• - الموافق2025/07/08م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الوجه الصهيوني لـ BBC ونهاية أسطورة الإعلام المهني!  حظر وثائقي

الإعلام الغربي هنا ليس مجرد ناقل للخطاب السياسي، بل شريك فاعل في إعادة إنتاجه، في ترسيخ الانزلاق البلاغي الذي يُجرّم الضحية، ويبرئ الجلاد. وهو بذلك يُمكّن لخطابات الكراهية والعنصرية ويمنحها غطاء شرعيًا في وعي الجمهور الغربي


في زمن تُقصف فيه المستشفيات وتُعدم فيه الكوادر الطبية ميدانيًا، لم تعد الجريمة هي القصف وحده، بل في إخفاء صورته، وفي دفن الشهادة، وفي تكميم أفواه من وثّقوا المجزرة. هذا بالضبط ما جرى مع الفيلم الوثائقي البريطاني "غزة: أطباء تحت الهجوم"؛ عمل صحفي نادر يصرخ بالحقيقة وسط بحر من الصمت المبرمج، لكنه اصطدم بجدار "الحياد المزعوم" لدى هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي قررت بعد طول تردد أن تمنع بث الفيلم الذي أنتجته لصالحها، بينما تولّت القناة الرابعة البريطانية مهمة عرض ما لا يُحتمل عرضه في دهاليز الإعلام الرسمي.

الفيلم، الذي أنتجته شركة "بيسمنت فيلمز" وخضع لمراجعة قانونية وتحريرية صارمة، يُوثّق بوقائع دامغة الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق العاملين في قطاع الصحة في غزة. شهادات حيّة، مشاهد مروعة، وحقائق لا لبس فيها: الأطباء يُستهدفون عمدًا، يُعتقلون ويُعذبون، وتُقصف المشافي فوق رؤوس الطواقم والجرحى. الباحثة في منظمة العفو الدولية، بدور حسن، تؤكد بالفيلم أن ما يحدث هو سياسة ممنهجة تهدف إلى تدمير منظومة الحياة في غزة بالكامل، عبر شلّ القطاع الطبي وتصفيته من الداخل.

في بريطانيا، حيث تُقدّم هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) نفسها كرمز للحياد والاحتراف، تتوالى الفضائح التي تفضح انحيازها الممنهج والمزمن لصالح إسرائيل، لدرجة دفعت كثيرين إلى التساؤل: هل تحولت بي بي سي إلى ذراع إعلامية صهيونية، حتى دون أن تعلن ذلك رسميًا؟

الأدلة كثيرة، والاحتجاجات متصاعدة من داخل المؤسسة وخارجها. ففي نوفمبر 2024، رفع أكثر من 300 من موظفي بي بي سي رسالة احتجاج مفتوحة لإدارتهم، اتهموا فيها الهيئة بتغطية منحازة ضد الفلسطينيين، وبطمس الرواية الإنسانية لحصار غزة، وبتقديم السرد الإسرائيلي كحقيقة موضوعية. لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، إذ سبقتها وقائع كثيرة؛ منها حذف وثائقي عن الأطفال في غزة بعد اعتراضات من السفارة الإسرائيلية، وتجميد بث فيلم "غزة: كيف تنجو في محور الحرب"، ثم الفضيحة الأكبر: منع بث فيلم "غزة: أطباء تحت الهجوم"، رغم أنه من إنتاج داخلي.

 

كل هذه الوقائع تشير إلى نمط تحريري لا يمكن تفسيره فقط بالحذر المؤسسي، بل يُفهم ضمن سياق أعمق: حماية الرواية الإسرائيلية، وتجنب إثارة سخط اللوبيات المؤيدة لتل أبيب. وحتى حين يُنتقد الإعلام البريطاني على هذا الانحياز، غالبًا ما يأتي الرد باتهام الطرف الآخر بـ"معاداة السامية" أو "التحريض"، وهو ما يجعل من مجرد الدفاع عن الضحية الفلسطينية عملاً محفوفًا بالمخاطر المهنية.

هذه السياسة التحريرية المشوّهة لم تمر بهدوء، إذ أفادت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية بأن القائمين على الفيلم شعروا أنهم ضحية لابتزاز سياسي مقنّع داخل هيئة الإذاعة. رفضت الإدارة الفيلم بحجة "الحياد"، بينما كانت في الواقع تتلقى ضغوطًا شديدة من أطراف حكومية ولوبيات داعمة لإسرائيل. الصحفي البريطاني بيتر أوزبورن وصف ما جرى بأنه انهيار كارثي لاستقلالية المؤسسة، مشيرًا إلى أن "الرقابة الذاتية التي تمارسها بي بي سي في ما يخص إسرائيل، غير مسبوقة حتى بمقاييس الإعلام الحكومي".

دراسات تحليلية أظهرت كيف تستخدم بي بي سي لغة تحابي إسرائيل. مقارنة أجريت في جامعة بريطانية حول استخدام المصطلحات، بيّنت أن "بي بي سي" تستعمل مفردات مثل "هجوم" و"مجزرة" عند الإشارة إلى عمليات ضد الإسرائيليين، لكنها تستخدم كلمات أقل حدة أو محايدة عند الحديث عن ضحايا غزة. ولعل الأخطر، أن التقرير السري المعروف بـ"تقرير بالين" (2004)، الذي طُلب لتحليل مدى التحيز في تغطية بي بي سي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يُنشر حتى اليوم، رغم المطالبات العديدة بكشف مضمونه.

وفي خلفية هذه المعطيات، تظهر مؤشرات متنامية على أن إدارة بي بي سي، خصوصًا في عهد مديرها العام الحالي تيم ديفي، باتت تخضع لتأثيرات سياسية أعمق، منها وجود شخصيات داخل مجلس إدارتها على صلة بمؤسسات إعلامية موالية لإسرائيل، مثل روبّي جيب، الذي شغل منصبًا قياديًا في صحيفة "جويش كرونيكل" ذات التوجه الصهيوني، ودعت أكثر من 400 شخصية إعلامية لإقالته.

الضغوط لم تكن فقط من داخل المؤسسة، بل وصلت إلى الشارع والرأي العام. آلاف البريطانيين وقّعوا عرائض احتجاجية تطالب بي بي سي بالعدول عن قراراتها الرقابية، ووسائل إعلام بديلة مثل القناة الرابعة البريطانية، أخذت على عاتقها مسؤولية عرض ما امتنعت بي بي سي عن بثه، كما في حال الفيلم الوثائقي "غزة: أطباء تحت الهجوم"، الذي عُرض في يوليو 2025 وسط ضجة كبيرة، وردود فعل شعبية وإعلامية حماسية.

كل هذه الوقائع تشير إلى نمط تحريري لا يمكن تفسيره فقط بالحذر المؤسسي، بل يُفهم ضمن سياق أعمق: حماية الرواية الإسرائيلية، وتجنب إثارة سخط اللوبيات المؤيدة لتل أبيب. وحتى حين يُنتقد الإعلام البريطاني على هذا الانحياز، غالبًا ما يأتي الرد باتهام الطرف الآخر بـ"معاداة السامية" أو "التحريض"، وهو ما يجعل من مجرد الدفاع عن الضحية الفلسطينية عملاً محفوفًا بالمخاطر المهنية.

لا توجد وثيقة تثبت أن بي بي سي مؤسسة صهيونية أيديولوجيًا، لكنّ سلوكها التحريري، وانتقائيتها في عرض الروايات، وخضوعها للابتزاز السياسي، ورفضها المتكرر لمنح الفلسطينيين مساحة إنسانية كاملة، كلها مؤشرات تجعل هذا الوصف ليس تجنيًا، بل قراءة واقعية لهيئة فقدت شجاعتها الأخلاقية. وإذا كان تعريف "الصهيونية الإعلامية" هو الانحياز المستمر لإسرائيل والتواطؤ مع جرائمها عبر تغييب الضحية، فإن بي بي سي اليوم، بكل ما تمارسه من رقابة وازدواجية، تستحق أن تُسأل بجدية: هل ما زلتم إعلامًا عامًا؟ أم مكتبًا للعلاقات العامة لدولة الاحتلال؟

المنتج المنفذ للفيلم، بن دي بير، كشف كيف حاولت "بي بي سي" التعتيم على العمل، ليس فقط برفض بثّه، بل بمحاولة فرض "بند سرية مزدوجة" على فريقه لمنعهم من الحديث علنًا. رفض التوقيع، واتهم المدير العام تيم ديفي بالتدخل المباشر لإسكات الصحفيين، قائلاً إن ما جرى ليس قرارًا تحريريًا، بل تواطؤ سياسي. وقد فجّر قراره موجة غضب داخل المؤسسة نفسها؛ أكثر من 300 موظف سلّموا إدارة "بي بي سي" رسالة احتجاج يتهمونها بالانحياز ضد الفلسطينيين والرقابة السياسية والانبطاح للوبيات الضغط.

ورغم محاولات التملّص، كانت الحقيقة أثقل من أن تُخفى. القناة الرابعة البريطانية أعلنت بث الفيلم يوم 2 يوليو/تموز، مؤكدة التزامها بـ"الصحافة الجريئة" وبعد مراجعة شاملة لمحتواه. مديرة الأخبار بالقناة، لويزا كومبتون، وصفت العمل بأنه "منتَج بدقة متناهية" ويحمل "أدلة على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي"، بينما رحّب الجمهور البريطاني بهذه الخطوة، واعتبرها تحديًا نادرًا لمنظومة التواطؤ الإعلامي التي باتت تسود تغطية الشأن الفلسطيني.

الفضيحة الإعلامية لا تقف عند هذا الحد. صحيفة "الإندبندنت" كشفت أن بي بي سي ماطلت لأشهر، رغم حماس فريقها التحريري للفيلم، منتظرة كما قيل رأي هيئة "أوفكوم" التي أكدت مهنية العمل، قبل أن تتخذ القرار "الغامض" بإلغائه. ويبدو أن سابقة مشابهة كانت ماثلة في الأذهان؛ فقد سبق للهيئة أن حذفت فيلماً عن مأساة أطفال غزة بعد غضب السفارة الإسرائيلية، وتذرعت لاحقًا بأن راوي الفيلم "مرتبط بحماس"، في تبرير أثار موجة توقيعات تجاوزت الألف من إعلاميين بريطانيين ودوليين.

السجال بلغ ذروته حين كشف الطبيب البريطاني غريم غروم، الذي عمل في مستشفيات غزة، أن "المعاناة هناك ليست مادة جدلية، بل حقيقة صلبة لا يجب تجاوزها"، مشيرًا إلى أن الأطباء الأجانب حلّوا مكان الصحفيين الذين منعتهم إسرائيل من دخول القطاع، فصاروا هم رواة المجزرة. في المقابل، تستمر "بي بي سي" في التذبذب بين اعتذارات للإسرائيليين وموازنات حسابية بين القاتل والضحية، بلغت حد الاعتذار عن هتافات ضد جيش الاحتلال أطلقتها فرقة "بوب فيلان" في مهرجان غلاستنبري.

في ظل هذا كله، يصف رئيس رابطة الجالية الفلسطينية في بريطانيا، نهاد خنفر، المشهد بأنه حملة متصاعدة لمحاصرة الرواية الفلسطينية، وقمع حركة التضامن المتزايدة، مشيرًا إلى أن بي بي سي تمارس رقابة ذاتية مريبة، وتتواطأ بوعي أو بدون مع خطاب رسمي يساوي بين الضحية وجلادها، بل ويُسكت حتى من يعبر عن موقف إنساني سلمي تجاه المجزرة.

المفكر الأمريكي مالكوم إكس كان قد نبّه مبكرًا إلى هذا الدور حين قال: "إذا لم تنتبه، ستجعلك الصحف تكره المظلومين وتحب من يظلمهم." هذا تمامًا ما فعلته كبرى المؤسسات الغربية حين نقلت مزاعم إسرائيل عن "العنف الجنسي" المزعوم في 7 أكتوبر بلا تمحيص، ثم تجاهلت تقارير أممية دامغة تدين الاحتلال بانتهاكات جنسية ممنهجة ضد نساء غزة.

الكاتب والمحلل الفلسطيني رمزي بارود أشار بوضوح إلى أن "الحروب الإسرائيلية الدموية ضد غزة ممكنة فقط بفضل سيل لا يتوقف من التضليل الإعلامي وسوء التمثيل الصحفي"، بينما علّق الأكاديمي الأميركي أسعد أبو خليل على حالة بي بي سي قائلاً: "الصهاينة يريدون إسكاتنا، والمؤسسات الإعلامية صارت تنفذ المهمة طوعًا.".

أما "سارة" الصحفية السابقة في BBC، فاختصرت مأساة الحياد الزائف بقولها: "في كل التغطيات، نلاحظ أن المتحدثين باسم فلسطين يتعرضون للرقابة، بينما يُمنح الناطقون الإسرائيليون الحرية الكاملة."

الناشط الحقوقي الأممي المستقيل كريغ موخيبر لم يتردد في توصيف ما يجري بأنه: "لحظة تاريخية، أصبح فيها الإعلام الغربي فعليًا جزءًا من آلية الإبادة الجماعية."

فإذا كانت هذه الشهادات تأتي من قلب المؤسسات الغربية ومن شخصيات لا تُحسب على أي معسكر عقائدي، فإنها تكشف دون مواربة أن ما جرى للفيلم الوثائقي ليس استثناءً، بل قاعدة مستترة: قاعدة تقول إن كل حقيقة تُخالف رواية القوة، تُقصى، وتُدفن.

وهكذا، صار الحياد الذي تتغنّى به BBC، أشبه بمزحة سوداء، لا تُضحك أحدًا في غزة. وإلى أولئك الشباب الحالمين بالتحوّل إلى "فرسان الحقيقة"، أولئك الذين يدفعون أموالهم وأعمارهم وهم يظنون أن الصحافة رسالة مقدسة: لا تخدعكم الأوهام. هذه المهنة، حين تُفرغ من قيمتها الأخلاقية، لا تكون سوى أداة في يد الأقوى. وحين تصمت عن المذبحة، وتحتفي بالزينة، فإنها تتماهى مع أدوات التجميل التي تزيّن وجه قاتل في حفلة تنكرية.

في زمن الحرب على غزة، سقط قناع الإعلام التقليدي الغربي نهائيًا، وظهر وجهه العاري بوصفه جهازًا أيديولوجيًا للدولة، لا يختلف كثيرًا عن منابر الدعاية الرسمية، وإنْ تلحّف برداء "الاستقلالية" و"الاحتراف المهني". فباسم المهنية، وبذريعة التوازن، يواصل هذا الإعلام تأطير وعي الجمهور الغربي، عبر اختيار الأسئلة المسموح بها، وتحديد زوايا التغطية، والتعتيم الممنهج على كل ما لا يخدم السردية الإسرائيلية تلك السردية التي تبرر القصف، وتُسبغ على المجازر صفة الدفاع عن النفس.

الإشكال لم يعد مجرد صمت على المجازر، بل مشاركة فعلية في بناء خطاب ناعم يغسل جرائم الإبادة، ويحوّل المجرم إلى ضحية. هذه البلاغة الإمبريالية التي ظن العالم أنه تجاوزها، عادت عبر ألسنة السياسيين والإعلاميين الغربيين بلا خجل.

الإعلام الغربي هنا ليس مجرد ناقل للخطاب السياسي، بل شريك فاعل في إعادة إنتاجه، في ترسيخ الانزلاق البلاغي الذي يُجرّم الضحية، ويبرئ الجلاد. وهو بذلك يُمكّن لخطابات الكراهية والعنصرية ويمنحها غطاء شرعيًا في وعي الجمهور الغربي. فحين تتكرس هذه اللغة في القنوات المركزية، من البي بي سي إلى سي إن إن إلى دير شبيغل، فإنها لا تبقى مجرّد "وجهة نظر"، بل تتحوّل إلى مرجعية خطابية تُشكّل الإدراك الشعبي وتصنع التحيز اللاواعي لدى ملايين المتلقين.

غزة ليست مجرد قضية، إنها مرآة العالم. وكل يوم تُقصف فيه وتُذبح فيه الحقيقة معها، يتعرى هذا النظام الإعلامي العالمي أكثر فأكثر. لسنا بحاجة إلى المسيخ الدجال لنعرف الزيف، فنشرات الأخبار نفسها باتت كافية لتأكيد أن هذا النظام أعور، لا يرى إلا ما يوافق مصالحه، ولا يتأثر إلا بما يخص نخبه. أما الدم الفلسطيني، فهو في عرفهم مجرد خلفية ضبابية لا تستحق حتى وقفة مذيع.

لقد سقطت آخر أوراق التوت، ولم يبق شيء يستحق الإشادة سوى صمود من لا يملكون إلا الحقيقة.

أعلى