• - الموافق2025/07/15م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عندما تضع الحرب أوزارها  خطاب

منذ 47 عاما بدأت العمليات المسلحة لحزب العمال الكردستاني في تركيا وهو الأمر الذي لم يلق ظلالا على الدولة التركية وحدها بل انتشرت شراراته في العراق وسوريا واليوم عندما تلوح لتلك المعركة أن تنتهي فإن ظلال السلام أيضا لن تشمل تركيا وحدها.


مع حلول صباح يوم السبت الموافق 12 يوليو ترقب الأتراك خطاب الرئيس التركي "أردوغان" كما طلب منهم المتحدث الرسمي باسم حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بالبلاد، ومع بدء الاجتماع الاستشاري للحزب بأنقرة صعد "أردوغان" إلى المنصة ليلقي كلمته التي انتظرها الكثيرون؛ ليعلموا فحواها وما سينتج عنها، خاصة أن متحدث الحزب قد وصف خطاب "أردوغان" قبلها في مؤتمر صحفي بأنه سيكون "خطابًا تاريخيًا"، ومنذ بدء الرئيس التركي إلقاء خطابه حتى انتهائه ظهرت الكثير من ملامح "الخطاب" الذي طالما تشوّق الكثيرون لمعرفته؛ ليتجسد جليًا مشروعًا جديدًا برعاية "أردوغان" يمهد لنهاية حقبة "الإرهاب" في البلاد ويُدشن مشروع "وحدة جامعة" تشمل الأتراك والأكراد والعرب معًا في بوتقة واحدة.

انتهاء حقبة الإرهاب

احتل الحديث عن الإرهاب في خطاب "أردوغان" النصيب الأكبر، حيث إنه الملف الأبرز والأكثر سطوعًا في هذا الوقت العصيب من تاريخ البلاد، ولذلك سنقف مع أهم ما ذكره الرئيس التركي في هذا الجانب، إذ كان من أبرز تصريحاته تأكيده على أن صفحة جديدة فُتحت في تركيا، عقب بدء قادة وأعضاء تنظيم "حزب العمال الكردستاني تسليم أسلحتهم بطوع إرادتهم؛ استجابةً لنداء زعيمهم الروحي والفكري "عبدالله أوجلان".

وقد صرح أردوغان قائلًا: "منذ أمس، دخلت آفة الإرهاب عملية الزوال، اليوم يوم جديد؛ صفحة جديدة فُتحت في التاريخ، اليوم فُتحت أبواب تركيا العظيمة والقوية على مصراعيها".

وأكد الرئيس التركي أن 47 عامًا من "الإرهاب" في البلاد وصلت إلى مرحلتها الأخيرة، مضيفًا ومبشرًا الجميع بقوله: "سنسهل إتمام عملية السلام بسرعة دون إيذاء مشاعر أحد بما يتماشى مع حساسية المرحلة، وسنتابع بدقة عملية تسليم السلاح".

وأوضح أردوغان أن العمليات "الإرهابية" التي تعرضت لها تركيا أسفرت عن مقتل 10 آلاف عنصر من أفراد الأجهزة الأمنية و50 ألف مدني؛ مشيرًا إلى أن التكلفة المالية لهذه العمليات "الإرهابية" بلغت 2 تريليون دولار.

وكان من أبرز العبارات اللافتة التي استخدمها "أردوغان" عند حديثه حول بدء عملية السلام مع التنظيم قوله: "تركيا انتصرت، وانتصر الأتراك والأكراد والعرب، وكل فرد من مواطنينا البالغ عددهم 86 مليون نسمة".

وقال الرئيس التركي: "هدف تركيا خالية من الإرهاب، لم يكن نتيجة مساومة بأي شكل من الأشكال، والتطورات التي حدثت في سوريا والعراق ساعدتنا في التعامل مع الإرهاب".

 

وأكمل أردوغان حديثه بقوله: "نواصل العمل مع الحكومة السورية وشركائنا الدوليين، وأؤمن من أعماق قلبي بأن صفحة "الإرهاب" ستُطوى هناك أيضًا وستنتصر الأخوة".

وطمأن الرئيس التركي شعبه موجهًا الحديث إليه بعبارت مفعمة بالأمل عبر قوله: "الحمد لله، نغلق اليوم قوسًا فُتح قبل 41 عامًا، اتركوا عنكم القلق، يجب على شعبنا العزيز أن يحتفل"، وأضاف: "كونوا على يقين بأننا لن نسمح بانتهاك كرامة الجمهورية التركية ولا بانحنائها، ونواصل مشروعنا (تركيا خالية من الإرهاب) انطلاقًا من هذا المفهوم".

وأشار أردوغان إلى أن الجمهورية التركية ستصبح أقوى وأكثر ثقة بنفسها من ذي قبل مع انتهاء الإرهاب، خاصة أنه سيتم تركيز الجهود على الأعمال الأساسية، وسيتم حشد الموارد لا لمكافحة الإرهاب، بل من أجل التنمية والرفاهية وإنشاء تركيا المزدهرة.

الأكراد في العراق وسوريا

وقال الرئيس التركي في كلمته خلال لقاء الحزب الاستشاري، إن الأكراد في "العراق وسوريا" سعيدون للغاية تجاه خطوة تخلي تنظيم حزب "العمال الكردستاني" عن السلاح.

وأكد أردوغان أن القضية حاليًا ليست قضية المواطنين الأكراد المنتمين إلى تركيا فحسب بل إن مسألة الأشقاء الأكراد في "العراق وسوريا" هي قضية تشغله أيضًا ويسعى لإيجاد حلول لها في أقرب وقت ممكن؛ لضمان تحقيق سعادة ورفاهية الأكراد في المنطقة بأكملها.

وأكمل أردوغان حديثه بقوله: "نواصل العمل مع الحكومة السورية وشركائنا الدوليين، وأؤمن من أعماق قلبي بأن صفحة "الإرهاب" ستُطوى هناك أيضًا وستنتصر الأخوة".

وهي إشارة واضحة ورسالة لتنظيم "قسد" الذي اختلف مؤخرًا مع الإدارة السورية الجديدة بعدما نقض اتفاقه معها، ولذلك يسعى أردوغان عبر هذه الرسائل إلى إذابة الثلج بين الطرفين؛ من أجل الوصول لحل سلمي ودمج التنظيم وأعضائه في مؤسسات الدولة السورية أسوة بما سيتم مع تنظيم "العمال الكردستاني" في تركيا.

واللافت أنه أثناء حديث "أردوغان" عن القضية الكردية وجّه هذه الكلمات لكل كردي قائلًا: "أخي الكردي، هل لديك مشكلة؟ سنجلس ونتحدث، بلا إرهاب ولا سلاح، صدقني هكذا ستحل البركة على مائدتنا، وسيحل السلام في وطننا التركي الواسع، وبهذه البركة وهذا السلام، سنتجاوز كل عقبة ونمضي قدمًا نحو المستقبل".

أكثر شيء لفت انتباه الكثيرين هو دعوة الرئيس التركي المكونات العرقية الثلاثة "العرب والأكراد والأتراك" للاتحاد من جديد، في رسالة مباشرة لتوحيد الصفوف ومواجهة الأعداء الذين يتلاعبون منذ زمن بمنطقة الشرق الأوسط، فقال أردوغان في عبارة واضحة: "عندما اتحدنا (كأتراك وعرب وأكراد)، استطعنا تحقيق المعجزات وحاربنا أقوى الإمبراطوريات وهزمناها.. متى تفرقنا هُزِمنا، وكلما اتحدنا سطرنا الإنجازات والانتصارات".

وأخذ أردوغان يطرق كثيرًا في خطابه على مفهوم الوحدة ويحشد له الشواهد والأدلة والوقائع التاريخية التي تدعمه، فقال: "حين وصلت جيوش السلاجقة إلى بغداد ودمشق وملاذكرد، تلاحمت هناك مع الأخوّة الكردية والعربية، وانتصار ملاذكرد وفتح القدس وفتح إسطنبول ومعارك جنق قلعة وحرب الاستقلال، كلها انتصارات مشتركة للأتراك والأكراد والعرب".

ولعل من أبرز التصريحات اللافتة التي يجب التوقف عندها في نداء الوحدة من قبل أردوغان، قوله: (دمشق، ديار بكر، الموصل، كركوك، أنقرة، إسطنبول) كلها مدننا المشتركة، وحرب الاستقلال هي حرب مشتركة، وهي انتصار مشترك للأتراك والأكراد والعرب، ولشعوب مسلمة لا تُحصى.

ولم يتوقف حديث "أردوغان" عن أهمية الوحدة بين المكونات العرقية الثلاثة عند هذا الحد، حيث تابع فقال: "عندما شكّلنا تحالفًا، هبّت رياح خيولنا نسائم باردة من البحر الأدرياتيكي (وهو يفصل شبه الجزيرة الإيطالية عن شبه جزيرة البلقان) إلى بحر الصين، وعبر ذلك نقشنا شعار "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" في قلوب بعضنا البعض.

تحالف "الجمهور" الحاكم

كان لافتًا في خطاب "أردوغان" أيضًا تصريحه الذي قال عبره: " لقد قررنا، على الأقل كثلاثي (حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب) أن نسير معًا في هذا الطريق".

وهو التصريح الذي أكد من خلاله الرئيس التركي أن الأحزاب الثلاثة ستواصل المسير معًا بعد الآن؛ لمتابعة مسار نزع سلاح تنظيم حزب العمال الكردستاني "PKK" وتطبيق رؤية "تركيا خالية من الإرهاب".

وقد قرأت الصحافة التركية هذا التصريح من الرئيس التركي على أنه إعلان "ضمني وغير مباشر" لانضمام حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب "DEM" إلى تحالف "الجمهور" الذي يقوده حزب العدالة والتنمية (الحاكم).

 

يُعد اعتراف أردوغان العلني بأخطاء الدولة التركية تجاه الأكراد خطوة تاريخية، مشيرًا إلى أنها ساهمت في تعقيد العلاقة مع حزب العمال الكردستاني. في خطابه، أكد أن هناك جهات لا ترحب بهذه العملية

وهو التحالف الذي لو انعقد سيسهل الكثير من الملفات العالقة، ومنها على سبيل المثال كتابة "دستور جديد" للبلاد وتمرير "تشريعات" قانونية من شأنها أن تفتح الباب أمام مشاركة "الأكراد" في الحياة السياسية بشكل أوسع من ذي قبل؛ بما يؤهل التنظيم وعناصره للاندماج في مؤسسات الدولة التركية بشكل حقيقي وفعال.

وفي هذا الجانب قد أعلن الرئيس التركي في خطابه عن بدء التحضيرات لتشكيل "لجنة في البرلمان" لمتابعة مسار نزع سلاح التنظيم، وبموجب هذا الأمر ستُشكل اللجنة بقرار من رئيس البرلمان التركي "نعمان كورتولموش"، ومن المتوقع أن تضم اللجنة جميع الأحزاب السياسية وأن تتكون من 35 عضوًا، وستُجرى داخلها دراسات تتعلق بتنفيذ الأحكام بحق "الإرهابيين" الذين يلقون السلاح، كما أن الهدف الأسمى من تشكيلها هو "إعادة دمج" عناصر التنظيم الذين يلقون السلاح في المجتمع بعد إعادة تأهيلهم.

الاعتراف بالخطأ

يُعد اعتراف أردوغان العلني بأخطاء الدولة التركية تجاه الأكراد خطوة تاريخية، مشيرًا إلى أنها ساهمت في تعقيد العلاقة مع حزب العمال الكردستاني. في خطابه، أكد أن هناك جهات لا ترحب بهذه العملية، وهي نفسها التي أفشلت محاولات السلام سابقًا في 1993 و2013 وتسببت بأحداث غيزي بارك. كما نفى إجراء أي مساومات سياسية متعلقة بمنح الأكراد حكمًا ذاتيًا مقابل دعم انتخابي، مؤكدًا أنه وبهتشلي وضعا مستقبلهما السياسي لإنجاح هذه العملية.

الخطوة الفعلية قبل الخطاب

يجدر الإشارة إلى أن الخطوة العملية التي أقدم عليها التنظيم وأعضاؤه والمتمثلة في "تسليم السلاح"، هي التي مهدت لخطاب "أردوغان" وما جاء فيها من بشريات لعدة فئات منها "الأكراد" أنفسهم الذين طالما كانوا في عداء مع الدولة التركية على مدار أكثر من 4 عقود متتالية، وقعت على إثرها الكثير من الخسائر المادية والبشرية.

حيث انطلقت فعالية تسليم السلاح "الرمزية" يوم الجمعة -الذي سبق خطاب أردوغان بيوم واحد فقط- وقد نفذها قادة وأعضاء تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) في مدينة "السليمانية" الواقعة في شمال العراق، بحضور عدد من المسؤولين الأمنيين الأتراك ومنهم رئيس جهاز المخابرات "إبراهيم قالن".

وقد تم تحديد موقع مغارة في المدينة لبدء عملية تسليم السلاح، حيث قام 30 عنصرًا من التنظيم بإحراق أسلحتهم داخل هذه المغارة، وصرح قائد هذه المجموعة قائلًا:

وبعد مشهد وُصف بالتاريخي بعد تسليم أعضاء التنظيم أسلحتهم قاموا بحرقها بأنفسهم أمام عدسات كاميرات القنوات التلفزيونية التركية التي نقلت الحدث لمشاهديها، لتُتَوَّج بذلك أول خطوة فعلية في مسار بدء عملية "السلام" بين التنظيم والدولة التركية.

إحراق 30 قطعة سلاح ليس له تأثير يُذكر على تنظيم يمتلك آلاف الأسلحة، خاصة وأن الولايات المتحدة زودت فروعه في سوريا بآلاف الشاحنات. الخطوة كانت رمزية واختارها التنظيم بعناية عند تسليم السلاح عبر "بيسه هوزات"، قائدة تنظيم KCK الذي يضم عدة تنظيمات كردية مسلحة في العراق وإيران وسوريا. كذلك، انضم ثلاثة من قادة PKK لتسليم سلاحهم كخطوة رمزية تجاوبًا مع دعوات أوجلان. من جهة أخرى لابد من الإشارة أن تركيا قد تصدر عفوًا عامًا لأعضاء التنظيم غير المتورطين بجرائم، مقابل تخليهم عن العمل المسلح، بينما القادة قد تتم محاكمتهم ثم منحهم عفوًا رئاسيًا لاحقًا.

كلمة أخيرة

لا شك أن التطورات الأخيرة في ملف "الإرهاب" في تركيا قد منحت الأمل للحكومة التركية في السعي لتحقيق هدفها التي أعلنت نيتها تنفيذه في المئوية الثانية للبلاد، والمتمثل في "تركيا خالية من الإرهاب"، ولعل الخطوات الفعلية الجادة من قبل تنظيم حزب العمال الكردستاني قد ساهمت في صنع "مخرجات" خطاب الرئيس التركي بهذا الشكل الذي أعجب الكثيرون ممن ترقبوا هذا الخطاب، وبالطبع تشير المعطيات الحالية إلى استمرار الأجواء الإيجابية التي تتقدم على إثرها "المصالحة الكردية" بخطى ثابتة نحو التمام والكمال، ولكن تبقى دعوة الاتحاد بين (الأتراك والأكراد والعرب) التي أطلقها "أردوغان" هي الهدف الأهم في هذا المسار؛ لأنه لو حدث فعليًا وواقعيًا ستتغير موازين قوى الشرق الأوسط، رغمًا عن أهواء ورغبات الدول العظمى التي تضع الآن خرائط جديدة للمنطقة وتريد فرضها على الجميع.

أعلى