لقاء بوتين وشي .. والرهان على خلق نظام عالمي جديد

إحدى السمات الأكثر إثارة للاهتمام في البيان المشترك المؤلف من 7 آلاف كلمة باللغة الروسية هي الضبط الدقيق لتوصيف العلاقة بين روسيا والصين، بأنها شراكة استراتيجية وثيقة وشاملة للغاية


في الرابع من فبراير 2022م، وعلى هامش دورة الألعاب الأوليمبية التي أقيمت في العاصمة الصينية بكين، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الصيني شي شين بينغ، حيث أصدرا بيانًا مشتركًا حول دخول العلاقات الدولية بين بلديهما إلى عصر جديد، كان من اللافت آنذاك أن هذا اللقاء قد اعتُبِرَ بمثابة لحظة إشارة لتحدي النظرة الغربية للعالم بشكل أساسي، وبدلاً من وضع سياسات تقليدية في شكل شكاوى مباشرة من الغرب، اتفق الرئيسان على أخذ زمام المبادرة لوضع مجموعة من المبادئ لنظرة عالمية جديدة كليًا، ويبدو أن هذه المبادرة قد بدأت ملامحها تتشكل عندما التقى بوتين وبينغ مرة أخرى قبل أيام في بكين، للتأكيد مجددًا على تعميق شراكتهما الاستراتيجية، ورسم الخطوط العريضة لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ومجابه للغرب.

بيـان مشترك

إحدى السمات الأكثر إثارة للاهتمام في البيان المشترك المؤلف من 7 آلاف كلمة باللغة الروسية هي الضبط الدقيق لتوصيف العلاقة بين روسيا والصين، بأنها شراكة استراتيجية وثيقة وشاملة للغاية، وقد وصفها بوتين في وقتٍ سابق بأنها "علاقة ربما لا يمكن مقارنتها بأي شيء في العالم"، ويمكن تلخيص ملامح ذلك البيان في النقاط التالية:

فيما يخص العلاقات الثنائية: فإن روسيا والصين مصممتان على الدفاع عن حقوقهما ومصالحهما المشروعة، ومقاومة أي محاولات لعرقلة التطور الطبيعي للعلاقة الثنائية بينهما، ومنع التدخل في الشؤون الداخلية للدولتين، أو الحد من الإمكانات الاقتصادية أو التكنولوجية، أو إمكانات السياسة الخارجية للبلدين، كما يدين الطرفان بشدة أي خطوات مزعزعة لاستقرارهما.

فيما يخص تايوان: ورد في البيان أن "روسيا تؤكد من جديد التزامها بمبدأ الصين الواحدة، وتعترف بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، وتعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال، وتدعم بقوة تصرفات الجانب الصيني لحماية سيادته".

فيما يخص أوكرانيا: ورد في البيان أن "الجانب الروسي يقيّم بشكل إيجابي موقف الصين بشأن القضية الأوكرانية، وأن الصين تدعم ضمان الأمن والاستقرار والتنمية والرخاء والسيادة وسلامة الأراضي الروسية، وتعارض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لروسيا"، وفي واقع الأمر فإن الصين تدعم الحرب الروسية على أوكرانيا بشكل ملحوظ ومتزايد منذ بدايتها.

فيما يخص الولايات المتحدة: لدى روسيا والصين مخاوف جدية بشأن المحاولات الأمريكية لانتهاك التوازن الاستراتيجي للعلاقة بين البلدين، وتدين موسكو وبكين برنامج الدفاع الصاروخي العالمي الأمريكي، لا سيما بعد نشر واشنطن أجزاءً منه في مناطق حول العالم وفي الفضاء، كما تدينا تطوير أسلحة غير نووية عالية الدقة، وتوسيع برنامج الردع النووي الموسع مع حلفاء الولايات المتحدة، وكذلك خطط نشر صواريخ أرضية متوسطة وقصيرة المدى في آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، واعتبر البيان أن محاولات الهيمنة الأمريكية لتغيير ميزان القوى في شمال شرق آسيا من خلال بناء القوة العسكرية وإنشاء الكتل والتحالفات العسكرية يهدد أمن دول المنطقة، خاصةً وأن الولايات المتحدة لا تزال تفكر من منظور الحرب الباردة.

فيما يخص كوريا الشمالية: يعارض الطرفان أعمال الترهيب في المجال العسكري التي تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها تجاه كوريا الشمالية، والتي تؤدي إلى مزيد من المواجهة المحفوفة بالحوادث المسلحة وتصعيد الوضع في شبه الجزيرة الكورية، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك فائزون في حرب نووية ولا ينبغي خوضها أبدًا من الأساس.

فيما يخص الاقتصاد والتكنولوجيا: اتفق البلدان على زيادة حصة العملات الوطنية في التجارة الثنائية، وتطوير الأسواق المالية، وتطوير بناء الطائرات المدنية والسفن، وصناعة السيارات، وصناعة الإلكترونيات، والصناعات الكيميائية، إلى جانب توسيع الوصول المتبادل للمنتجات الزراعية، وزيادة حجم التجارة في الحبوب والزيوت والمحاصيل الزراعية المختلفة، مع تطوير التعاون القائم على السوق في مجال النفط والغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال والفحم والكهرباء والطاقة النووية السلمية، إلى جانب تعزيز التعاون في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والاتصالات والبرمجيات وأمن الشبكات والبيانات وتنسيق الترددات الراديوية.

عالمٌ جديد

بعيدًا عن البيانات المُصَاغة بعناية فائقة، فإن بوتين وشي يعتبران نفسيهما مهندسي نظام عالمي جديد خالٍ من التدخل الأمريكي، وقد شجعا بالفعل التجمعات المتعددة الأطراف للدول النامية مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس، كوسيلة لموازنة الكفة مع الغرب، ومما لا شك فيه أن ما قيل علنًا في البيان المشترك في أعقاب القمة بين بوتين وشي عن "عصر جديد لإعادة توزيع السلطة في العالم، بحيث يصبح لكل دولة صوت يعزز علاقاتها الدولية"، قد بُحِثَ سرًا وخُطِطَ له بعناية، حيث تتجلى أولوية الرؤية الروسية الصينية هنا في الوصول إلى التعددية القطبية باعتبارها أول التغيرات البالغة الأهمية في هذا العصر الجديد الذي يطمحان إليه، فروسيا والصين لا تخفيان رغبتهما في في نظام عالمي لا تقوده قوة مهيمنة تؤكد معاييرها الخاصة على رقعة شطرنج أحادية القطب وتشكل تهديدات خطيرة لمن يعارضها، والمقصود هنا بتلك القوة المهيمنة هي الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

يمكن قراءة ملامح هذا "العالم الجديد" الذي قصده بوتين وشي من خلال خطاباتهما السابقة؛ إذ يصوّر بوتين نفسه على أنه الزعيم الملتزم بتعاون دولي أوسع مع دول العالم النامية دون المساس بنظمها الحاكمة، فهو يركز العمل في مجالات الغذاء والطاقة وسلاسل التوريد مع تقديم الدعم للأنظمة الحاكمة في تلك الدول بما يخدم مصالح موسكو، أما شي فقد سعى دومًا إلى تصوير الصين باعتبارها بطلًا عالميًا للنزعة الدولية والعولمة، وكان دائم الانتقاد بشكل غير مباشر للجهود الغربية الرامية إلى إبعاد اقتصادات الدول الفقيرة والنامية عن الصين، وقد بدأ بوتين وشي مؤخرًا في تبني فكرة إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية، حيث يكون لكل الدول صوت متساوٍ، وبالطبع هما لا يقصدان الديمقراطية داخل كل دولة، فهما لا يؤمنان بها في بلديهما بالأساس، بل على العكس من ذلك، يريدان فقط تقويض الدور الاستبدادي للولايات المتحدة على المستوى الدولي.

يتحدث بيان بوتين وشي اليوم عن رؤية عالمية وأهدافًا مشتركة، إلى جانب تدابير تعاون استراتيجية محددة لدعم هذه الأهداف، لم تتضح بعد ملامح هذا التحالف بشكل فعلي، لكن الغرب يخشى من أن توقع بكين وموسكو ذات يوم وثيقة تدشين هذا التحالف كما فعلت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية مع "ميثاق الصلب"، أو "الاتفاق الثلاثي" الذي أضاف الإمبراطورية اليابانية ذات يوم، صحيح أن القوات الصينية لا تساعد الروس على الأرض الآن في أوكرانيا، لكن الصين خلقت ظروفًا مواتية مكّنت إيران وكوريا الشمالية من توفير الأسلحة لروسيا مع الإفلات شبه التام من العقاب، ومن الناحية العملية بذلت الصين جهودًا كبيرة لدعم الجهود الحربية الروسية ضد أوكرانيا أكثر بكثير مما فعلته الإمبراطورية اليابانية لدعم جهود ألمانيا النازية، أو العكس.

علاقة وثيقة

خلال هذا العام احتفلت روسيا والصين بمرور 75 عامًا على العلاقات الدبلوماسية بينهما، وفي سبتمبر 2023م وصلت التجارة الشهرية بين البلدين إلى مستوى قياسي بلغ 21.2 مليار دولار، بزيادة 60% تقريبًا عن نفس الفترة قبل عامين، وبشكل عام بلغت التجارة الثنائية مستوى قياسيًا هو 240.1 مليار دولار خلال العام الماضي، ولا شك أن تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية ورفع مستواها يمهّد الطريق أكثر نحو العالم متعدد الأقطاب الذي يطمحان إليه، وقد التقى شي مع بوتين أكثر من 40 مرة، بما في ذلك بعض اللقاءات الافتراضية، لقد صوّر الزعيمان علاقتهما على أنها شخصية للغاية من خلال تبادل التحيات والإشارة الدائمة إلى بعضهما البعض على أنهما صديقان "قديمان وعزيزان"، حيث التقى شي مع بوتين أكثر من ضعفي المرات التي التقى بها أي زعيم عالمي آخر، فيما اختار بوتين الصين لتكون أول رحلة خارجية له منذ أدائه اليمين الدستورية لفترة ولاية أخرى مدتها 6 سنوات، ليرسل بذلك رسالة إلى العالم حول أولوياته وقوة علاقاته مع شي والصين.

حافظ شي وبوتين على علاقة وثيقة منذ وصول شي إلى السلطة في عام 2012م، وهما يشتركان في نفس طريقة التفكير تقريبًا، كلاهما يلقي باللوم على الولايات المتحدة في عرقلة صعود بلاده وينتقدان على الدوام ما يعتبرانه الهيمنة الأمريكية، وعادةً ما تخصص كل بلدٍ منهما معاملة خاصة لزعيم الدولة الأخرى، لا سيما خلال المنتديات والقمم متعددة الضيوف، ففي الصور الجماعية الرسمية لرؤساء الدول والحكومات، يقف بوتين دائما إلى جانب شي، وعادةً ما يسيران جنبًا إلى جنب متقدمين بشكل ملحوظ على الشخصيات البارزة الأخرى.

مخاطر محتملة

قد يتفق بوتين وشي على ضرورة وجود جبهة موحدة تجمعهما، لكن لدى كلٍ منهما أجندات مختلفة، فعلى سبيل المثال يحاول بوتين تصعيد حربه في أوكرانيا، لذا فهو مضطر للاعتماد على الصين منذ فرض العقوبات الغربية على بلاده، فيما يحرص شي على استغلال احتياج روسيا الحاد في زمن الحرب لتأمين وصول تفضيلي للصين إلى الموارد والأسواق الروسية، ولكنه في نفس الوقت يعلم أنه سيتعرض لضغوط غربية بسبب دعمه للكرملين، فالصينيون يدركون جيدًا مدى أهمية روسيا كحليف في المنافسة الصينية مع الولايات المتحدة، ولكن في نفس الوقت إذا ساعدوا روسيا أكثر من اللازم، فإنهم يخاطرون بعزل بلادهم عن الغرب، خاصة الاتحاد الأوروبي؛ الشريك التجاري الرئيسي الذي تعتمد الصين عليه لإنعاش اقتصادها، إذ تشعر بكين بالقلق بشأن التأثيرات الجيوسياسية للصراعين في أوكرانيا والشرق الأوسط، وتشعر بالقلق أيضا من احتمال تدهور علاقاتها أكثر مع الولايات المتحدة بسبب الديناميكيات المرتبطة بالوضع في تايوان وبما ستفرزه الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.

يرغب بوتين أيضا في تطوير خط أنابيب الغاز الطبيعي "قوة سيبيريا 2"، حيث يريد إعادة توجيه إمدادات الغاز الروسية التي تذهب إلى أوروبا نحو الصين بدلًا من ذلك، لكن بعض التقارير أشارت إلى أن الصين مترددة بشأن هذا المشروع لأن الخط سيمرّ عبر دولة ثالثة، وهي منغوليا، وأن ذلك قد يعرض الصين لعقوبات ثانوية محتملة ويجعلها أكثر اعتمادًا على روسيا للحصول على الطاقة، وكان رفض شي إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا سببًا في تفاقم علاقات الصين مع الغرب، لا سيما بعد الزيادة الحادة في الرسوم الجمركية الأمريكية على مجموعة من الواردات الصينية، وتحذيرات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من أن الولايات المتحدة ستدرج البنوك الصينية التي تساعد روسيا في المجهود الحربي على القائمة السوداء، وذكرت وسائل الإعلام الروسية في وقت سابق من العام أن المؤسسات المالية الصينية بدأت بالفعل في تقليص معاملاتها مع الشركات الروسية بسبب مخاوف بشأن العقوبات الثانوية.

كما أدى الدعم الصيني لروسيا إلى تزايد اصطفاف أوروبا مع الولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية، وهذا يجعل جهود الصين لتجنب حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي ـ بشأن صادرات السيارات الكهربية الصينية ووصول الشركات الصينية إلى الأسواق الأوروبية - أكثر صعوبة بالنسبة الصين، وقد فشلت محاولات الصين في تقديم نفسها على أنها محايدة بشأن الحرب في أوكرانيا، خاصةً بعدما عرضت خطة غامضة مكونة من 12 نقطة لتسوية سياسية للحرب وأرسلت مبعوثا لإجراء دبلوماسية مكوكية في أوروبا، إذ رفضت الدول الغربية جهود الصين لأنها لا تدعو إلى الانسحاب الكامل للقوات الروسية من أوكرانيا، كما أنها مستمرة في دعم الاقتصاد الروسي خلال الحرب.

ختامًا، فإنه نظرًا للطبيعة السرية للمحادثات التي جرت بين بوتين وشي في لقائهما الأخير - الذي حضره أيضا وزير دفاع بوتين ومجلس الأمن القومي - فليس من الواضح ما هو الاتفاق الذي تم التوصل إليه بشأن مسألة النظام العالمي الجديد والتعاون اللا محدود بين البلدين، لكن ما هو مؤكد على الأقل حتى الآن هو أن التداعيات الجيوسياسية الناجمة عن هذه الإجراءات من المرجح أن تزيد من توتر العلاقات بين الصين وروسيا والغرب، وهي تطورات ستؤدي في نهاية المطاف إلى بيئة عالمية أكثر تصادمية.

 

أعلى