زهراني ممداني يمثل مزيجا بين النضال المحلي من أجل قضايا العادلة الاجتماعية والانحياز الواضح للقضايا التحرر العالمي وعلى رأسها القضية الفلسطينية وهو مع ذلك يا يحاول إخفاء هويته فهو مسلم من أصول مهاجرة جاعلا منها منطلقا لحملته.
في لحظة سياسية لا تخلو من رمزية، فاز الشاب المسلم التقدمي زهران ممداني في
الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك، متجاوزًا أحد أعتى رموز
المؤسسة الديمقراطية في الولاية، الحاكم السابق أندرو كومو. فوزٌ لم يكن مجرد
انتصار انتخابي، بل تعبيرٌ جلي عن تصدّع النظام السياسي التقليدي في مواجهة جيل
جديد يرى في العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، في الداخل والخارج، جوهر
السياسة لا هامشها.
الوجه الجديد لمدينة قديمة
وُلد زهران ممداني عام 1992 في أوغندا لعائلة من أصول هندية، وانتقل في طفولته إلى
نيويورك، المدينة التي ستصير لاحقًا ميدانه السياسي. حصل على الجنسية الأمريكية
متأخرًا عام 2018،
والده هو محمود ممداني، أستاذ هندي أوغندي للدراسات ما بعد الاستعمارية في جامعة
كولومبيا، من أصل مسلم شيعي..
عندما كان في الخامسة من عمره، انتقل ممداني وعائلته إلى كيب تاون، جنوب أفريقيا.
التحق بمدرسة سانت جورج بينما كان والده يعمل في جامعة كيب تاون. ثم انتقلت العائلة
إلى مدينة نيويورك عندما كان ممداني في السابعة من عمره. درس في مدرسة برونكس
الثانوية للعلوم. والتحق ممداني بكلية بودوين في ولاية مين، حيث شارك في تأسيس فرع
المدرسة لطلاب من أجل العدالة في فلسطين. تخرج في عام 2014 بدرجة البكالوريوس في
الدراسات الأفريقية.
لكنه سرعان ما خاض غمار العمل العام، وانتُخب عضوًا في الجمعية التشريعية لولاية
نيويورك عن منطقة كوينز في 2021. ينتمي ممداني إلى تيار "الديمقراطيين
الاشتراكيين"، ويجمع بين خطاب يساري صريح وهمّ اجتماعي ينبع من واقع الأحياء
الفقيرة متعددة الأعراق التي نشأ فيها.
حملته لمنصب العمدة انطلقت خريف 2024، وكانت تبدو للوهلة الأولى رمزية أو احتجاجية؛
إذ واجه شخصية عريقة مثل كومو، مدعومة من لوبيات سياسية ومالية واسعة. لكن ممداني
قلب المعادلة، واستطاع أن يحصد 43% من الأصوات بعد فرز معظم الدوائر، متقدمًا بفارق
واضح، على منافسه لكومو الذي حصل على 36 في المائة وسط ذهول النخب التقليدية.
|
لم يخفِ ممداني هويته الدينية، بل جعلها جزءًا من حملته، في مدينة تُعدّ
موطنًا لأكثر من مليون مسلم. ظهر في مقاطع مصورة كثيرة يفطر في رمضان في
مترو الأنفاق، ويتحدث عن معاناة المسلمين من ارتفاع كلفة "الطعام الحلال |
خطاب اجتماعي يلامس الطبقة المهمشة
خاطب ممداني عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الطبقة العاملة في
نيويورك. حيث دعا إلى: تجميد الإيجارات وتوسيع حقوق المستأجرين، النقل العام
المجاني، في حافلات المدينة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولارًا بحلول عام 2030
إنشاء متاجر غذائية مملوكة للبلدية لبيع السلع بأسعار الجملة، تقليص كلفة رعاية
الأطفال دون السادسة، فرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء وتمويل برامج المساعدة
الاجتماعية
لكن هذا البرنامج، على أهميته، لم يكن هو ما جعل ممداني ظاهرة سياسية تتجاوز حدود
نيويورك، بل موقفه المبدئي من القضية الفلسطينية، وتحدّيه الصريح للمحرّمات
السياسية الأمريكية المرتبطة بإسرائيل.
موقفه من إسرائيل والقضية الفلسطينية
منذ ظهوره السياسي،
لم يُخفِ ممداني دعمه الواضح لفلسطين. اعتبر الاحتلال الإسرائيلي شكلًا من أشكال
الفصل العنصري الحديث، ووصف العدوان على غزة بـ"الإبادة الجماعية".
لم يتوقف عند الإدانة، بل قدّم عام 2023 مشروع قانون لوقف الإعفاءات الضريبية عن
الجمعيات الخيرية المرتبطة بالمستوطنات، معتبراً أن دعم الاستيطان خرق فاضح للقانون
الدولي.
وقد تجاوز ممداني الخطوط الحمراء غير المكتوبة، حين صرّح بأنه
–
في حال صدور مذكرة توقيف دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
–
فإنه سيوجه شرطة نيويورك لاعتقاله إذا دخل المدينة. ورغم أن ذلك يتجاوز الصلاحيات
الواقعية لعمدة المدينة، فإن رمزية التصريح كانت كافية لإشعال عاصفة من ردود الفعل
بين السياسيين والإعلام.
وفي
مناخ أمريكي مفرط في التحسس من نقد إسرائيل، سعى ممداني بذكاء إلى تمييز معاداة
الصهيونية عن معاداة السامية. شدد على أن انتقاد دولة احتلال لا يعني بأي حال
التحريض على اليهود، وتعهّد بدعم التمويل المخصص لحماية دور العبادة والمدارس
اليهودية في المدينة. وفي الوقت ذاته، رفض الانخراط في ما سماه "خطاب الإدانة
المشروط"، حين طُلب منه استنكار عبارة "عولمة الانتفاضة"، فرفض أن ينجرّ إلى معايير
مزدوجة تطال الفلسطيني دون غيره.
في قلب المعركة
لم يخفِ ممداني هويته الدينية، بل جعلها جزءًا من حملته، في مدينة تُعدّ موطنًا
لأكثر من مليون مسلم. ظهر في مقاطع مصورة كثيرة يفطر في رمضان في مترو الأنفاق،
ويتحدث عن معاناة المسلمين من ارتفاع كلفة "الطعام الحلال"، وزار المساجد،
وجعل من خلفيته جسراً لتمثيل المهمّشين.
إن ظهور شخصية سياسية بهذا الوضوح في الانتماء، والجرأة في الطرح، يمثل تحديًا
مباشرًا للصورة النمطية عن السياسي المسلم "المتأمرك"، الذي يعتذر عن كل كلمة،
ويُجامل في كل ملف.
موجة جديدة
يحظى ممداني بدعم رموز اليسار التقدمي في الحزب الديمقراطي، أبرزهم بيرني ساندرز
وألكساندريا أوكازيو-كورتيز، اللذان باركا فوزه باعتباره "تحولًا استراتيجيًا في
تمثيل القيم الشعبية". وهو دعم يضعه على بوابة جولة انتخابية نهائية قد تكون فاصلة،
ليس فقط لمستقبل نيويورك، بل لمسار التيار التقدمي في أميركا.
في المقابل، لم يتوقف الهجوم عليه من الإعلام المحافظ، ومن لوبيات داعمة لإسرائيل،
ومن قطاع من الليبراليين "المعتدلين" الذين يتهمونه بـ"الاندفاع غير المسؤول".
لكن الأهم أن ممداني أعاد تشكيل الجدل السياسي في المدينة، وأثبت أن دعم فلسطين لا
يُلزمك بدفع ثمن سياسي، بل قد يُصبح جزءًا من المعركة الأخلاقية الكبرى لجيل جديد.
الخاتمة:
لم يكن صعود زهران ممداني صدفة انتخابية، بل ثمرة نضج سياسي واجتماعي جديد، تُعيد
فيه الهويات المهاجرة صياغة المشهد من الداخل، لا على الهامش. وهو في موقفه من
إسرائيل لا يتبنى منطق التبرير أو الإدانة الانتقائية، بل ينطلق من رؤية حقوقية
تحررية ترى في الفلسطيني وجه الإنسان المقهور، لا عبئًا دبلوماسيًا.
فهل ينجح هذا النموذج في كسر المركزية البيضاء، وتوسيع أفق السياسة الأمريكية ليشمل
صوتًا مسلمًا، مهاجرًا، ولا ننسى أن الرجل ما زال مرشحا فهل يستطيع أن يتجاوز عقبة
المرشح الجمهوري المدعوم من ترامب. هذا ما ستخبرنا به الأيام القادمة.