• - الموافق2025/11/16م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سدي تيمان... مقبرة للأحياء وصناعة ممنهجة للتعذيب الإسرائيلي

اعترفت يفات تومر‑يروشالمي، المدعية العسكرية العليا سابقًا، بأنها وافقت على تسريب فيديو يوثّق اعتداءً جنسيًا على أحد المعتقلين، زاعمةً أنّ الخطوة كانت لتفنيد دعاوى دعاية مضادة تجاه المؤسسة الأمنية.


في قلب صحراء النقب ينهض مكانٌ تُترجم فيه سياسات الاحتلال الإسرائيلي إلى فعلٍ يومي من الإذلال والتعذيب، إنه سجن "سدي تيمان"؛ منشأة لا تمثّل انحرافًا استثنائيًا في منظومة الاعتقال الإسرائيلية، بل حلقة مُتقدّمة في تاريخ طويل من البطش الذي يحوّل الأسر إلى عملية تدمير ممنهجة للإنسان الفلسطيني جسدًا ومعنى.

يعود هذا السجن إلى واجهة الأحداث مؤخرًا بعد الفضيحة التي ارتبطت بالمدعية العسكرية الإسرائيلية ييفات تومر-يروشلمي، التي أُجبِرت على الاستقالة عقب اعترافها بتسريب مقطع يوثّق تعذيبًا وحشيًا لأحد المعتقلين الفلسطينيين داخل هذا السجن.

ومع أنّ المشهد لم يكن يحتاج إلى دليل جديد على طبيعة المنظومة التي طالما حوّلت الأجساد الفلسطينية إلى موضوع للاعتقال طويل الأمد والإبادة الرمزية، فإن وقائع "سدي تيمان" ــ بما فيها من شهادات طبية وقضائية وتقارير حقوقية ــ جاءت لتؤكّد أنّ ما يحصل ليس شذوذًا، بل مسارًا مُنظّمًا تُدار فيه آلة التعذيب بعقل بارد وتواطؤ قانوني فاضح.

تاريخ ممنهج للاعتقال

منذ نشأتها، اتبعت إسرائيل سياسةً أمنية متجذّرة لبناء شبكة ضخمة من مرافق الاعتقال، تُعدّ جزءاً لا يتجزّأ من نهج الاحتلال، أقامت السلطات الإسرائيلية عشرات مراكز الاعتقال والسجون، وعُرِف أن أكثر من 23 سجنًا ومركز احتجاز تعمل تحت إشراف مصلحة السجون والجيش الصهيوني، ولا شك أن تاريخ اختطاف الحريات والاعتماد على الاعتقال الإداري والاحتجاز الطويل دون محاكمة بات أحد الأعمدة الثابتة في التجربة التي يواصلها الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني. فمنذ عام 1967م والأجهزة الأمنية الإسرائيلية تُفعّل أوامر عسكرية تسمح باعتقال المواطنين الفلسطينيين وتحويلهم إلى أسرى بلا محاكمة، ضمن ما يُعرَف بـ "حالة الطوارئ" وتحت مظلة قوانين مكافحة الإرهاب التي هيئت الأرضية لاحتجاز جماعي تحت ذريعة الخطر الأمني.

إلى جانب إنشاء البنية التحتية للسجون، تبنّت إسرائيل منهجًا قانونيًا وتشغيليًا يُسهّل الاعتقال الجماعي والتعسّفي للفلسطينيين. مثل القوانين العسكرية وأوامر الطوارئ تُطبّق على الفلسطينيين مما يخلق حالة من الاستثناء الأمني يُعتَبر فيها الفلسطينيّ مجرد ملف أمني وليس سجينًا كامل الحقوق. وبمرور الزمن تحوّل هذا النمط إلى منظومة أكثر تعقيدًا: عدد المعتقلين الفلسطينيين ارتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال، في مطلع مارس من العام الجاري 2025م تجاوز عدد المعتقلين الفلسطينيين في سجون إسرائيل ومراكز الاحتجاز نحو9500 شخصًا، قرابة النصف محتجزين تحت الاعتقال الإداري بلا تهم أو محاكمة، يُجدد تلقائيًا، وغالبًا ما تكون الأدلة سرّية ولا تتاح للمتهم ولا لمحاميه. حتى في الحالات التي تُحال فيها قضايا للمحاكمة، فإن معدلات الإدانة تبلغ نسبة مئوية عالية، وتُقام أمام محاكم عسكرية بلا ضمانات عادلة.

عند منتصف 2025م تجاوز العدد 10400معتقل فلسطيني، وهذه هي الأرقام المثبتة رسميًا وقد تتجاوز الأرقام الفعلية ذلك بكثير، هذه الزيادة الهائلة في أعداد المحتجزين بلا محاكمة تؤكّد أن سياسة الاعتقال هي أداة رئيسية في إدارة السيطرة والقمع، وليس استثناءً للطوارئ مثلما حاول الاحتلال الترويج له. في هذا السياق، تتبدّل مراكز الاحتجاز المؤقتة بسرعة إلى مرافق احتجاز طويلة الأمد، وتحول بنى تحتية عسكرية إلى زنازين لا تخضع للمساءلة التقليدية.

سجن "سدي تيمان"

نشأ موقع الاحتجاز المعروف بـ "سدي تيمان" كمقرّ عسكري تابع للجيش الصهيوني في صحراء النقب، قريبًا من حدود غزة، قبل أن يُحوَّل إلى معتقل ضخم للمحتجزين الفلسطينيين على خلفية الحرب التي بدأت بعد هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م، تبيّن أن منشأة سدي تيمان ــ التي صُمِّمت مبدئيّاً كبنية احتياطية لكتائب جيش الاحتلال ــ استُخدمت منذ نهاية 2023م كمعسكر اعتقال طويل الأمد، رغم أنها لم تكن مهيّأة لهذا الغرض. حين اختارت السلطات الإسرائيلية هذا الموقع تحديدًا، فقد كان الهدف ليس فقط احتجازًا مؤقتًا، بل أيضاً فرضًا لسياسة المعتقل الجماعي تحت بند "مقاتلين غير شرعيين" بموجب قانون تمّ تحديثه في ديسمبر 2023م.

 

معتقلون أُطلِق سراحهم أخبروا بأنهم تعرّضوا لإذلال لم يُوثّق، مثل الوقوف لساعاتٍ بساق واحدة، أو النوم مقيد اليدين، أو التقييد لفترات طويلة، أو إقهار طبي يُفضي إلى تدهور صحي خطير، وحرمانٍ غذائيٍ مستمر

بالتزامن مع ذلك، ظهرت مرافق مماثلة مثل سجن أوفير في الضفة الغربية، ومركز أنطوت قرب القدس، التي استُخدمت أيضاً لاستيعاب معتقلين فلسطينيين بنفس المنهج تقريباً؛ اعتقال إداري أو تحت قواعد الحرب، وبينما حاول الجانب الإسرائيلي تبييض صورة سدي تيمان عبر بيانات رسمية تدّعي تطوير المنشأة وتحسين ظروفها، فإن الواقع على الأرض والوثائق الحقوقية تؤكد أنها استمرت بنفس منطق التقييد القاسي والتعذيب والاحتجاز الطويل بلا ضمانات.

وقائع موثّقة وأدلة مرئية

في "سدي تيمان"، لا تُعدّ وقائع التعذيب والاعتداء مجرّد أخطاء فردية بل تجلٍّ لنهج منظّم بدأ كسياسة أمنية وتحوّل إلى ممارسة يومية معلنة مع سلسلة من الانتهاكات الجسدية والنفسية، وقد تم الإبلاغ عن حالاتٍ لاعتقالات جماعية نفّذتها القوات الإسرائيلية بحق فلسطينيين من غزة تمّ نقلهم إلى سجن "سدي تيمان"، وقد خضع بعضهم إلى تقييد مستمر وعُصبت أعينهم، وقُيدت أيديهم وأقدامهم لساعاتٍ أو أيام، ثم بدأ يُمارَس بحقهم الضرب المبرّح، التحقير الجنسي، والحرمان من النوم، ناهيك عن استخدام أدوات حادة ووسائل تمثّل إرهابًا جسديًا وليس مجرد سوء معاملة، حتى اقترب الأمر إلى ما وصفته بعض التقارير بأنه "جحيم يومي داخل زنازين الصحراء".

إن العديد من الوقائع المُسجّلة أصبحت دليلاً على أن سياسة الاحتلال ليست عاجزة عن ضبطها، بل أنها، بتغيّر اسم الموقع أو وظيفته، تستمرّ في ذات الأسلوب من العزل والتجريب.

اللافت أن التورّط وصل إلى أعلى مستويات الجهاز القضائي العسكري؛ إذ اعترفت يفات تومريروشالمي، المدعية العسكرية العليا سابقًا، بأنها وافقت على تسريب فيديو يوثّق اعتداءً جنسيًا على أحد المعتقلين، زاعمةً أنّ الخطوة كانت لتفنيد دعاوى دعاية مضادة تجاه المؤسسة الأمنية. ما جعل الأمر أشدّ إيلامًا هو أن من كان يُفترض به أن يمارس دور الضبط القانوني هو نفسه جزء من العملية التي أنتجت الإفشاء، وهو ما يرفع سقف المساءلة من مجرد جنود منفّذين إلى المؤسسة كلها.

الخطوة الأخرى في فضح هذا السجن جاءت من نشر الفيديو، إذ إنّ ما حصل هو من المرات القليلة التي تكشف فيها دولة الاحتلال نفسها عن أحد مرافقها كمنشأة يتعرض فيها المعتقلون لانتهاكات خطيرة، لا مجرد تقارير خارجية. حين تم تسريب المقطع في أغسطس2024 وعُرض لاحقا في وسائل الإعلام، بدا أن الغاية المعلنة من التسريب كانت تهدئة ضغوط داخلية من اليمينيين المتطرفين حول التسامح مع المعتقلين الفلسطينيين، لكنّ مفاعيله العكسية كانت أعمق؛ إذ استغلها المعارضون في انتقاد نتنياهو وحكومته، وطالبوا بفتح باب مساءلة داخليّة مُهمَلة، وبالفعل فقد أدّى الأمر إلى فتح تحقيق جنائي ضد تومريروشالمي، واعتُقلت، وتم تمديد توقيفها، لكن الأهم من ذلك كله هو أنه أخرج قضيّة سجن سدي تيمان من مجرد سجن إلى عنوان دولي لمأساة الاعتقال الفلسطيني.

وفي المقابل، ما زالت آلاف القضايا المحتجَزة خلف القضبان تحت ظروف مماثلة بدون تصوير أو تسريب؛ معتقلون أُطلِق سراحهم أخبروا بأنهم تعرّضوا لإذلال لم يُوثّق، مثل الوقوف لساعاتٍ بساق واحدة، أو النوم مقيد اليدين، أو التقييد لفترات طويلة، أو إقهار طبي يُفضي إلى تدهور صحي خطير، وحرمانٍ غذائيٍ مستمر، وهذه الممارسات تُمارَس في سدي تيمان والعديد من السجون ومراكز الاعتقال، ما يعكس أن الانتهاك ليس استثناءً في هذا السجن إنّما نموذجًا يُحتذى. هذه الشهادات التي لا تحمل تسجيلات لكنها تحمل جرحى وشهادات طبية تُعيد رسم الصور البشعة لتلك الزنازين، مع ذكرى دائمة للعنف الذي يفرضه الاحتلال دون أفق حقيقي للمساءلة.

صمت وتبرير وإذلال

ما يُثير السّخط ليس فقط ما جرى من انتهاكات، بل كيف تحوّل الصمت الرسمي الإسرائيلي إلى آلية تبرير فعلي، فبينما كان من المفترض أن تمضي المؤسسة القضائية والعسكرية في إسرائيل بسرعة نحو مساءلة جادّة للمسؤولين، وجدنا الردّ الرسمي عبارة عن صمت أولي، ثم تأجيل للتحقيق، ثم تصريحات من أعلى هرم السلطة تعمل على تحويل المسؤولين إلى ضحايا وتبرّر ما جرى أو تصغّره، نجد مثلًا وزير دفاع الاحتلال إسرائيل كاتس يعلن إنه "سيتأكد من مساءلة كل من ضلّ"، لكنّه في الوقت ذاته وصف تسريب الفيديو بـ "افتراء دموي ضد جنودنا"، فضلاً عن ذلك، الجهاز القضائي والعسكري نفسه ــ وهو المفترض أن يكون عاملاً للعدالة وليس غطاءً لها ــ ظهر متورّطًا في هذا الصمت والتبرير. على سبيل المثال، التحقيق الذي أجراه مساعد المحامي العسكري العام أفاد بأن الفيديو لا يمكن تحديد مصدره.

هذا المزج بين إنكار كامل، واعتراف محدود مصحوب بتبرير أمني، هو صمت يتعالى فوقه صوتُ التأجيل، وكيلُ الشعارات، بينما يبقى المعتقلون خلف القضبان بلا شفافية أو عدالة حقيقية. وفي هذه البيئة، يُصبح المحتجز الفلسطيني أمام أمرين لا ثالث لهما: إما اللجوء للمنظومة التي تعترف بشكوكها دون التأكّد منها، أو أن يُترك في عزلة دون ضمان لمحاكمة أو حتى تحقيق واضح. هذا الوضع يُراكم إذلالًا قانونيًا يعادل ــ أو ربما يزيد على ــ الإذلال الجسدي داخل الزنازين.

أعلى