامل المؤثرة في
تلك السيناريوهات والتي على ضوئها يتوقع أي من تلك السيناريوهات الثلاثة سيؤول وضع
غزة.
ولكن في البداية سنبدأ بتلخيص خطة
ترامب بشأن غزة وما تم تنفيذه وما لم ينفذ.
خطة ترامب الحلم والواقع
في سبتمبر الماضي، طرح الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب خطته لإيقاف حرب غزة، وتتضمن تلك الخطة ثلاث مراحل، وهي باختصار كانت
على النحو التالي:
·
المرحلة الأولى: تتضمن وقفا فوريا للقتال، وانسحابا جزئيا للقوات الإسرائيلية،
وإطلاق سراح جميع "الرهائن" (الأسرى) الصهاينة مقابل أعداد كبيرة من الأسرى
الفلسطينيين، مع إدخال شامل للمساعدات.
·
المرحلة الثانية: تركز على نزع سلاح غزة بشكل كامل، وانسحاب أوسع للقوات الصهيونية،
وتشكيل حكم تكنوقراطي فلسطيني انتقالي مدعوم من قوة دولية، وبدء جهود إعادة
الإعمار.
·
المرحلة الثالثة: هي مسار سياسي لاحق يهدف إلى فتح الطريق نحو تقرير المصير وإقامة
دولة فلسطينية في حال استيفاء شروط الإصلاح والحوكمة والأمن في غزة والضفة الغربية.
تضمنت الخطة إطًارا زمنيًا محددًا في
بعض البنود في المرحلة الأولى، لكنها تركت المراحل اللاحقة (المرحلتين الثانية
والثالثة) مفتوحة إلى حد كبير، وربطت إتمامها بتحقيق الشروط وليس بالضرورة بجدول
زمني صارم.
وعند التأمل فيما أنجزته المرحلة
الأولى من الاتفاق وما لم تنجزه نجد الآتي:
لقد نجحت المرحلة الأولى في إنهاء
العمليات العسكرية الواسعة، ووقف حملة الإبادة، وإنجاز ملف تبادل الأسرى بشكل
أساسي، ولكنها فشلت في عدة بنود أهمها:
|
|
على الرغم أن
الاتفاق ينص على السماح بعودة النازحين العُزّل إلى الشمال، فقد أفادت
التقارير بمنع قوات الجيش الصهيوني للكثيرين من العودة عبر الطرق المحددة،
أو استهدافهم خلال محاولات العودة |
استمرار قتل الفلسطينيين ولكن بوتيرة
أقل من السابق، وعدم دخول المساعدات الإنسانية بالكامل، وعرقلة عودة النازحين،
وأخيرا الانتهاكات المتعلقة بالتعامل مع المعتقلين.
بالنسبة لاستمرار قتل الفلسطينيين، فإن
العدد التقديري للضحايا الفلسطينيين الذين قتلوا في غزة نتيجة الخروقات الإسرائيلية
لوقف إطلاق النار يتراوح حول 386 إلى 390 شهيدا، وذلك وفقا لبيانات وزارة الصحة في
غزة والمراكز الإعلامية الحكومية.
فقبل الهدنة الأخيرة كان معدل قتل
الفلسطينيين في المتوسط
92 قتيلا يوميا، وبعد الهدنة
بلغ
6
قتلى، أي أن هناك انخفاضا كبيرا في معدلات وتيرة القتل، ولكنه لم يتوقف.
أما بالنسبة لدخول المساعدات، فقد نص
بروتوكول تنفيذ الخطة على دخول من 400 إلى 600 شاحنة يوميا.
ولكن في تعليق على تصريحات سفير
الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مايك والتز بشأن دخول 600 شاحنة مساعدات يوميا
إلى القطاع، وصف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة تلك التصريحات بأنها "مضللة" ولا
تعكس الواقع الميداني، مؤكدة أن المتوسط الفعلي لا يتجاوز 234 شاحنة يوميا منذ بدء
سريان وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر الماضي.
ولكن ليس عدد الشاحنات التي تدخل يوميا
هو المشكلة فقط، ولكن أيضا في النوعية، فهناك نقص في دخول الوقود والمعدات الأساسية
لإزالة الأنقاض وتشغيل المستشفيات، وهذا يؤدي بشكل غير مباشر إلى موت المدنيين بسبب
الجوع والمرض ونقص الرعاية الطبية، وهو ما يشكل خرقاً للبنود الإنسانية في الاتفاق.
وفي بند عودة النازحين، يبدو أن
الصهاينة يعرقلون تلك العودة،
على الرغم أن الاتفاق ينص على السماح بعودة النازحين العُزّل إلى الشمال، فقد أفادت
التقارير بمنع قوات الجيش الصهيوني للكثيرين من العودة عبر الطرق المحددة، أو
استهدافهم خلال محاولات العودة،
مما يعيق حرية الحركة
ويخلق حالة من الفوضى والاشتباكات تسفر عن ضحايا.
وفي قضية
الانتهاكات
المتعلقة بالمعتقلين، نجد أنه
في
بعض الأحيان، يتم التبليغ عن خروقات في عملية تبادل الأسرى أنفسها، سواء في قائمة
أسماء الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم أو عدم الإفراج عن المعتقلين حسب التصنيف
المتفق عليه.
واختتمت المرحلة الأولى باغتيال الرجل
الثاني في كتائب القسام الشيخ رائد سعد، بقصف سيارته بواسطة مسيرة صهيونية.
ولكي نستطيع تحديد أي السيناريوهات
المنتظرة لخطة ترامب وأيها سيكون الأكثر احتمالا، ينبغي تحليل
أهم محددات الواقع الحالي للصراع، والتي
يتوقف على تحديدها مسار الأحداث مستقبليا:
أولى هذه المحددات،
حقيقة موقف نتانياهو من الخطة وهل يرغب فعلا في استمرار تلك الخطة، أم أنه أرغم على
الموافقة عليها تحت ضغط ترامب وعوامل أخرى عديدة؟
نقلت تقارير صحفية كثيرة، عن أن ترامب
ضغط على نتنياهو لدرجة إجباره على قبول الخطة، وأن ترامب لوّح بأن نتنياهو سيجد
نفسه وحده إذا لم يوافق.
إذن هناك سببان رئيسيان يجعلان أن
افتراض قبول نتانياهو للخطة مكرها:
·
الأول داخلي يختلط فيه الحفاظ على مستقبله السياسي وتحالفه مع أحزاب الصهيونية
الدينية.
فنتنياهو يرى أن بقاءه السياسي مرتبط
بإظهار القوة والتحكم الكامل في الملف الأمني. أما قبوله بالخطة فإنه يظهره كشخص
يُجبر على وقف الحرب، مما يضعف موقفه أمام الرأي العام وشركاء ائتلافه، خاصة أن
شركاءه في الصهيونية الدينية تتعارض خطة ترامب مع أهدافهم في غزة، والتي تتمثل في
طرد أهل غزة واستيطان القطاع بإقامة مستوطنات على أرضه.
·
أما السبب الثاني الذي يجعل نتانياهو يُجبر على قبول خطة ترامب، فهو سبب خارجي،
يتعلق بالضغوط الشعبية الهائلة في الغرب الحليف التقليدي لدولة الكيان سواء في
اوروبا أو استراليا أو كندا أو حتى الولايات المتحدة، والتي جعلت حكومات الغرب في
موقف حرج من دعم دولة الصهاينة، فتزايدت ضغوط تلك الحكومات على نتانياهو وكانت
عاملا مؤثرا في اذعانه.
أما المحدد الثاني
في التأثير على سيناريوهات التي سيؤول اليها واقع غزة، فهو قدرة ترامب على
الاستمرار في الضغط على الكيان الصهيوني، وهذا يدفعنا إلى تذكر الأسباب التي دفعت
الرجل لفرض خطته في غزة بعد ما يقرب من ٩ أو ٨ شهور من وصوله إلى الرئاسة، ويتساءل
المراقبون بالفعل لماذا في هذا التوقيت ضغط ترامب؟
هذا التوقيت جاء باختصار، بعد أن أدركت
الإدارة الأمريكية أن الأهداف العسكرية الإسرائيلية لن تتحقق بالكامل، وتزامنا مع
تدهور إنساني كارثي وضغط دولي هائل، بالإضافة إلى رغبة ترامب نفسه في تسجيل إنجاز
دبلوماسي ضخم في بداية عهده الثاني.
والمحدد الثالث
الذي يتوقف عليه نجاح الخطة واستمرارها، فهو موقف حماس والفصائل الفلسطينية.
ففي المرحلة الأولى بدأ حرص المقاومة
على تنفيذ بنود تلك الخطة، بالتزامها بتسليم الأسرى الأحياء والأموات، وممارستها
ضبط النفس أمام الاستفزازات الصهيونية، وتعنتها في استمرار القتل، وضعف تدفق
المساعدات، والمعاملة السيئة للأسرى، فهناك رغبة حقيقية لدى المقاومة في إنهاء تلك
الحرب وترك الشعب الغزاوي لفترة طويلة يلتقط فيها الأنفاس، ويضمد جراحه. كما تعيد
المقاومة نفسها ترتيب أوراقها وتنظيم صفوفها وتعويض تسليحها.
ولكن كيف ستتعامل المقاومة مع
استحقاقات المرحلة الثانية والتي من بنودها نزع سلاح المقاومة، وادخال قوات أجنبية
تتنازعها مهام مختلطة لم يتم تحديدها بعد: فهل هذه القوة فصل وسلام، أم يتم تكليفها
بنزع سلاح المقاومة؟
والمحدد الأخير
في مستقبل خطة ترامب في غزة، يتعلق بمواقف الدول الإقليمية وخاصة العربية
والاسلامية.
إن تأثير مواقف الدول الإقليمية، خاصة
العربية والإسلامية، على مستقبل خطة ترامب في غزة ليس مجرد تأثير جانبي، بل هو عامل
حاسم ومحوري لنجاح الخطة واستمرارها، خاصة بعد المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار
وتبادل الأسرى.
تعتمد
الخطة الأمريكية بشكل أساسي على الدعم الإقليمي لثلاثة أدوار لا يمكن للولايات
المتحدة أو الكيان الصهيوني القيام بها بمفردها.
الأول، توفير الغطاء المالي والإنساني
(عامل الاستقرار).
الثاني، توفير القوة الأمنية والإشراف
على الحكم.
الثالث، الدعم السياسي والضغط على
الأطراف المختلفة.
وفي النهاية.
نجاح أي من السيناريوهات الثلاثة سواء
استمرار المرحلة الثانية من خطة ترامب أو انهيارها بالكامل والعودة للحرب، أو بقاء
الوضع الحالي، يتوقف على العوامل الأربعة التي ذكرناهم، ومع مدى تفاعل الأطراف
الأربعة مع هذه العوامل، سواء الجانب الصهيوني، أو الأمريكي، أو الإقليمي، أو
المقاومة.