البيان ٣٥ عاماً في ميدان العلم والوعي
رحل الاستعمار الغربي عن العالم الإسلامي والعربي في منتصف العقد المنصرم وتخلل تلك
الفتـرة مزاحمة في الأحداث والصراعات كان السبب الأبرز والظـاهر فيها الإرث
الاستعماري الضخم من الفساد والتمزق والكيـانات والمنظمات التي صنعها لتحفظ بقاء
مصالح هذا المستعمر وسط غيابٍ وتهميشٍ متعمدٍ لهوية الأمة الإسلامية وحاضنتها
الثقافية والشرعية المتمثلة بمعارف الإسلام المختلفة، فقد تأججت القومية اليسارية
بمسميات وجماعات مختلفة لتنازع الأمة التي احتشدت تحت راية الشريعة لتحرير أوطانها
من الاستعمار في هويتها ودينها وتأسر شعوبها خلف خطابات تجرِّد الشعوب من تدينها،
وكذلك الأمر بالنسبة لليبرالية بمفاهيمها المختلفة التي أباحت التشكيك في أصول
الدين وتشريعـاته لصالح التغـريب والتحلل من القيم والأخلاق، والانسياق خلف ميراث
الحضارة الاستعمارية الغربية، ولا يزال أحد أبرز النماذج ماثلاً إلى يومنا هذا وهو
الفرنكوفونية الفرنسية التي غزت شمال إفريقيا حتى نازعت الشعوب في هويتها ولغتها
ولخصت حضاراتها وهويتها في العهد الاستعماري الفرنسي المليء بأفظع الجرائم، وما
الجزائر عنا ببعيد؛ إذ أعادت الشهر المنصرم رفات 24 جثماناً لشهداء ثورتها كانت
معروضة في المتحف الفرنسي للتاريخ الطبيعي وهي أبرز شاهد على هذا الميراث القبيح.
في أوج هذه الصدمة وتنازع الأمة في هويتها خرجت البيان إلى النور برساليتها الواضحة
المتمثلة بالمشاركة في تنوير العقـل الإسلامي وتصويب بوصلته والتـركيز على قضاياه
بشموليتها لغـاية كان الهدف منها ملء الفراغ الحاصل بين خطابات وألوان فكرية متعددة
تدعم التنازع بين الشعوب وتنفث سموماً من التضليل والانحراف زعمـاً بأن لها الحـق
فـي الوصاية علـى هوية الأمة وتحـديد مصيرها؛ فقد ركزت زوايا المجلة المختلفة على
توضيح السياسة الشرعية وأصول الاعتقاد والتفسير والأدب الإسلامي لقرائها... ولأكثر
من ثلاثة عقود ونصف واصلت مسيرتها لتكون خطاباً إسلامياً واضح الرسالة من خلال
تبنِّيها لقضايا الأقليات المسلمة حول العالم ودفاعها المستميت عن القضايا المركزية
للأمة ومحاربتها للحركات الباطنية والانحرافات العقدية، وأخرجت إلى النور إبداعات
كتابية مسلمة وأقلاماً رصينة وطاقات علمية وشرعية مثَّلت الفكر الإسلامي خير تمثيل
ورابطت على ثغر عظيم في وقت ما تزال فيه الهجمة كبيرة على قيم الإسلام وعقيدة
المسلمين.
وفي هذا الصدد نودُّ تسليط الضوء على أهم إنجازات البيان خلال مسيرتها عبر مناقشة
واستعراض ما خلصت إليه ثلاث رسائل علمية تمت مناقشتها خلال السنوات الماضية:
أولها:
رسالة ماجستير للباحث ماهر سالم بعنوان
«مجلة
البيان ودورها في نشر الثقافة الإسلامية»،
وقُدمَت الدراسة لقسم الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة بجامعة الأزهر. ومن المحاور
المهمة التي سلطت الدراسةُ الضوءَ عليها ما يتعلق بعناية المجلة كثيراً بعملية
التدقيق في اختيار موضوعاتها ومراجعتها بصورة دقيقة تماشياً مع مسؤوليتها التي
تتحملها في رسالتها المقدَّمة للقراء من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وأشارت الدراسة إلى كثرة المواضيع التي تطرحها البيان وثرائها وتنوعها ما بين
التبشير والاستشراق والاقتصاد الإسلامي والسياسة الشرعية والتربية والعقيدة. وقد
خصص الباحث جزءاً هامّاً من دراسته في رصد جهد المجلة في توجيه الدعاة وإعدادهم
وتدريبهم على أساليب الدعوة من خلال مفهوم القرآن الكريم وسنة الرسول #، واهتمامها
بموضوع الدعوة وما يدعو إليه الداعية، وهو دين الإسلام بخصائصه العظيمة المميزة له
عن سائر الأديان: من شموله وعمومه، ووسطيته، وجلبه للمصالح. واهتمت المجلة بالداعية
من حيث وظيفتُه، وعُدَّتُه وأخلاقُه وصفاتُه، وأبرزت أهمية أساليب الدعوة ووسائل
تبليغها، وأهم الطرق التي تؤدي إلى نجـاحها وتأديتها بالوجه الصحيح.
كما أبرز الباحث اهتمام المجلة بمجال التربية الإسلامية ودورها في تنشئة الجيل
الصالح، كأساس للبناء والنهوض، وأنها هي الحل الوحيد للإنسان المسلم من أجل سعادته
في الدنيا والآخرة، وعالجت القضيةَ بطريقة منهجية ترسم الأهداف أمام المربي وتحدد
له الغاية العظمى، وتميز بين التربية الإسلامية وبين سائر النماذج التربوية الأخرى
من حيث المفهومُ والخصائصُ والغايةُ والوسائلُ والأساليبُ.
وأيضاً تناول معالجة المجلة لعدد من الأمراض الاجتماعية التي تئن منها مجتمعاتنا
الإسلامية ممثلاً لذلك بمعالجة قضية البغاء، وقضية تبرج النساء واختلاطهن بالرجال،
ومشكلة شرب الخمور وتعاطي المخدرات، والتعليم المختلط وما يترتب على ذلك من فساد
خُلُقي واجتماعي، وكذلك مسألة التقليد الأعمى وفتنة مسايرة الواقع. وفي المقابل
إبراز ارتداء المرأة للحجاب على أنه جزء رئيس من حل المشكلة الأخلاقية، وعالجت قضية
تعدد الزوجات بما يحقق الحكمة من تشريع التعدد ويلجم خصوم الإسلام.
وأشارت الدراسة إلى صلابة المجلة الفكرية التي ساهمت بشكل كبير في دفع مخاطر
التنصير والاستشراق وفضح التيارات المنحرفة مثل العلمانية والغزو الفكري الذي يهدد
هوية الأمة، ولم تتجاهل المجلة أيضاً القضايا المركزية للأمة والصراع السياسي الذي
تخوضه الأمة في فلسطين وقضايا الأقليات المسلمة.
أما
ثانيها:
فللباحث سمير بن محمد الصبحي إذ قدم رسالة بعنوان
«دور
مجلة البيان في مواجهة الغزو الفكري»
لنيل درجة الماجستير في تخصص الثقافة الإسلامية من كلية الدعوة وأصول الدين في
جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأكد في بحثه على ما قدمته البيان من عناية بالمؤلفات
الفكرية وقدرتها العالية على مواكبة المتغيرات الفكرية والنوازل التي تعيشها الأمة،
وقدمت نماذج للعناية بالعمل المؤسسي في مواجهة التحديات التي توجهها الأمة، وأشار
الصبحي إلى كثير من الندوات والمؤتمرات الفكرية التي نظَّمتها المجلة في العالم
الإسلامي باعتبار ذلك في سياق نهجها لمحاربة الانحرافات الفكرية والتحذير منها.
وفي سياق حربها على الحركات الباطنية والانحرافات الفكرية فقـد عُنيَت المجلة
بالمؤلفات الفكرية وأصدرت عدداًً من الكتب أهمها (صراع الحضارات) للدكتور جعفر شيخ
إدريس، و (معركة النص) للدكتور فهد العجلان، و (الإسلام والعولمة) للدكتور سامي
الدلال و (موقف الليبرالية من مُحْكَمَات الدين) للدكور صالح الدميجي و (مقالات في
السياسة الشرعية) للدكتور سعد العتيبي، و (الضعف المعنوي وأثره في سقوط الأمم)
للدكور حمد السحيباني و (ظاهرة الهجوم على منهج السلف) للدكتور عبد الرحمن
المحمود... وغيرها من المؤلفات.
وجاء في الدراسة:
«تميزت
المجلة بإدارة فكرية واعية جادة وطموحة تواكب التحولات الفكرية الكبيرة وتتعامل
معها بعمقٍ ورويةٍ وتحليلٍ وطرحٍ يمثل رصيداً ضخماً للباحثين عن التحولات التي
تشهدها الأمة في الواقع الحالي، وأبرز خطـواتها في هذا الإطار إصدار التقرير
الارتيادي السنوي الذي وصفته بأنه إحدى وسائلها لطرح الخيارات الممكنة أمام الأمة
الإسلامية لتأخذ مكانتها المفترضة في البيئة الدولية، بحيث تكون قادرة على تحدي
القوى والإستراتيجيات العالمية، بل واصلـة إلى رتبة القوة الأولى على الساحة
الدولية مستقبَلاً، في ضوء اللحظة الراهنة، ليس استكباراً أو تجبراً في الأرض، بل
أداءً لمهمتها التي كلَّفها الله بها في الأرض».
ونشرت المجلة عدداً كبيراً من الدراسات الفكرية التي منها (القوة في الفكر
الإستراتيجي) و (الأطروحات الغربية في توصيف علاقة الغرب بالإسلام... عرض ونقد)، و
(حوار الحضارات أو العلاقة بين أمة الإجابة وأمة الدعوة)، و (الأسرة الدولية)، و
(الصعود الديني في الغرب وتأثيره على العلاقة في العالم الإسلامي) و (أهداف وسياسات
الإعلام الأجنبي باللغة العربية) و (التقارير الدولية عن المرأة السعودية) و (الأمن
القومي في فكر علماء السلف).
ومن المحاور المهمة التي ركزت عليها المجلة وتبنتها في خطابها الإعلامي والفكري:
العناية والتأكيد على أهمية العمل المؤسسي في المواجهة، وفي مقالة نشرتها بعنوان
«بين
العمل المؤسسي والعمل الفردي»
قالت:
«لم
يعد اليوم مجالاً للنزاع - في الساحة الفكرية على الأقل - أن العمل المؤسسي خير
وأولى من العمل الفردي الذي لا يزال مرضاً من أمراض التخلف الحضاري عند مجتمعات
المسلمين، وقد يرث الدعاة إلى الله شيئاً من هذه الأمراض من مجتمعاتهم باعتبارهم
نتاجاً لها، ومن ثَمَّ فأنت تجد عناصر منتجة في المستوى الفردي أكثر مما تجدها ضمن
أولئك الذين يجيدون العمل الجماعي».
ومن المعالجات الهامة للواقع؛ قدمت المجلة نموذجاً مخلصاً في متابعة الأحداث
الفكرية واستيعاب أبعادها المستقبلية، فوقفت بالمرصاد لحالة التبشير والتنصير في
بلاد المسلمين، واستهدفت بقوة وعزم التغريب، وحذرت من سرعة التغيير الاجتماعي
والفكري وتسارعه بشكل مذهل في مجتمعاتنا، ونبهت إلى أهمية إنضاج الخطاب العلمي
والدعوي والتركيز على متابعة الواقع.
وأفادت وأفاضت المجلة على قرائها بالكثير من المواد الدسمة المتخصصة في تفصيل طبيعة
الصراع بين العلمانيين والإسلام وركزت على دورهم في تنحية القرآن الكريم والسنة
النبوية من هوية العالم الإسلامي وتحريف نصوصهما، وتركيز هذه الفئة على دعم الحركات
الباطنية ودعمها لتشويه الإسلام ومواجهة المسلمين. وللمجلة فضل كبير في العناية
بالنوازل الفكرية ومعالجتها ونقد المذاهب والتيارات والاتجاهات المخالفة لمنهج أهل
السنة والجماعة نقداً هادفاً، وتَتَبُع وتوثيق الإنتاج المعرفي في مجال العقائد
والفكر.
أما الباحث الثالث وهو أيمن بن محمد البلادي فقد حصل على الماجستير من قسم الدعوة
والثقافة الإسلامية بجامعة أم القرى بعد مناقشته لرسالة بعنوان
«تحديات
الدعوة إلى الله وسبل مواجهتها من خلال مجلة البيان»،
وأظهر في دراسته التمايز الكبير بين وسائل الإعلام بشتى أنواعها المقروءة والمسموعة
والمرئية وصعوبة استثمارها في الدعوة إلى الله وتبليغ دين الله وما قدمته مجلة
البيان في هذا المسار الذي غايته أهداف سامية أهمها نشر العقيدة الصحيحة والعلم
الشرعي منذ صدور عددها الأول في عام 1406هــ. وقد زكَّها عدد كبير من كبار المشايخ
مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والشيخ عبد الرحمن البراك. وركزت المجلة
خلال طرحها وتبنيها للدعوة إلى الله ونشر دينه على أهمية الإعلام في الدعوة إلى
الله تعالى والتحديات الفكرية وسبل مواجهتها والنوازل والمتغيرات الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية وكذلك أفرزت جزءاً مهمّاً من منشوراتها للحـديث عن التحديات
التي تواجه المؤسسات الدعوية وسبل مواجهتها، وكذلك الإشكالات الإدارية التي تعيقها
وكيفية تخطيها، وأبرز العقبات التي تعترض طريق الدعوة في صفوف الأقليات غير
المسلمة.
ومن القضايا المهمة التي أبرزتها المجلة زيادة عدد المثقفين الذين تلقَّوا تعليمهم
في الغرب وأصبحوا أدوات لترويج التغريب ومحاولة التشكيك في الدعوة الإسلامي وخطورة
محاولة ترسيخ وصاية المنظمات الدولية على حقوق المرأة المسلمة، وقلة وضعف تأثير
الدعوة الإسلامية على الإعلام في بلادنا العربية والإسلامية ومحاولات إفساد التعليم
وتغيير هوية المجتمعات من خلاله وتوظيف التقنية في خدمة الدعوة وتأهيل الدعاة
للخروج إلى الإعلام وإشغال حيز كبير فيه.