جماجم الجزائريين تحكي حضارة الغرب!
إن الحضارة الغربية نعيق الغراب ما أتت على أمة إلا حولتها إلى خـراب؛ اســتعباد وإذلال وقتل، حضارة لا تتباهى بشيء بقدر تفاخرها بجلاديها، وقهر أعدائها. فهل علمتَ يوماً أن حضارة احتلت أرضاً فقطعت رؤوس أهلها ثم احتفظت بجماجمهم في متاحفها، لم يحدث هذا في التاريخ إلا في فرنسا التي هي على الخصوص مهد التنـوير الغربي ومنطلق حضارتهم، صاحبة شعارات الحرية والإخاء والمساوة، منها انطلقت الثورة التي غيرت وجه أوروبا بالكامل، رأت صاحبة تلك الشعارات الإنسانية أن ذبح الرؤوس وتعليقها على قارعة الطرق ثم الاحتفاظ بها في متاحفها، وسيلة مشروعة لنشر مشروعها التنويري وتثبيت حضاراتها الإنسانية في الجزائر إبَّان احتلالها الغشوم لها، ثم لم ترَ في الاحتفاظ بجماجم المناضلين الجـزائريين من أجل حريتهم نوع جـريمة أو فضيحة تسعى لطمسها؛ بل هي مصدر مباهاتها.
يتباكى العالم على هولوكـست اليهود، لكـن مذابح المسـلمين لا تمثل مصدر إزعاج ولا تسـتحق حتى تنديداً دولياً ولا إدانة لفرنسا على مذابحها ولا حتى مطالباتها بإعادة الرفات فضلاً عن تعـويض الضحايا. والاعتـذار عن حقبة احتلال بشع بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.
منذ أيام قليلة نجحت الدبلوماسية الجزائرية في استرجاع بعضٍ من جماجم الشهداء الذين بذلوا دماءهم وأموالهم وأبناءهم فداء دينهم وأرضهم وكرامتهم. منها جمجمة الشهيد الشيخ بوزيان وابنه الذي لم يكمل الخمسة عشر ربيعاً، وأخيه الشيخ موسى الدرقاوي.
في يوم 26 نوفمبر 1849، وبعد حصار دام أربعة أشهر اقتحم المئات من الجنود الفرنسيين، بقيادة الجنرال إميل هيربيلون واحة الزعاطشة المحصنة، والتي تبعد نحو 200كم من قسنطينة ، دافع أهل الواحة عنها بقيادة الشيخ أحمد بوزيان الملقب بالشيخ بوزيان، حتى أبادهم الفرنسيون بالكامل ويقال إنه استشهد من أهل الواحة 1300 شخصا، ومثلت بالجثث ومن أبشع الجرائم التي قام بها الفرنسيون قيام أحد الجنود ببتر ثدي امرأة فقيرة ماتت بعد لحظات قليلة، وآخر يأخذ بساقي طفل صغير فيحطم جمجمته على جدار، وفق شهادة الصحافي لويس دي بودكور في كتابه (الحرب والحكومة الجزائرية).
انتهت المعركة وقطع الفرنسيون رأس الشيخ المجاهد بوزيان وكذلك رأس ابنه الطفل. وحرقت الأشجار والنخيل بالكامل 10.000 نخلة والبيوت ولم يتركوا طفلا ولا امرأة ولا شيخا إلا ذبحوه مثل الخراف.
ووفق ما تروي كتب التاريخ فقد ارتوى تراب أرض الجزائر أيضا بدماء بإخوانهم المصريين، فقد استعادت الجزائر الجمجمة رقم «5942» وصاحبها هو الشيخ موسى بن الحسن الدرقاوي، من مواليد مدينة دمياط شمال مصر، والذي استقر في مدينة الأغواط وسط الجزائر عام 1829وقد استجاب لدعوة الشيخ أحمد بوزيان من أجل التحضير لثورة الزعاطشة (واحات بسكرة). وانتقل الدرقاوي إلى مدينة مسعد، وقاوم ببسالة الحصار المفروض عليهم بالواحات برفقة مجاهدي أولاد نائل وبوسعادة والمسيلة ممن التحقوا بالمقاومة في الزعاطشة. وحين انتهت المعركة أمر القائد الفرنسي «هيربيون» بقطع رأس الشيخ الحاج موسى الدرقاوي وتعليقها بجانب رأس زعيمها الشيخ بو زيان على أحد أبواب بسكرة.
يحتفظ المتحف الفرنسي أيضاً بجمجمة الشهيد سليمان الحلبي الذي قتل القائد الفرنسي كليبر في القاهرة، إنه تاريخ يروي مشاعر المسلمين تجاه إخوانهم المستضعفين نجدة ونصرة وتضحية، هؤلاء كان شهداء على وحدة الأمة ورؤيتها تجاه المحتل الغاصب. لقد وضع الغرب منذ ما يربو على المائة عام أسلاكا شائكة تقسم بلاد المسلمين، فيما عرف باتفاقية سايكس بيكو، وقتها كانت الأسلاك تمزق الأرض لكنها اليوم أضحت تمزق النفوس والقلوب.
في باريس يحتفظ الفرنسيون بجماجم ضحاياهم لا أعرف السبب في ذلك، هل لأن بطولات هؤلاء الشجعان كشفت خورهم وجبنهم فكلما نخرت ناخرة الجبن في نفوسهم ذهبوا إلى تلك الجماجم لعلها تمدهم بشيء من شجاعة فقدوها أو أردوا التشفي في من قتلوهم أو لعلهم خافوا على الأجيال القادمة أن تنسى التوحش والسادية فحفظوا لهم ساديتهم في متحف يذكرهم بمجد ساديتهم التليد. على كلٍ يحتفظ متحف الإنسان في فرنسا .. هكذا سموه بـ 18 ألف جمجمة من الشعوب المحتلة قطعوا رؤوس أصحابها. بلا شك لا يمثل هذا الرقم كل ضحايا فرنسا في البلدان التي احتلتها ربما هذا الرقم يمثل رؤوس الحراب الذي أنشبت في جسد فرنسا البائس.
ففي رسالته التي وجهها الرئيس تبون إلى الشعب الجزائري بمناسبة الذكرى الـ75 لمجازر 8 مايو 1945 يقول: إن فرنسا «قتلت نصف سكان الجزائر منذ 1830 إلى غاية 1962». وأضاف أن عدد الشهداء يبلغ 5 ملايين و500 ألف، في إشارة إلى أن إحصاء مجازر الاستعمار يشمل كامل الفترة الاستعمارية، وليس فترة الثورة التحريرية (1954 - 1962)، التي تحصي مليوناً و500 ألف شهيد فقط، إضافة إلى جرائم أخرى.
جماجم الجزائريين اليوم هي ذاكرة أمة لا تندثر، وحقوق شعوب حية لا تموت، كم جثمت فرنسا على أرض الجزائر، وكم قتلت من ملايين، وكم دمرت وشردت؟ هل نالت ما كانت تصبو إليه، في نهاية الطريق خرجت مهزومة مقهورة لم تغن عنها آلاتها الحربية والعسكرية شيئا.
جماجم هؤلاء الشهداء هي هوية الأمة ووعيها الحقيقي إنهم فخرها، ولكن المأفون اليوم هو الفرانكفوني الذي استعذب الذل، والعلماني الذي ينادي أن اتبعوا الغرب، والمنسلخ عن دينه وهويته. جميعهم لن تذكرهم الشعوب إلا كما تذكر أبو رغال وكم في عصرنا من رغالات. وليسألوا اليوم أنفسهم أين ستكون جماجمهم غدا؟
جماجم الجزائريين تحكي قصة الحضارة الغربية التي ما علت وارتفعت إلا على جماجم أجدادنا ونهب خيرات أرضنا، والسطو على علموها. طيب الله ثرى شهداء الجزائر كانت حياتهم نضال وموتهم حياة، وجماجمهم يقظة لشباب أمة غلف عن تاريخها.