هل جاءت تصريحات نتانياهو عن "إسرائيل" الكبرى مصادفة؟ أم صدرت في خضم استراتيجية جديدة للكيان بعد اندلاع حرب طوفان الأقصى؟ وإلى من يتم توجيهها؟ هل إلى الجمهور الصهيوني في فلسطين؟ أم إلى دول الإقليم؟ أم إلى العالم كله؟
في خضم وصول حرب غزة إلى لحظة حاسمة، حيث لاتزال المقاومة الفلسطينية تخوض حرب
عصابات ناجحة، وفي ظل عجز صهيوني عن تفكيك الفصائل المسلحة الفلسطينية، ولم يعد
يملك إلا قصف أهالي غزة واستمرار حملة الإبادة والتجويع... في وسط هذا كله فاجأ
رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو الجميع بتصريحات أثارت المنطقة،
وأعادت إلى الأذهان الدعاوى التي طالما رددتها دولة الاحتلال منذ قيامها، وهي السعي
إلى الوصول إلى "إسرائيل الكبرى".
فقد قال رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو في حديث تليفزيوني، إنه يشعر بأنه
في مهمة تاريخية وروحية، وأنه متمسك جدًا برؤية "إسرائيل" الكبرى، التي تشمل
الأراضي الفلسطينية، وربما أيضاً مناطق من الأردن ومصر وسوريا وحتى السعودية، بحسب
صحيفة تايمز أوف إسرائيل.
وذكرت الصحيفة أن مُحاور قناة i24
الإسرائيلية، شارون غال الذي أجرى الحوار مع نتانياهو، والذي كان لفترة وجيزة عضواً
يمينياً في الكنيست، أهدى نتنياهو تميمة على شكل خريطة الأرض الموعودة، وعندما سأل
نتانياهو عن مدى ارتباطه بهذه الرؤية لـ"إسرائيل" الكبرى، أجاب نتنياهو: بالتأكيد.
وليس أدل على خطورة تصريحات نتانياهو تلك، في خروج بيانات إدانة وشجب لها من أكثر
من ٣١ دولة عربية وإسلامية، معتبرة أن تلك التصريحات تهدد الأمن القومي العربي،
والسلم الإقليمي والدولي، على حد تعبير بعض تلك البيانات.
ولكن الأسئلة التي تخطر على المرء بعد سماع تصريحات نتانياهو تلك، تتعلق بتوقيتها
وبمغزاها.
فهل حديث نتانياهو عن "إسرائيل" الكبرى الآن جاء مصادفة؟ أم صدر في خضم استراتيجية
جديدة للكيان بعد اندلاع حرب طوفان الأقصى؟
وإذا كانت تلك التصريحات رسالة سياسية من حكومة الكيان، فإلى من يتم توجيهها؟ هل
إلى الجمهور الصهيوني في فلسطين؟ أم إلى دول الإقليم؟ أم إلى العالم كله؟ خاصة في
وسط احتجاجات دولية غير مسبوقة على الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان تجاه أهل
غزة، بغرض كسر إرادتهم وإجبار المقاومة على الخضوع لشروطه؟
|
طغى الفكر اليساري الصهيوني بزعامة رابين وبيريز وباراك على الحلم الصهيوني،
والذي يدعو إلى إقامة قلعة أو مركز للسيطرة؛ هذا المركز له درع عسكري تحت
مظلة نووية، قادر على توجيه الضربات إلى أي عضو في النظام الإقليمي يفكر في
الخروج عن هذه الهيمنة |
للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا دراسة أهداف المشروع الصهيوني واستراتيجياته وموقع
مشروع "إسرائيل" الكبرى فيه.
ثم تحليل الموقف الحالي الصراع في غزة، لاستنباط السياق الذي تم فيه إعادة طرح هذا
المشروع مرة أخرى.
حدود الدولة اليهودية
إحدى الإشكاليات الكبرى التي تواجه اليهود منذ أن توحدت جهودهم على إقامة دولة لهم
في فلسطين هي: حدود هذا الوطن اليهودي.
فبعض اليهود أطلقوا على هذا الحلم "إسرائيل الكبرى" بداية من الاعتقاد اليهودي
بالوعد بهذه الأرض في التوراة؛ ثم اختلفوا حول حدود هذه الدولة المزعومة، هل هي
الحدود الواقعة من النيل إلى الفرات؟ أم هي حدود الخروج من مصر؟ أو هي حدود أماكن
استيطان القبائل اليهودية؟
ولكن في عمق هذه الأسئلة، يبرز التفريق بين حدود داود وسليمان، وحدود ما يزعمون أنه
الهيكل الثاني.
هذا الاعتقاد ما زال موضع نقاش وخلاف حتى هذا اليوم، حول الحدود المطلوبة لأرض
"إسرائيل الكبرى" بحسب الاعتقاد الديني اليهودي.
فمثلا قد كان هناك الكثير ممن دعوا إلى احتلال الأراضي اللبنانية ومنهم حنان بورات
من حزب المفدال إبان اجتياح الأراضي اللبنانية عام 1978م، ومنهم حركة غوش أمونيم
التي دعت إلى احتلال هذه الأراضي، على أساس أنها كانت حدود القبائل الخارجة من مصر،
وأن هذه الأراضي هي تكملة لحدود أرض "إسرائيل" الكبرى وهي أراضٍ مقدسة. إلا إنه في
ذلك التوقيت تدخل الحاخام تسفي يهودا كوك ومن بعده الحاخام أبراهم شابيرا اللذين
اعتبرا أن الكيان الصهيوني دخل لبنان، من أجل ترتيب الأوضاع الأمنية وليس من أجل
ترتيب حدود الدولة الصهيونية.
كما تبنت حركة حيروت بزعامة مناحيم بيجن حدود الانتداب وهي أرض إسرائيل من ضفتي نهر
الأردن.
ولكن اللافت للنظر، أنه عندما سأل أحد الصحفيين دافيد بن جوريون رئيس وزراء دولة
الاحتلال الأسبق وأحد مؤسسي الكيان الصهيوني عن حدود الدولة، فأجاب بأنها حدود
ديناميكية، أي متحركة وليست ثابتة!
وعلى نفس المسار، وفي عام 1982م عندما اجتاح شارون لبنان، سأله صحفي غربي عن حدود
الكيان الصهيوني بعدما استقرت آلة حربه في بيروت فقال شارون: إنه المكان الذي تتوقف
فيه الدبابة "الإسرائيلية" ولا يمكنها التقدم أكثر تلك هي حدود 'إسرائيل". وهذا
يعني أن دولة الكيان الصهيوني فكرة توسعية وليست حدوداً جغرافية.
ولكن في أوائل التسعينات وطوال ذلك العقد،
طغى الفكر اليساري الصهيوني بزعامة رابين وبيريز وباراك على الحلم الصهيوني، والذي
يدعو إلى إقامة قلعة أو مركز للسيطرة؛ هذا المركز له درع عسكري تحت مظلة نووية،
قادر على توجيه الضربات إلى أي عضو في النظام الإقليمي يفكر في الخروج عن هذه
الهيمنة.
واستمد هذا التيار اليساري الصهيوني هذه الفكرة من مخططات الزعيم الصهيوني القديم
جابوتنسكي، صاحب الحركة التصحيحية في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي دعا فيها
إلى إقامة كومنويلث عبري تكون فيه إسرائيل القوة الإقليمية العظمى، والتي تدور في
فلكها دويلات عربية ضعيفة مقسمة على أسس عرقية وطائفية.
ويقول ناحوم جولدمان رئيس الوكالة اليهودية عام 1952: إن "إسرائيل" لا يمكنها أن
تقوم داخل قلعة محصنة في محيط عربي، ولا يمكنها أن تظل معتمدة على السيف وحده، وأنه
لا وجود لـ"إسرائيل" على المدى الطويل إلا إذا ارتبطت بالمنطقة، وأقامت جسوراً من
التعاون مع العرب لتضمن الخروج من حالة الحصار إلى حالة الامتداد والانتشار
والاندماج في نظام إقليمي.
ومن هنا جاءت اتفاقية أوسلو وإقامة سور يحصن المناطق اليهودية في فلسطين، والغريب
أن شارون اليميني المتطرف قد اقتنع بهذا الفكر، وأعلن انسحابه من غزة.
ولكن الذي أوقف مشروع "إسرائيل العظمى" كما كان يحلم به اليسار الصهيوني، هو رفض
الفلسطينيين تقاسم القدس، وخاصة منطقة المسجد الأقصى، وفي نفس الوقت أصر زعماء
اليسار، على أنه ليس هناك دولة للفلسطينيين بل حكم ذاتي، هنا اندلعت الانتفاضة
الفلسطينية، فأسقطت مشروع "إسرائيل العظمى" وسقط معه اليسار الصهيوني، ليعود اليمين
للحكم ومعه يعود حلم "إسرائيل الكبرى" وهو المشروع الذي أتى بنتنياهو لحكم الكيان
حتى الآن، أي منذ عشرين عاما.
|
ونحن نقترب من سنتين من القتال
الدامي في غزة، وعلى الرغم من حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني
بوحشية على أهل غزة، ظهر عجز الكيان عن هزيمة المقاومة والتي تخوض حرب
عصابات ناجحة من خلال شبكة الانفاق |
لذلك كانت من أهداف نتانياهو فور توليه الأمور في دولة الاحتلال، عرقلة تنفيذ أوسلو
بقدر الإمكان وتدريجيا، ورسم مخططات على مدى متوسط لتفريغها من مضمونها، ومن ثم
الإجهاز عليها.
ليكشف عن نواياه الحقيقية بعد الطوفان ويعلنها صريحة حلمه بـ"إسرائيل الكبرى".
ولكن لماذا اختار نتانياهو هذا التوقيت بالذات؟
الطوفان وظهور النوايا الحقيقية
قبل الطوفان بأسبوعين وبالتحديد في 22 سبتمبر 2023، فاجأ نتانياهو الجمعية العامة
للأمم المتحدة بعرضه خريطة إسرائيل الكبرى، وشملت الخريطة التي أظهرها نتنياهو
مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع الكيان
الصهيوني، أو تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقات سلام مع الكيان.
وقبل ذلك بعدة شهور، شارك بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية (اليميني
القومي الديني) رسميًا في الحكومة عند أداء حكومة نتنياهو اليمين يوم 29 ديسمبر
2022، حيث تولى منصب وزير المالية.
ومن المعروف أن سموتريتش له مواقفه المتشددة والتي تريد تحقيق الحلم الصهيوني، ففي
عام 2016، وكان حينها عضوا في الكنيست، وفي مقابلة تلفزيونية دعا إلى أن "حدود دولة
الكيان يجب أن تمتدّ لتشمل دمشق، إضافة إلى أراضي 6 دول عربية هي سوريا ولبنان
والأردن والعراق وجزء من مصر ومن السعودية، لتحقيق الحلم الصهيوني من النيل حتى
الفرات."
وفي مارس 2023، أثناء توليه وزارة المالية جدد تلك الطروحات، خلال خطاب في باريس
وكانت على المنصة التي يقف عليها خريطة تشمل أرض الكيان، في إشارة إلى أن دولة
الاحتلال تتكون من فلسطين التاريخية والأردن.
ولكن
ونحن نقترب من سنتين من القتال الدامي في غزة، وعلى الرغم من حرب الإبادة التي
يشنها الكيان الصهيوني بوحشية على أهل غزة، ظهر عجز الكيان عن هزيمة المقاومة والتي
تخوض حرب عصابات ناجحة من خلال شبكة الانفاق،
والتي لا يستطيع الكيان ومعه إمكانيات الغرب التكنولوجية كلها من أن يحل شفرتها أو
يكتشف خرائطها.
ويبرز الصحفي الصهيوني سامي بيرتس في صحيفة هآرتس هذا الفشل فكتب يقول:
إن عملية عربات جدعون (آخر عملية للجيش الصهيوني في غزة) هي فشل
ذريع كلّف خزينة الدولة 25 مليار شيكل (نحو 7.5 مليار دولار).
والحقيقة التي لا تقبل الشك أن نتانياهو في مأزق حقيقي منذ اندلاع الطوفان.
فالرجل وضع أمام جماهيره ومؤيدوه هدفين للرد على الطوفان: القضاء على حماس، وإخراج
جميع الأسرى.
وواقعيا لم يستطع تحقيق أي من الهدفين.
لذلك لجأ إلى المناورة والذهاب إلى جبهات أخرى، وافتعال صورة للنصر فيها.
فدمر تقريبا حزب الله بعد أن اغتال قياداته، واجتاح الجنوب وفرض شروطه على الجميع،
ثم استدار إلى إيران وحاول أن يدمر برنامجها النووي، ونجح بالفعل في اغتيال قيادات
الجيش والحرس الثوري الإيراني، وسيطر على السماء الإيرانية بعد أن قضى على دفاعها
الجوي.
وكان يريد الإجهاز الكامل على إيران، ولكن الولايات المتحدة أوقفته، لأنها لا تريد
القضاء على نظام الملالي في إيران، وتريد فقط تهذيب طموحه في محاولته تزعم المنطقة،
فكان لابد من قصقصة أجنحته فقط.
ولذلك عندما أدرك نتانياهو أن حربه مع إيران تم وقفها، ولم يعد يجد ما يلهي به
جمهوره عن عجزه في غزة، فبدأ عملية عربات جدعون، ولكنها فشلت أيضا، وظهر عجزه عن
القضاء على المقاومة، فاتجه لإطلاق تصريحاته بسعيه لإحياء حلم إسرائيل الكبرى،
وكأنه يحاول تجميع اليهود حوله بإيقاظ حلمهم القديم، خاصة أن هناك ضغوطًا غربية
لإيقاف الحرب في غزة، وستبرز فشله فكان لابد من يافطة أو راية يشد انتباه اليهود
بعيدا عن اخفاقاته.
وهنا ينبري المستشرق الصهيوني المعروف بمواقفه المؤيدة لليمين الصهيوني، وهو
الدكتور مردخاي كايدر مدافعا عن كلام نتنياهو، قائلا: "هذا ليس جديدًا... كان والده
(يقصد والد نتانياهو) مؤرخًا وكتب بإسهاب عن تاريخ الشعب اليهودي وحقه في أرض
أجداده". وأكد أن نتنياهو، مثله مثل معظم الجمهور اليهودي، "مُشبع بروح" العودة إلى
أرض أجداده بعد ألفي عام من النفي.
ولكن محاولات نتانياهو استحضار نبوءة تلمودية ببناء إسرائيل الكبرى بامتداد 2100
كيلو متر من النيل إلى الفرات، هي أيضا ستبوء بالفشل، لأنه في الحقيقة عاجز منذ
سنتين أن يهزم المقاومة في غزة ويقضي عليها، وهي تنتشر في مساحة 365 كم مربع، وهي
مساحة غزة.
فمصير نتانياهو وسقوطه الذي ينتظره لا يجديه أي التفاف أو تصريحات، وستكون نهايته
كنهاية الطغاة ومجرمي الحرب الذين سبقوه، وغصت بها كتب التاريخ البعيد والقريب.