وظفت بريطانيا الأفيون سلاحاً لاستنزاف الصين وإخضاعها للاستعمار عبر معاهدات مذلة. شكلت هذه الحقبة المظلمة دافعاً لنهضة "التنين الصيني" المعاصر، الذي تحول من الضعف والتبعية إلى قوة عالمية وتكنولوجية كبرى، متبنياً مبدأ أن القوة هي الضمان الوحيد للسيادة.
في الربع الأول من القرن 19، نجحت بريطانيا في إحكام سيطرتها على شبه القارة
الهندية، من خلال النشاط الأخطبوطي لشركة الهند الشرقية البريطانية، والعزف على وتر
فسيفساء الطوائف والأديان في الهند، وبالتالي، تحويل الهند إلى سوق لتصريف البضائع
البريطانية، من جهة، ولتأمين تدفُّق المواد الخام والسلع الغذائية منها إلى
بريطانيا، من جهة أخرى.
وفي عام 1842م نجحت بريطانيا في احتلال الصين، هذا الكيان الجغرافي والبشري
والتاريخي والحضاري الضخم، الذي يفوق أوروبا كلها مساحةً وسكانًا. فأيّ الأسلحة
استخدمت بريطانيا حتى استطاعت أن تحتل الصين؟!
بريطانيا ونظام كانتون التجاري
حصرت السلطات الصينية منذ أقدم العصور، ميناء واحدًا لنشاط التجار الأجانب، وهو
ميناء كانتون. وهذا الميناء هو الذي كانت تتردد عليه السفن التجارية الإسلامية،
وتقيم فيه الجاليات الإسلامية، منذ فجر الإسلام، وكان سببًا في انتشار الإسلام
بالصين، حتى وصول الأساطيل الأوروبية الغازية إلى هذه المنطقة في القرن 16.
وفي عام 1685م، في عهد سلالة تشنغ-المانشو (1644- 1912م)، نالت شركة الهند الشرقية
البريطانية ترخيصًا بإقامة محطة تجارية بكانتون، وكان الشاي، أهم السلع التي
تستوردها بريطانيا، وكانت تدفع بالفضة، لعدم طلب الصين سلعًا بريطانية. وفي هذا
الوقت ازداد نشاط التجار الأوروبيين بكانتون، بعد أن أزاحوا منها التجار المسلمين،
فقام الإمبراطور قيانلونج (1736- 1795م)، بفرض إجراءات صارمة على هؤلاء التجار،
زادت من تقييد حركتهم، ومن إمكانية ترويج سِلَعهم في الصين.
وهكذا استمرت بريطانيا لعقود تستورد الشاي والحرير من الصين، مع بقاء السوق الصيني
مغلقًا أمام بضائعها، ما يعني استمرار تدفق الفضة من بريطانيا إلى الصين، وبالتالي،
استمرار العجز في ميزانها التجاري، الأمر الذي أرَّق الحكومة البريطانية، ودفع
الملك جورج الثالث (1760- 1820م) إلى إرسال وفد إلى الصين عام 1793م، بقيادة اللورد
مكارتني، لطلب فتح موانئ صينية إضافية للمنتجات البريطانية، ولإقامة علاقات
دبلوماسية، وحمل الوفد معه العديد من السلع البريطانية كهدية للإمبراطور وحاشيته
لإغرائهم باستيرادها، لكن الإمبراطور العجوز، رفض الطلب، وسَخِر مِن الوفد ومِن
مَلِك بريطانيا ومِن المنتجات البريطانية، وأوضح لهم أن مملكة السماء (الصين) عندها
كل شيء، ولا تحتاج إلى أن تتعلم شيئًا من الآخرين.
وعند عودة هذا اللورد إلى بريطانيا، رسم صورة قاتمة للصين، وهذه الصورة ستكون فيما
بعد هي صورة الصين في أعين الغرب كله، واعتبر مكارتني النظام الصيني نموذجًا للنظام
المُتخلِّف الذي يقود بلاده إلى البربرية والبُؤْس، واستنتج أن الصين لن تستطيع
مقاومة القِيَم الغربية.
وعلى إثر ذلك قررت بريطانيا اختراق الصين ونَخْرها من الداخل، مستخدمةً أخطر
الأسلحة فتكًا، وهو الأفيون، الذي كانت تنتجه الهند: لؤلؤة التاج البريطاني، آنذاك.
سياسة إغراق الصين بالأفيون
كان إدمان الأفيون في الصين، آنذاك، مقتصرًا غالبًا على قلة من الأغنياء ورجال
البلاط والإدارة، وكانت الحكومة الصينية تسمح باستيراده بكميات يسيرة، لأغراض طبية،
وكانت هناك كميات أخرى تدخل الصين من خلال التهريب، الذي كان يقوم به التجار
البريطانيون عبر البحر، بالتنسيق مع مُهرّبين من الداخل، فعمدت الحكومة البريطانية
إلى تبنّي سياسة إغراق الصين، بهذه المادة السامة المُدمِّرة، فقامت في عام 1797م،
بمَنْح شركة الهند الشرقية البريطانية حقّ احتكار تصنيع وتجارة هذه المادة، فتوسعت
الشركة في زراعة الخشخاش (النبات الذي يُستخلَص منه الأفيون) في الهند، وأنشأت
مصنعًا في كاليكوت لتنقية وتصنيع هذه المادة، وأصبحت الشركة تبيع الأفيون بالمزاد
العلني للتجار الذين يتولون بعد ذلك تهريبه للصين.
ولذلك راحت كميات الأفيون التي تدخل الصين تتزايد باستمرار، وانتشرت في أوساط
الصينيين، الذين يؤمنون بالخرافات ويعبدون السماء وكونفشيوس، ويؤمنون بخرافة مفادها
«أن
الأفيون يداوي جميع الأمراض»،
فتعاطاه الملايين منهم وأدمنوا عليه.
وكانت أرباح هذه التجارة خيالية للتجار البريطانيين وللحكومة البريطانية وللقائمين
بعملية التهريب. وكانت الضريبة التي تفرضها حكومة الهند البريطانية الاستعمارية
تبلغ300% من قيمة الأفيون المُصدَّر، فأصبحت حصيلة هذه الضريبة، بالتالي، موردًا
أساسيًّا للدخل الحكومي.
كما أن الهنود الذين يزرعون هذا السُّمّ، استفادوا أيضًا من مأساة الصينين، فزادت
دخولهم وارتفعت قدرتهم الشرائية على شراء المنتجات البريطانية، وبخاصة المنسوجات.
وبعد أن كانت بريطانيا، تدفع كميات هائلة من الفضة للصين لتمويل وارداتها من الصين،
أصبحت تُموّل تلك الواردات من إيرادات تصدير الأفيون إليها. وهكذا استطاعت أن تحلّ
مشكلة عجز الميزان التجاري مع الصين، بل واستطاعت تحويل ذلك العجز إلى فائض.
وبهذه الطريقة انتشرت ظاهرة إدمان الأفيون على نطاقٍ واسع في الصين، وشملت شريحة
كبيرة من عامة الشعب، وارتفع حجم الاستيراد السنوي بصورة مخيفة. ومع تعاظم استيراد
الأفيون، انقلب حال الميزان التجاري مع بريطانيا؛ إذ لم تَعُد قيمة ما تُصدِّره
الصين إلى بريطانيا من الشاي والحرير الخام والخزف يكفي لدفع فاتورة الأفيون
المستورد منها.
تفاقم الإدمان على الأفيون بالصين
وهكذا أخذت الفضة تنساب بكميات كبيرة من الصين إلى بريطانيا، وبصورة أدَّت إلى
استنزاف الخزانة الصينية واحتياطياتها من الفضة. وكان لانتشار إدمان الأفيون آثار
تدميرية على الشعب الصيني؛ فانتشرت الجريمة في أوساطه، وتدهورت إنتاجيته، وحدث مثل
ذلك للجيش ورجال الإدارة الحكومية.
بالإضافة إلى ذلك، قام التجار البريطانيون بإفساد رجال الإدارة الحكومية الصينيين
من خلال الرشاوى والهدايا، لتسهيل عمليات تهريب الأفيون للداخل. ومع تفاقم حجم
الكارثة، قامت السلطات الصينية عام 1838م بحظر هذه التجارة الحقيرة، فأغلقت أوكار
الأفيون، واعتقلت وأعدمت المئات من تُجّاره الصينيين، ودمَّرت عشرات الآلاف من
مخازن الأفيون.
وكانت بريطانيا تُخزّن كميات هائلة من الأفيون في كانتون، وعلى متن سُفنها، فتم
مصادرة تلك الكميات وتدميرها، وتعزيز قوة السواحل لمكافحة التهريب.
كما أُلزم قبطان كل سفينة تجارية تدخل ميناء كانتون أن يتعهَّد بعدم إحضار الأفيون
للصين، وأنه في حالة خرق هذا التعهد تُصادَر الحمولة، وتُوقَّع عليه عقوبة الإعدام.
وأخيرًا، ضغطت على البرتغاليين، الذين كانت لهم محطة تجارية في ماكاو المجاورة،
لطرد البريطانيين غير المتعاونين، مما أجبرهم على الانتقال إلى جزيرة هونغ كونغ.
وكان حظر تجارة الأفيون، حقًّا سياديًّا وطبيعيًّا ومشروعًا مارسته دولة دمّرتها
هذه المادة، ولكنّ بريطانيا (المتحضرة!)، رفضت هذا الحظر، وادَّعت أنه انتهاك لحرية
التجارة، واعتبرتْ تدمير مخزون تُجّارها من الأفيون إهانةً لكرامتهم، وجُنَّ جنون
«تشارلز
أليوت»
الوكيل التجاري لبريطانيا في كانتون، فقام بدعوة حكومة بلاده لشنّ حرب على الصين،
واستجابت لذلك الطبقة الغنية في لندن من صناعيين وتجار ومصرفيين، وقامت بحملة لجمع
الأموال لتمويل الحرب، ولإشعال الرأي العام ضد الصين، وحثّ الحكومة البريطانية على
غزوها عسكريًّا. كما لعبت البعثات
«التبشيرية»
دورًا في التحريض على هذا الغزو، على اعتبار أن الصين
«بلاد
الوثنيين الذين يفتقدون ضوء الله، ويجب أن يُنقذهم أحد من اللعنة الأبدية».
وأخيرًا وجد كبار الاستعماريين البريطانيين الذريعة التي كانوا يبحثون عنها، لتوسيع
مصالح الإمبراطورية البريطانية في الصين، والتي شعارها دومًا
«هل
مِن مزيد؟».
بريطانيا تشن حرب الأفيون ضد الصين
في أكتوبر 1839م اجتمعت الحكومة البريطانية، واتخذت قرار الحرب ضد الصين؛ لتأديبها،
ولكي تفرض عليها قِيَم الغرب (المتحضّر!). وكان الذي شجَّعها على ذلك نجاحها في
اختراق الصين، وتدمير قواها الداخلية عن طريق إغراقها بالأفيون، والبعثات التبشيرية
البروتستانتية، بجانب الضعف الذي أبدته الحكومة الصينية، ومحاولتها استرضاء
بريطانيا عن طريق الإعلان عن استعدادها لدَفْع تعويضات للتجار البريطانيين، عن
كميات الأفيون المُصادَرة.
وفي أوائل يونيو 1840م وصل الأسطول البريطاني إلى عُرض البحر قُبَالة سواحل الصين،
وكان يتكون من أحدث وأضخم السفن الحربية المُزوَّدة بأحدث وأضخم المدافع والبنادق،
وعلى متنها أربعة آلاف مقاتل، بقيادة جورج إليوت، وسرعان ما فرضت حصارًا بحريًّا
على السواحل الصينية، وحدثت المواجهة بين الطرفين، فقامت السفن الحربية البريطانية
بتدمير السفن الحربية الصينية، وقصفت المدن الساحلية دون رحمة أو هوادة، واستمرت
المعارك على مدار العامين التاليين.
واجهت الصين البريطانيين بجيشٍ كثيف، ولكنّه مختلّ النظام وغير متجانس، ولا يملك
أسلحةً حديثةً، وإنما مدافع وبنادق قديمة، وسفنًا حربية محدودة غير فعّالة، وانتحر
عشرات الضباط الصينيين عندما عجزوا عن صدّ السفن والقوات البريطانية الغازية.
وانتهت المواجهة بهزيمة الصين، وإبادة الكثير من محاربيها، وتقويض نظام كانتون
التجاري، واستولت القوات البريطانية على شنغهاي وهونج كونج، وذبحت المدنيين على طول
ساحل الصين، واعترف أحد الضباط البريطانيين قائلاً:
«وقعت
أفظع الأمور، وأكثرها وحشيةً، مما أهان رجالنا».
كما قام البريطانيون بكل ضروب السلب والنهب بالمدن التي احتلوها.
ومع تلكؤ الحكومة الصينية عن إعلان الاستسلام؛ استدعت بريطانيا مزيدًا من التعزيزات
الحربية. وفي أغسطس 1842م، وسَّعت من نطاق عملياتها العسكرية داخل الأراضي الصينية،
فاستولت على المزيد من المدن والموانئ، وحاصرت المزيد منها، فتوقفت التجارة الصينية
الداخلية تمامًا.
واستجابت بريطانيا أخيرًا لمطلب الحكومة الصينية بالاستسلام بدون شروط. وكانت
الهزيمة دليلًا على تفسُّخ وفساد النظام الإمبراطوري الصيني، وعدم قدرته على مقاومة
الضغوط الغربية العسكرية والاقتصادية، وحماية أمن البلاد، رغم الأموال الهائلة التي
ابتزّها من الشعب.
معاهدة نانكنج وتجارة الأفيون بالصين
في يوم 29 أغسطس 1842م وُقِّعَتْ اتفاقية
«نانكنج»
على ظهر سفينة حربية بريطانية، وكانت نموذجًا صارخًا للمعاهدات الجائرة بين القوى
غير المتكافئة، فقد أذلَّت إمبراطورية الصين، وكسرت نفوس الصينيين، فقد نصَّت على
أن تتنازل الصين لبريطانيا عن جزيرة هونج كونج، وأن تفتح خمسة موانئ كبرى
لتُجّارها، وأن تسمح لهم وعائلاتهم بالإقامة فيها، دون الخضوع للنظام الإداري
والقانوني الصيني، وأن تدفع مبالغ طائلة لتعويض نفقات الحرب، ولتعويض التجار
البريطانيين عن الأفيون المُصادَر، وعن ديونهم التي على التجار الصينيين، وأن يتم
تخفيض التعريفة الجمركية إلى 5%، وعدم جواز تعديل هذه التعريفة إلا بموافقة
الطرفين. بالإضافة إلى وضع نظام لحماية الأجانب يقضي بعدم خضوع البريطانيين
للقوانين والمحاكم الصينية؛ (ونَجَم عن ذلك ارتكاب البريطانيين لأفظع الجرائم دون
مُحاسَبة من الجانب الصيني).
وتضمنت المعاهدة العديد من البنود العقابية؛ أحدها: إجبار الحكومة الصينية على
نَفْي
«لين
زيكسو»
الوزير الصيني الذي تولَّى تطبيق قرار حظر الأفيون دون تساهُل، وانتقد ملكة
بريطانيا فيكتوريا (1837- 1901م)؛ لتغاضيها عن هذه التجارة الحقيرة.
ولم يرد ذِكْر الأفيون الذي كان حظره ذريعة للغزو، في المعاهدة، إلا أن بنودها
المُذِلَّة، قضت ضمنًا أن تُصبح تجارته مشروعة، واضطرت الصين إلى عدم استجواب السفن
التجارية بشأن ما تحمله من بضائع.
واستفحلت تجارة الأفيون في الصين بعد ذلك، ووصل الاستيراد إلى كميات خيالية،
وبتكاليف فلكية حتى عام 1879م، كما تمخَّضت سياسة حرية التجارة (أو الباب المفتوح)
التي فُرِضَت بقوة السلاح، عن فتح أسواق الصين للمنتجات الصناعية الأجنبية، فتدهورت
صناعة النسيج، وبدأ اقتصاد الصين القائم على الاكتفاء الذاتي، يتَّجه نحو التدهور،
وزاد إفقار الفلاحين واستغلالهم لكي يُموِّلوا مدفوعات تعويضات الحرب، وتفشَّى
تعاطي الأفيون بينهم.
وفتحت هذه المعاهدة شهية بريطانيا للحصول على المزيد من الامتيازات في الصين،
فقامت، بمؤازرة فرنسا، بشنّ حرب الأفيون الثانية (1856- 1860م)، ضد الصين، والتي
انتهت باحتلال بكين والاستيلاء على قصر الإمبراطور ونَهْبه وإحراقه، وإرغام السلطات
الصينية على توقيع معاهدة أكثر إجحافًا وإذلالًا من المعاهدات السابقة.
تكالب القوى الغربية على الصين
تلا ذلك سَيْل من المعاهدات والامتيازات للدول الغربية، مثل ألمانيا وإيطاليا
وهولندا والنمسا وبلجيكا والدانمارك والمجر وأمريكا، وزاد التدخل الأجنبي في شؤون
الصين، وأصبح للأجانب حقّ التنقل بحرية داخل الصين، وعدم الخضوع للقوانين المحلية،
وصار لهم شرطة خاصة تحميهم، وفُتِحَت الموانئ على مصارعها أمام السفن الأجنبية،
واحتلت بريطانيا 23 ميناء، منها شنغهاي أهم موانئ الصين، وسيطرت على جماركها
وإدارتها.
وتبع ذلك بروز شريحة انتهازية محلية، وضعت نفسها في خدمة الأجانب، وربطت مصالحها
بمصالحهم، وطرحت فكرة الانسلاخ من صينيتها، واستبدالها بأخرى غربية، في مواجهة
الشريحة الأكبر، الرافضة الأخذ بالتكنولوجيا، والمتشبثة بالنهج الصيني الجامد
الخامد، باعتباره النهج الوحيد الصالح للحياة.
وهكذا، كانت حرب الأفيون نموذجًا صارخًا للوحشية التي مارستها القوى الغربية في
استضعافها للدول الأخرى، وكان من نتائجها: إجبار الصين بالقوة على فتح أبوابها
للرأسمالية العالمية، وسَلْب أراضيها، والرقابة على ماليتها، وإذلالها، وتحطيم
صناعتها وزراعتها وكل مقومات نموّها، وتحويلها من بلدٍ غني مُصدِّر، إلى بلد فقير
تستورد معظم حاجياتها من الخارج، وتتراكم عليها القروض الربوية باستمرار، وأن تصبح
أقاليمها نهبًا مستباحًا للمتغلبين من قادة الجند ورؤساء العصابات، وأن تَغرق مدنها
في المستنقعات والتلوث، ويعاني معظم سكانها من إدمان الأفيون والمجاعات ومرارة
الاستغلال الأجنبي والجهل والاستعباد، ومن الاحتقار الذي ليس بعده احتقار، والذي
شهدت به حديقة الأوروبيين بشنغهاي، والتي تصدّرتها لافتة ظلَّت موجودةً حتى
الاستقلال، مكتوب عليها:
«غير
مسموح بدخول الكلاب والصينيين»!
وتوالت الضربات لهذا التنين الضعيف المُثخَن بالجراح، فغزته اليابان عام 1895م،
واقتطعت منشوريا، ولسان حالها:
«أنا
أولى بهذه الفريسة الضخمة».
ولقطع الطريق عليها، انقضت جيوش إنجلترا وفرنسا وألمانيا وأمريكا وروسيا على بكين
في أغسطس 1900م، لخنق ذلك التنين وسَلْخه وتقاسم أشلائه.
وفي نهاية الحرب العالمية الأولى أخضع الحلفاء الصين للسيطرة اليابانية، وعدم منحها
الاستقلال. ولعل الشيء الوحيد الذي كانت الحكومة الصينية المنبطحة للغرب، تُعوِّض
فيه نَقْصها، خلال هذه الفترة، هو تشديد قبضتها على إقليم تركستان الشرقية،
والحيلولة بين المسلمين فيه وبين تقرير مصيرهم[1].
محاولة تحويل الصين إلى المسيحية
بدأ توافد البعثات الكاثوليكية على الصين في القرن 16، وكانت البابوية قد قامت
بدراسات حول الصين، وصلت من خلالها إلى قناعة بإمكانية تحويلها إلى النصرانية (وهو
مشروع ثبت عُقْمه في النهاية). أما البعثات البروتستانتية (البريطانية والأمريكية)،
فقد بدأ توافدها على الصين، في بداية القرن 19، قبل اندلاع حرب الأفيون، وكانت هذه
البعثات هي مقدمات للتوغلات البريطانية في الصين، ثم كانت المدفعية البريطانية بعد
ذلك، هي التي تفتح لها الطريق إلى الصين لـ«التبشير
بالمسيحية»،
ونشر ثقافة (مَن ضَرَبك على خدك الأيمن فأَدِرْ له خَدّك الأيسر)؛ لتثبيط عزائم
الصينيين عن مقاومة الغزاة.
ثم كان من ضمن الامتيازات التي حصلت عليها الدول الأوروبية وأمريكا في الصين بعد
ذلك: حرية إرسال بعثات
«تبشيرية»
وإقامة كنائس في الصين، وعلى إثر ذلك، تدفّق طوفان حقيقي من المنصّرين، وبخاصة
الأمريكيين، وانتشروا في كل ربوع الصين، وهم مقتنعون تمامًا بأنهم قادرون على تحويل
الصينيين (الوثنيين) إلى أُمَّة نصرانية، وفرض القِيَم الأمريكية والغربية عليهم،
وشهدت الفترة 1900- 1949م قمة النشاط التنصيري الغربي، وظنّ
«المُبشّرون»
أنهم نجحوا، ولم يستيقظوا من هذا الحُلم إلا وهم يُطردون بالقوة من الصين كلِّها.
وهكذا، فإن
«المبشرين»
الكاثوليك والبروتستانت فشلوا فشلًا عظيمًا في سَعْيهم لنشر النصرانية في الصين،
رغم الفرص التي أُتيحت لهم لأكثر من قرن، ورغم توافر الإمكانات الهائلة لديهم،
وسعيهم لنشر عقيدتهم بكل قواهم وجهودهم، وبكل الوسائل لديهم لترغيب الصينيين فيها.
إن المُنصِّرين في الصين بذلوا أموالهم وأنفسهم ونسائهم لتبليغ النصرانية في الصين
في القرون الماضية، ولكن لم يتبعهم سوى عدد قليل جدًّا، وأغلب هؤلاء اعتنقوا
النصرانية إما رغبةً في المال أو الوظائف أو النساء اللائي كن يردن على المُنصِّرين
من آنٍ لآخر، ورغم كتاباتهم -أي: المُنصِّرين- المقالات ضد الإسلام في مجلاتهم،
وتحذيرهم للصينيين منه، وردّ الفعل المتواضع من المسلمين، إلا أن الإسلام زاد
انتشارًا في الصين في العهد الجمهوري، بعد زوال نظام سلالة المانشو الإمبراطوري
البالي عام 1912م[2].
يقظة التنين الأصفر
بعد نصف قرن من حرب الأفيون، وما نتج عنها، اشتعلت الثورات بالصين ضد الأجانب
والبعثات التنصيرية، كثورة الملاكمين (1899- 1901م)، التي نكَّلت بهم. ومع أنهم
توحّدوا ضدها ووقّعوا الجزاءات الصارمة عليها، إلا أنها كانت دليلًا على أن التنين
الأصفر بدأ يفيق من سُبَاته العميق الطويل، لذلك لم تلبث الثورة الكبرى أن قامت
بالصين عام 1911م، وأسقطت نظام المانشو، البالي، وأعلنت الجمهورية في 12-2-1912م،
ودخلت في صراع مرير مع المستعمرين وأعوانهم الإقطاعيين بالداخل، كما أن الثورة
البلشفية في روسيا آزرتها وزوّدتها بالسلاح والعتاد والتدريب؛ نكايةً بالغرب
الرأسمالي.
وفي مايو 1921م، تظاهر الطلبة والعمال ببكين مطلقين شرارة الديمقراطية الجديدة ضد
المستعمرين وأمراء الحروب. وفي سبتمبر 1925م هاج الصينيون في الموانئ الكبرى،
وهجموا على مخازن الأجانب من يابانيين وأوروبيين وأمريكيين، فدَمَّروها، وتكرَّرت
هذه الحوادث لاشتداد نقمة الصينيين على الأجانب، الذين صاروا يملكون كل شيء، بينما
الصينيون يعانون المجاعة والمرض، وأصاب الشلل التجارة البريطانية واليابانية جراء
ذلك.
وتكرر الغزو الياباني للصين بوحشية عام 1937م، لكنّ الشعب الصيني استمر في الكفاح،
والذي أفضى إلى انتصار الثورة الاشتراكية عام 1949م، وإعادة توحيد الصين، وإقامة
دولتها المركزية القوية والمهابة، بزعامة ماوتسي تونج، ولمَّا حاولت أمريكا عزلها
لم تُفْلح، وانتصرت الصين، إلا أنها دخلت نفقًا مظلمًا جديدًا، هو نفق دكتاتورية
الحزب الشيوعي والثورة الثقافية والإرهاب الأحمر، ومرت بالعديد من الكوارث
والمجاعات، ولم تخرج من هذا النفق إلا في نهاية السبعينيات من القرن الـ20، عندما
استلهمت النموذج الآسيوي للتحديث، وانفتحت على العالم مع الحفاظ على
«الخصوصية
الصينية»،
لتتحول الصين بعدها، اعتمادًا على التخطيط المتقن والعمل الدؤوب، إلى عملاق اقتصادي
وتكنولوجي وسياسي يَهابه الجميع، واستردت هونج كونج عام 1997م، وصار الدرس الذي
يتعلمه الطلاب الصينيون عن حروب الأفيون: أن الصين يجب ألّا تكون ضعيفة ومتخلّفة،
وكما يقول مؤرخ بريطاني:
«إذا
تحدثتَ مع الصينيين اليوم عن حرب الأفيون، فستسمع سريعًا عبارة
«لو
هو جيو ياو آي دا»،
والتي تعني حرفيًّا:
«إذا
كنتَ مُتخلِّفًا، فسَتُهْزَم».
[1] حول هذا الموضوع انظر مقال: تركستان الشرقية... قضية إسلامية لا عِرْقية، مجلة
البيان، العدد 359، رابط:
https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=5693
[2] حول المسلمون في الصين انظر مقال: المسلمون في الصين جذور عميقة رغم الأخطار
المحدقة، مجلة البيان، العدد 404، رابط:
https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=12307