الغلاة والدعوة الإصلاحية

الغلاة والدعوة الإصلاحية

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

كلما وقعت حادثة في عالمنا الإسلامي نشط الإعلام الغربي والمحلي في توظيف هذه الحادثة لتشويه صورة الدعوة والدعاة والمنهج الإسلامي، حتى أصبحت سمة ثابتة في كل الحوادث التي تقع في أي بلدٍ إسلامي أو غربي، فكل حدث هنا أو هناك هو فرصة ذهبية لخصوم المنهج الإسلامي في توظيفه لخصومتهم الفكرية، وكل واحد منهم له خصومته الخاصة التي يفرغها في خضم هذا الحدث، فكل ما له ارتباط بالتديّن من شخصيات ومؤسسات وأحكام، هو عرضة للتشويه بشكل ثابت مع كل حدث، في صورة متكررة قد اعتاد عليها الناس فما عاد فيها جديد.

ومن الملاحظ أن التشويه لأحكام الإسلام يتوسع ويضيق بحسب درجة انحراف صاحب التوظيف؛ فبعضهم يستغله لمهاجمة مؤسسات شرعية معينة، أو شخصيات معاصرة، ويزداد عند آخرين فيهاجم علماء الإسلام السابقين، ويتوسع عند آخرين حتى ينال من النصوص الشرعية صراحة ويطعن في الأحكام الثابتة بلا حياء.

وفي هذه الأيام تقوم حركة إعلامية نشطة بتوظيف حالة الغلو والانحراف الظاهرة لدى أحد الفصائل المقاتلة في الشام لتشويه دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتقبل منه - من خلال اقتطاع نصوص معينة والحكم بعدها بأن ما قام به الشيخ لا يختلف عما يفعله الغلاة الآن من قتل للمجاهدين واعتداء على المسلمين.

هي طريقة عبثية فيها قدر كبير من التسطيح في الطرح، حيث تقوم فيها فكرة الربط والمقارنة على اقتناص عبارات معينة لربط الدعوة الإصلاحية بمنهج الغلاة، وهي مقارنة بغاية السطحية في فهم الأفكار والاتجاهات؛ فتقويم الأفكار يتم من خلال عنصر المفارقة بينها لا عنصر المشابهة، وإلا فيمكن بكل سهولة عقد المشابهة بين الصحابة رضي الله عنهم والخوارج، ويمكن جعل الربا مشابهاً للبيع، وحد الردة شبيهاً بمظالم الولاة!

 بل من الملفت أن الكثير يعقد المقارنة بين الطرفين بناءً على وجود عنصر (التكفير)، وكأن التكفير بحد ذاته غلو وانحراف، مع أن الإشكال هو في الغلو في التكفير وليس في أصله.

الثاني: غياب الدراسة العلمية الموضوعية لدعوة الشيخ وحركته الإصلاحية، فهي انتقادات مختزلة تحكم على دعوة الشيخ من خلال اقتناص أي عبارات لزمان ممتد لما يقارب 300 سنة، من دون تمييز لزمان أو مكان أو شخص أو حال، ولا مراعاة لطبيعة المقارنة بين الحدث التاريخي والحدث المعاصر. وغياب التمييز دليل على فقدان المعلومات التفصيلية، وحين تغيب المعلومة مع اشتداد الخصومة فأبشر بكل انتهاك ممكن للعدل والإنصاف!

القراءة الموضوعية تحتاج إلى بحث واطلاع ونظر معمق في الموضوع، ومناقشة الاستدلالات، وفهم سياقات الأقوال؛ ولأجل هذه المتطلبات المسبقة يندر وجودها، بينما الربط التلقائي القائم على (هذا يشبه هذا)، فهي عملية مريحة جداً، ولهذا يشارك فيها الشخص مباشرة بمجرد أن ينتهي من مشاهدة مقطع «يوتيوب»!

القراءة الموضوعية ستشرح للناس وجه الانتقاد على الدعوة الإصلاحية في أي شيء هو؟

فهل الدعوة الإصلاحية وقعت في الغلو لأنها ترى كفر من يشرك مع الله في الدعاء والاستغاثة والنذر والذبح؟

أم وقعت في الغلو لأنها ترى قتال المشركين الممتنعين عن الالتزام بعبادة الله؟

أم هو لا ينازع في هذا ويرى أن الإشكال في جوانب أخرى، فهل الإشكال مع شخص معين أو حاكم معين؟... إلخ.

فالبحث الموضوعي سيوضح بدقة وجه الإشكال، وسيكون مجالاً مفيداً للمطارحات العلمية في قضايا شرعية متنوعة.

الثالث: استغلال نفرة الناس من أفعال الغلاة لتوظيفها في التنفير من الدعوة الإصلاحية، وقد دخل في هذا المضمار كل من له خصومة عقدية مع الشيخ، حتى من يعتقدون جواز الاستغاثة بغير الله جعلوا مخاصمة الشيخ لهم من جنس مخالفة الغلاة للمجاهدين في الشام!

وهو أسلوب غير نزيه في الخصومة، فإن كان خلافهم مع الشيخ قديماً فالمفترض أن يقدموا أبحاثهم العلمية التي تنصح الناس عن الخلل وتناقش الأدلة والأقوال. أما ترك ذلك كله والسكوت عنه حتى تأتي وقائع معينة يشمئز منها الناس فيقفز عليها ليمارس الربط بينها وبين مخالفيه؛ فهي ممارسة غير علمية تكشف عن توظيف غير أخلاقي يحاول تغطية الضعف العلمي!

ليس لدينا أي إشكال في النقد العلمي الموضوعي لأي حركة إصلاحية، ولو أن هذه الانتقادات سلكت منهجاً موضوعياً علمياً في نقد تراث الشيخ وحركته؛ لكان نتاجاً علمياً يستحق أن يقرأ ويستفاد منه، ومن خلاله تستطيع أن تحكم على طبيعة النقد، وعلى أي شيء ينتقد حركة الشيخ، حتى لو أساء الظن فيها أو في بعض أتباعها، فما دام أنه ملتزم بأصول الشريعة ولا يناقض قطعياتها وإنما إشكاليته في موقف ما من مصلح؛ فالأمر يقابل بالاجتهاد والرد العلمي. أما الذي نراه في غالب الأمر الآن فهو توظيف لحالة الغلو في تصفية حسابات فكرية مع الدعوة الإصلاحية، واستغلال حالات الذبح البشعة للمسلمين التي تنقلها الصورة المعاصرة لتسليطها على الخصومة الفكرية لتكون الصورة بديلاً عن الرد العلمي، وهي طريقة غير نزيهة وتوظيف غير أخلاقي في مسار الاختلاف.

يقول بعض الناس عادة هنا: لماذا تقدسون الشيخ وتدّعون فيه العصمة وترونه فوق النقد؟

وهي كلمة يكررها صاحب كل نقد ليخفي الخلل في نقده، فكأن الواجب هو قبول نقده بلا تمييز أو أننا لا نقبل أي نقد. والحقيقة أن قبول أي نقد لا يقل سوءاً عن رفض أي نقد، فكلاهما موقف ضعيف غير قادر على الفهم الدقيق للقضايا العلمية.

فالإشكال إذن ليس في نقد الشيخ وحركته الإصلاحية، فمع قناعتنا بفضل الشيخ وأثره العميق في نشر التوحيد وإقامة شرائع الإسلام ونشر السنة؛ إلا أن هذا لا يمنع من عرض ذلك على ميزان الكتاب والسنة، وهو ما كان يدعو إليه الشيخ كبقية أسلافه من أئمة الإسلام.

إنما الإشكال في منهجية النقد، فبناء النقد إنما يقوم على أساس العلم والعدل، وبقدر ما يتحققان في أي نقد بقدر ما يكون نقداً شرعياً يجتهد العقلاء في قبوله والاستفادة منه.

وإن من يريد نقد أي حركة إصلاحية يجب أن يستحضر الجانب الإيجابي في هذه الحركة، والنفع العظيم الذي جرى على يدها، وهو من ميزان العدل الواجب في النظر في الأحكام والأشخاص، ومن خلاله يوضع ما يظن أنه خطأ أو تجاوز في مكانه الطبيعي. ومن قرأ حركة الشيخ الإصلاحية عرف أنها قامت بدور عظيم في نشر التوحيد، وإقامة السنة، وهدمت تصورات عميقة من الخرافة والشرك كانت سائدة في زمانه، حتى انتفع بعلمه ودعوته ما لا يحصى من الناس في مشارق الأرض ومغاربها، فنسيان هذا كله في حال المقارنة بغي وجور عظيم، وما مثله إلا مثل من ينسى جهاد خالد بن الوليد رضي الله عنه ودخول الناس على يده في دين الله أفواجاً ولا يذكر إلا حادثة بني جذيمة! وهي خطأ لا شك فيه، وقد أنكره الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه، لكن خالداً بقي بعدها سيفاً من سيوف الله قائداً لجيوش المسلمين وإماماً لجهاد أعداء الله.

وحقيقة الأمر: إن من يقدر دعوة التوحيد حق قدرها، ويفهم أن ما كان يفعل عند الأضرحة والمزارات شرك ينافي ما جاء به الإسلام من التوحيد الخالص؛ فإنه سيعظم الدور الإصلاحي في إزالتها ومقاتلة من يحامي عنها. وأما من يرى أن هذه الأفعال هي من الأمور المباحة، أو لا يراها شركاً مخرجاً عن الملة، أو هو من النوع الذي لا يهتم بهذه القضية كثيراً، فالأهم لديه هو الجانب المتعلق بالضرر المادي المحض؛ فمثل هؤلاء من الطبيعي أن لا يروا في أي حركة إصلاحية تدعو إلى التوحيد إلا الأخطاء والتجاوزات، ومن الطبيعي أن يكون موقفهم متشنجاً أمام أي اجتهاد يأتي في هذا السياق؛ لأن أصل الموضوع عندهم ليس مهماً فضلاً عن الاجتهاد في تطبيقاته.

:: مجلة البيان العدد  328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر  2014م.

 

أعلى