الدراسات المستقبلية أداة للتغيير السياسي

الدراسات المستقبلية أداة للتغيير السياسي

ما هي الدراسات المستقبلية؟ هل هي دراسات علمية لها مناهجها وأساليبها وأدواتها أم مجرد حدس وتنبؤات؟ هل نتائجها حتمية أم مجرد احتمالات؟ هل أصبحت تلك الدراسات ضرورة أم أنها جزء من الترف العلمي لا يضيف الكثير؟ وأخيراً، هل تفيد هذه الدراسات في عمليات التغيير في المستقبل بشكل جدي وعملي؟

هذه بعض الأسئلة التي تثور في أذهان الكثير عند الحديث عن هذه الدراسات حديثة النشأة.

منذ أواسط ستينات القرن الماضي ظهر في الغرب ما يعرف بعلم المستقبل، وبرغم ثراء التراث الفكري والفلسفي المهتم بالمستقبل إلا أن التأريخ العلمي لظاهرة الدراسة المستقبلية يبدأ من نقطة تحولها إلى كم معرفي يمكن البناء عليه، أما ما قبل ذلك فهو محاولات غريزية دافعها قلق الإنسان على مستقبله، وفي العقود الأخيرة تطورت تلك المحاولات من خلال التطويرات المتلاحقة في التخطيط ومنهجياته؛ من تخطيط تقليدي، قصير أو متوسط أو بعيد المدى، إلى تخطيط إستراتيجي، حتى ظهرت مناهج أساليب جديدة تحاول وصف المستقبل البعيد نسبياً، وهي التي عرفت بالدراسات المستقبلية.

بدأت العقلانية والمنطقية في استشراف المستقبل منذ إدراك الإنسان لعلاقة الماضي بالحاضر وسير الأحداث وفق سنن ومشاهدات استقرت على وتيرة معينة في الماضي وعليه فمن الممكن أن تستمر في المستقبل؛ عندها بدأ الإنسان في اتخاذ التدابير التي تكفل له التعرف على المستقبل بدرجة مقبولة من الوصف والاستشراف، فالتهيؤ والاستعداد، وصولاً إلى محاولة الضبط.

كان أول من توصل إلى اصطلاح دراسة المستقبل هو المؤرخ الألماني «أوسيب فلنختاهيم» عام 1930م، تحت اسم Futurology وهو الاسم الشائع للدراسة المستقبلية في اللغة الإنجليزية، ويقابله المصطلح الفرنسي Prospertive للعالم «جاستون برجيه» ويطلق عليها أحياناً اسم Future Studies [1].

كما أمكن تعريف الدراسات المستقبلية بأنها «التنبؤ المشروط من منظور احتمالي وعلمي نسبي»[2]، أو أنها «تخصص علمي يهتم بصقل البيانات وتحسين العمليات التي على أساسها تتخذ القرارات والسياسات في مختلف مجالات السلوك الإنساني، مثل الأعمال التجارية والحكومية والتعليمية، والغرض من هذا التخصص مساعدة متخذي القرارات أن يختاروا بحكمة من بين المناهج البديلة المتاحة للفعل في زمن معين»[3].

وفي العقود الأخيرة تطورت تلك المحاولات من خلال التطويرات المتلاحقة في التخطيط ومنهجياته؛ من تخطيط تقليدي، قصير أو متوسط أو بعيد المدى، إلى تخطيط إستراتيجي، حتى ظهرت مناهج أساليب جديدة تحاول وصف المستقبل البعيد نسبياً، وهي التي عرفت بالدراسات المستقبلية.

وفي ذلك الإطار قسم الدكتور وليد عبد الحي مراحل تطور علم المستقبليات إلى ثلاث مراحل:

 تغليب منهج الإسقاط والحدس والمنظور التجزيئي في المرحلة الأولى.

 تطوير المناهج الكمية والاستقرائية، مثل المصفوفات الرياضية والدواليب والسيناريوهات، ونظرية الاحتمالات والثلاثيات والمسافة واللعب والمحاكاة، وغيرها من التقنيات.

 بدأت المرحلة الثالثة بالميل التدريجي نحو المنظور الكلي على أساس أن الكل أكبر من مجموع أجزائه، وترتب على ذلك سلسلة من النتائج:

 التحول من مفهوم القوة على أساس الكم إلى القوة على أساس النتيجة المترتبة عليها.

 التحول من مفهوم ميزان القوى على أساس الثقل المعادل الذي عبر عنه جنتز في القرن التاسع عشر إلى مفهوم الترابط.

 التحول التدريجي للنظر للعلاقات الدولية من علاقات دولية صفرية إلى علاقات دولية غير صفرية مع كل ما يترتب على هذا التحول من نتائج[4].

استناداً إلى ما سبق يمكن تعريف الدراسات المستقبلية على أنها «العلم الذي يرصد التغير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل، وتوصيف ما يساعد على ترجيح احتمال على غيره»[5]، وعلى هذا الأساس تتباين الدراسة المستقبلية عن الدراسة الإستراتيجية، فالثانية تقوم على هدف يكون قد حدد سلفاً ثم البحث عن أدوات تحقيق هذا الهدف، بينما الدراسة المستقبلية تسعى لاستعراض الاحتمالات المختلفة للظاهرة. كما تختلف الدراسة المستقبلية عن التنبؤ في أن الأخير يحسم أن الظاهرة ستتخذ مساراً معيناً، بينما لا تزعم الدراسة المستقبلية ذلك.

تجربة جنوب إفريقيا

بعد انتهاء السياسة العنصرية في دولة جنوب إفريقيا وسعي الفرقاء السياسيين والأحزاب للجلوس حول مائدة مفاوضات لتحديد صورة البلاد في المرحلة القادمة دعا الاقتصادي مدير معهد التنمية الاجتماعية بجامعة غرب الكيب بجنوب إفريقيا (بيتر لي روه) إلى مؤتمر وطني حول مستقبل جنوب إفريقيا الاقتصادي، بهدف إثارة نقاش حول كيفية تشكيل سياسة عمل في غضون عشر سنوات. وضم السيناريو مجموعة متنوعة تتألف من 22 شخصاً من البارزين في جنوب إفريقيا يمثلون مختلف الأطياف السياسية (من ساسة وناشطين وأكاديميين ورجال أعمال) لتطوير ونشر مجموعة من التصورات حول ما قد يحدث في دولتهم خلال هذه الفترة. واستمد السيناريو صبغته الابتكارية وأهميته من أنه في غمرة صراع متجذر وغموض عميق أتى السيناريو بأناس من مختلف المنظمات وجعلهم يفكرون بشكل مبتكر بشأن المستقبل. وانتشرت السيناريوهات على نطاق واسع، حيث نشرت للمرة الأولى عام 1992م في صحيفتين محليتين: «ذا ويكلي ميل» و«الجارديان ويكلي» وأعيد طبع السيناريوهات في «ديبر نيوز» التي تنشرها شبكة الأعمال العالمية http:\\www.gbn.org مع مقدمة كتبها «آدم كاهانا» الذي أدار عملية صياغة السيناريو.

واتفق المشاركون على أربعة سيناريوهات رأوها مقبولة شكلاً وذات صلة بالموضوع محل الدراسة:

سيناريو النعامة: لا يتم فيه التوصل عبر التفاوض لتسوية الأزمة في جنوب إفريقيا وتظل فيه حكومة الدولة غير ممثلة لسكانه.

سيناريو البطة العرجاء: يتحقق فيه التوصل إلى تسوية ولكن الانتقال إلى نظام جديد يكون بطيئاً وغير محسوم.

سيناريو إكاروس[6]: وفيه يكون التحول سريعاً، ولكن الحكومة الجديدة تنتهج سياسة اقتصادية غير حكيمة ولكن لها شعبية عالية للغالبية السمراء تؤدي إلى إنفاق عام هائل، مؤدية في النهاية إلى انهيار اقتصادي للبلاد.

سيناريو طير الفلامنجو أو (النحام): تتسم فيه سياسات الحكومة بالقابلية للاستمرار، وتتخذ الدولة فيه مساراً على طريق النمو والديمقراطية الشاملين.

وقدمت المجموعة سرداً لكل من هذه التصورات ونُشر تقرير مكون من 14 صفحة كملحق في إحدى الصحف الوطنية وأنتج مقطع مرئي مدته ثلاثون دقيقة، كما عُرضت السيناريوهات مباشرة على أكثر من 50 مجموعة[7]، ولاقت السيناريوهات فهماً واسعاً وتناولتها أوساط عديدة.

من خلال هذه العملية بات واضحاً أن سيناريو الفلامنجو هو نتيجة معقولة ومرغوبة من الكثيرين، برغم أن بعض القرارات التي تضمنها ربما لم تقترحها بعض الأطراف في بداية العملية. وهكذا، أدت عملية إنتاج سيناريوهات «مونت فلير» التي خرجت عن طابع الرسمية إلي التوصل لرسائل موضوعية وشبكات غير رسمية وتغير في التفكير بشأن التحديات التي تواجهها الدولة. وتمت تسمية هذه السيناريوهات باسم مكان الاجتماع «مونت فلير» للدلالة على أن هذه السيناريوهات تمثل الرؤية المستقبلية لكل فئات جنوب إفريقيا، وليست لفئة واحدة.

لقد أسهمت تلك السيناريوهات في بلورة رؤية واضحة - وإن لم تكن غائبة - لكافة الأطراف المشاركة في عملية السلام في جنوب إفريقيا وأوجدت حالة أشبه برأي عام وضع صورة تفصيلية لما يجب أن تكون عليه جنوب إفريقيا في المستقبل.

وأخيراً نستطيع القول: إن ما يطلق عليه اليوم علم «الدراسات المستقبلية» هو في العموم دراسات جادة تقوم بمناهج علمية وأساليب درس مقننة وتحظى باعتراف واحترام كافة الأوساط العلمية، وأنشأت من أجلها المراكز والمعاهد في كافة دول العالم المتقدمة، وأصبح علم الدراسات المستقبلية أحد أهم العلوم في التفكير والتخطيط للمستقبل وليس من قبيل الترف العلمي، وله أثره البارز في تغيير الواقع سواء على صعيد الدول والمؤسسات والكيانات الجماعية أو على صعيد مستقبل العالم ككل.

:: مجلة البيان العدد  346 جمادى الآخـرة  1437هـ، مـارس 2016م.


[1]  محمد فالح الجهني - المدينة المنورة، كلية التربية - جامعة طيبة: العدد 175من مجلة المعرفة، الدراسات المستقبلية شغف العلم.. وإشكالات المنهج .(http://uqu.edu.sa/page/ar/5227 )

[2]  زاهر، ضياء الدين. مقدمة في الدراسات المستقبلية: مفاهيم - أساليب - تطبيقات. القاهرة: مركز الكتاب للنشر، 2004م، ص51.

[3]  زاهر، نفسه، ص51.

[4]  أ. د. وليد عبد الحي، الدراسات المستقبلية النشأة والتطور والأهمية، مجلة التسامح، العدد الثالث

http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=44

[5]  وليد عبد الحي مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، المركز العلمي للدراسات السياسية، عمان 2002، ص62-64.

[6]  نسبة إلى أسطورة إغريقية قديمة تحكي أن فتى هرب طائراً من جزيرة كريت بواسطة أجنحة بناها له والده ديدالوس، وباقترابه من الشمس انصهر الشمع الذي يثبت الأجنحة ووقع في البحر.

[7]  جيل ياجر، وديل روثمان، وكريس أنستازي، وسيفان كارثا، وفيليب فان نوتن، الدليل البيئي المتكامل.. وضع السيناريوهات وتحليلها، برنامج الأمم المتحدة، النسخة العربية.

أعلى