تعليم المغازي

تعليم المغازي


قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: «كنا نعلَّمُ مغازي النبي وسراياه كما نعلَّمُ السورةَ من القرآن»[1].

والمراد بالمغازي: ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم  الكفارَ بنفسه أو بجيشٍ من قبله[2].

والمقصود أنَّ علي بن الحسين يقرر في هذه العبارة الموجزة أنهم كانوا يتلقون ضمن تعليمهم: مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ تعلمهم لها كان موازياً في الأهمية لتعلم القرآن الكريم، وما ذلك بنقص في استشعار أهمية القرآن، وإنما هو منهجية تربوية في تعليم العلوم وغرس القيم.

وهذا التقرير مهم للغاية، وقد علَّل المؤرخ الكبير صاحب الطبقات ابن سعد رحمه الله ذلك بقوله: «يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها»[3]. فهي تمثل مجد الأمة الذي يجب أن تستحضره الناشئة في وجدانها، وشرفها الذي يجب أن تحافظ عليه مهما تباعد الزمان. إنها الضوء الذي لمع في فجر التاريخ الإسلامي والذي أعقب الليل الداكن الذي أخبرنا عن طرف منه نبينا صلى الله عليه وسلم  كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي - مرفوعاً: «وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتهم أنْ يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطاناً، وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»[4].

أُولَئِكَ   قَوْمٌ   شَيَّدَ   اللَّهُ   فَخْرَهُمْ

فَمَا فَوْقَهُ  فَخْرٌ  وَإِنْ  عَظُمَ  الْفَخْرُ

أُنَاسٌ  إِذَا  مَا  الدَّهْرُ  أَظْلَمَ  وَجْهُه

فَأَيْدِيهِمُ   بِيضٌ   وَأَوْجُهُهُمْ    زُهْرُ

المجد والشرف والمآثر تصنع للشباب هوية، وتغذي فيهم سمو الشخصية، وتزيد ثقتهم بأمتهم ودينهم وأنفسهم، إذْ يرون في أنفسهم امتداداً لتلك المآثر والأمجاد، فتنبعث فيهم النظرة الإيجابية، ويتوقد فيهم الأمل، ويتخلَّق الطموح والهم. وهو الأمر الذي ينبغي أنْ يكون عليه شباب الإسلام؛ برغم المحن والفتن والبلايا.

كما أنَّ المغازي تحمل في طياتها الكثير من الأحكام الشرعية التي استجدت آنذاك، فهي تعد مورداً من موارد التشريع، فأحكام الجهاد والقتال هناك، ومنها عرفنا التيمم وصلاة الخوف وأحكام الأسرى وأدبيات الصلح، وغير ذلك. قال الخطيب البغدادي: «تتعلق بمغازي رسول صلى الله عليه وسلم  أحكام كثيرة، فيجب كتبها والحفظ لها»[5].

وتنبع أهمية المغازي أيضاً من أهمية بطلها وربانها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو القدوة المطلقة وهو المؤيد بالوحي وهو المعصوم من الزلل، فسيرته صلى الله عليه وسلم  في تلك الأيام والليالي وهو مرة يتقدم الصفوف، ومرة ينتصب قائماً يدعو بالنصر، ومرة يشارك في العمل والتهيئة، ومرة يرص الصفوف، ومرة يتلقى الضرب سيرة معيارية تقاس على ضوئها الأعمال والسير، فإذا نشأ الشباب على حفظ سيرته وتعلمها فستكون لهم ملاذاً فكرياً ووجدانياً في المقايسة والمعايرة، وهذا من أهم أهداف التربية الإسلامية: صناعة النموذج والرمز الذي لا تشوبه الشوائب صلى الله عليه وسلم .

أيامه صلى الله عليه وسلم  في المغازي لم تكن على نسق واحد، ففيها خاف وأمن، وفيها انتصر وهُزم، وفيها فرح وحزن، وفيها اقتحم وانكشف... إنك لن تجد مرحلة تعيش فيها الأمة الإسلامية صراعاً مع خصومها إلا وجدت لها أصلاً في تلك السيرة العطرة، لذلك كانوا يعلمون المغازي كما يعلمون القرآن.

آليات قراءة السيرة:

اعتنت الحركة العلمية الإسلامية بدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم  ومغازيه وأيامه عناية فائقة بالغة، ومبكرة أيضاً، حتى كُتب وحُفظ عن دقائق سيرته صلى الله عليه وسلم  الشيء الكثير، فما بالك بالمهمات والكُبريات! لقد أفنى جمع من أهل العلم من أصحاب الحديث ومن أصحاب المغازي وغيرهم نفيس أعمارهم في التتبع والتقييد، فجزاهم الله عنا خير الجزاء وأوفاه.

وفي المكتبة الإسلامية نوع من الدراسات في السيرة النبوية اعتمدت منهج التحليل واستدعاء العلوم الاجتماعية والجغرافية، وأحياناً ناقشت جهود المستشرقين البحثية في السيرة النبوية، فهي تمدُّ القارئ بامتدادات معرفية مهمة ذات تأثيرات فكرية ووجدانية وسلوكية، منها على سبيل المثال كتاب «دراسة في السيرة» لمؤلفه: عماد الدين خليل.

وهذا النوع من الدراسات مما يجمل أنْ يكون في مقدمة قراءات الشباب للسيرة النبوية، لأنه يكسبهم ملكات التحليل وقراءة الأبعاد، فإذا ما راموا جرد المطولات في السيرة النبوية قراءةً استطاعوا أن يقرءوها بتلك الملكات فيظفروا بالكثير والكثير من الدروس والعبر، ذلك أنَّ كثيراً من قراءتنا للسيرة النبوية هي قراءة سطحية غير لائقة بأحداث ولا بشخصية جعلها الله تعالى آية في الدهر.

أما لو سُئلت عن أفضل عرضٍ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم  لقلت: العرض القرآني!

العرض القرآني لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم  هو الذي اختاره الله تعالى لأنْ تكون تلاوته عبادة يؤجر المرء عليها، كما جعل تدبره وتعلمه وحفظه مواطن للأجر والثواب.

وإنك لتجد آيات القرآن - وهي تعرض غزوة بدر وأحد والأحزاب والحديبية وتبوك... - تضع في المقدمة عدداً من القضايا النفسية وأعمال القلوب وأدبيات الانتماء ومفاهيم الحركة، بما يصنع لتلك الأحداث الكبرى عمقاً وامتدادات لا غنى لشباب الإسلام عنها، ففي سورة الأنفال يقول الله تعالى تعقيباً على غزوة بدر: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْـحَقِّ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْـمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ 5 يُجَادِلُونَكَ فِي الْـحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلَى الْـمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: ٥، ٦]، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى تعقيباً على غزوة أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، وفي سورة الفتح تعقيباً على أحداث الحديبية الساخنة يقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. وإنما أضرب لك أمثلة فحسب، وإلا فكل آيات القرآن التي تعرضت لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم  مليئة بالعبر والفقه.

ولقد كان إمام المغازي ابن إسحاق ومن ورائه ابن هشام وغيرهما حين يعرضون الأيام والمواقف يتجهون إلى الآيات التي نزلت بشأنها مع شيء من التوضيح والتفسير، وهذا من أجلِّ مسالك قراءة السيرة، وقد أجاد وأفاد ابن القيم في كتابه زاد المعاد حين عرض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم  مستنيراً بالعرض القرآني، لكنَّ هذا لا يغنيك عن قراءة ما دوَّنه أئمة التفسير تحت الآيات التي تعرضت لذلك.

ولا يزال مجال البحث وفق هذه الصورة متاحاً لأن سعة القرآن تحتم عدم الوقوف عند بحث ما، مهما أجاد وأفاد.

فهذه ثلاثة أنماط لقراءة السيرة تكمل بعضها، وجديرٌ أنْ يتملك الشباب أدواتها، بالتدريب والتعويد والتمرين.

يوميات الرسول:

طرف وضَّاء من سيرته صلى الله عليه وسلم  لم تتعرض لدقائقه كتب المغازي، وهو الجانب الاجتماعي من حياته: يومه وماجرياته وعبادته وعشرته لأهل بيته وتعامله مع أصحابه، بل وأيضاً تعليمه وإدارته، لكنك ستجد ذلك مبثوثاً في كتب الحديث والشمائل، كما ستجده أيضاً منثوراً في آيات القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]؛ وما دوَّنه أئمة التفسير تحت هذه الآيات. وهو عظيم الأثر في التأسي به صلى الله عليه وسلم  في كافة أحواله اليومية، وتعلُّم ذلك من لوازم قول الله تعالى: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

هذه اليوميات السامية والحضارية هي الوحيدة التي تصلح لأنْ تكون محل الاقتداء والتعليم والنشر بدون تحفظ وتردد، وبدون فحص ونظر، فإنك لا تجد فيها ما لا يمكن أنْ يكون صالحاً للاقتداء، سواء كان ذلك بسبب تغير الزمان أو تغير الأحوال.

إنها اليوميات التي يتوجب علينا لفت أنظار الشباب نحوها وتعليمهم إياها وإبرازها لهم بصفتها النموذج والمعيار: كيف كان فرحه؟ وكيف كان حزنه ووجده؟ وكيف كان جِدُّه وهزله؟ وكيف كان صمته وكلامه؟ وكيف كان انقباضه وانبساطه؟ وكيف كان ينظر إلى المال والعمران، والموت والحياة، والقرابة والأصحاب، والغنى والفقر؟ هنا تتجلى الشخصية المعيارية في بعدها الإنساني والاجتماعي، والتي من خلالها يتعرف الجيل على حضارية الرسالة المحمدية، فإذا صارت على هذا النحو في عقل الجيل ووجدانه فقد تحققت القدوة في نفوسهم، وهذا هو المطلوب.

تعميم السيرة:

من إيجابيات الصحوة المباركة نشر السيرة النبوية، وتربية النشء على مضامينها، حتى غدت في وجدان الشباب وعلى ألسنتهم، وهذا معروف ملحوظ، أما لو أردت دليلاً محسوساً على ذلك فإنه من السهولة بمكان أنْ ترى في أي مكتبة من مكتبات الجيل كتاباً بعنوان: زاد المعاد في هدي خير العباد، لمؤلفه ابن القيم.

ولا نزال بحاجة إلى تعميم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم  على كافة المحاضن التربوية، العامة والخاصة، ذات المراحل العمرية الصغيرة والكبيرة، وتدعيم ذلك بالجديد من الدراسات والأبحاث والتآليف المتعلقة بها، وإبرازها - أعني السيرة النبوية - من خلال التقنيات الإعلامية الحديثة، لتتحقق لنا أهدافنا التربوية في ربط الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم  معرفة وحباً واتباعاً ودفاعاً ودعوة وتربية.


 


[1] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/288.

[2] فتح الباري 7/326.

[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/287.

[4] أخرجه مسلم 4/2197، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، ح2865.

[5] المصدر نفسه 2/287.

 

  

أعلى