لم يعد التحول في سلوك إسرائيل مجرد تفصيل عابر في سجلها الدموي، بل أصبح استراتيجية كاملة: من إنكار الرواية الفلسطينية وتسويقها كخرافة، إلى شيطنة من يرويها واتهامه بالدعاية، وصولًا إلى القرار الأكثر عنفًا ونهائية… إعدام الأصوات ذاتها.
إسرائيل انتقلت من تكذيب الرواية الفلسطينية إلى إعدام رواتها، كمن يكتشف أن
المشكلة ليست في الرواية، بل في وجود من يجرؤ على روايتها. ومنذ ذلك الحين، صار
الصحفي على الجبهة هدفًا يساوي في الأهمية قائد الكتيبة، وصارت الصورة أخطر من
القذيفة، وصار الشاهد العيان مشروع جريمة جديدة.
هذه ليست حربًا على غزة فقط…
إنها حرب على الذاكرة، على الشريط الأخير الذي يثبت أن كل هذا حدث حقًا، وعلى آخر
عين ترى قبل أن تغمض إلى الأبد.
الصحفي بات هدفًا عسكريًا، والمصور صار أخطر من المقاتل، والناشط يُعامل كقنبلة
موقوتة. هنا تتضح أبعاد سياسية تسعى إلى محو الشهادة من الوجود، وعسكرية تعتبر
الكلمة جبهة مفتوحة لا تقل خطورة عن ساحة القتال، وإعلامية تدرك أن صورة واحدة قد
تهزم كتيبة كاملة من الأكاذيب.
من دعاية الهاسبارا إلى الرصاص
منذ النكبة وحتى الانتفاضات، اعتمدت إسرائيل استراتيجية إعلامية تقوم على الإنكار
أولًا، ثم التشويه، ثم إسكات الأصوات. في البداية أنكرت وجود النكبة نفسها، وقدّمت
عبر دعايتها الرسمية، المعروفة بالهاسبارا، رواية مقلوبة تزعم أن الفلسطينيين
غادروا أرضهم طوعًا أو بفعل حروب العرب. ومع الانتفاضة الثانية ظهر أسلوب أكثر
وضوحًا، يقوم على عكس الاتهامات كما حدث في جنين عام 2002، حيث اتهمت الفلسطينيين
باختلاق المجازر بينما كانت التقارير الحقوقية توثق الدمار والقتل.
ومع مرور الوقت صار تبديل السرديات سياسة ثابتة، كما في قضية اغتيال شيرين أبو
عاقلة، حيث غيّرت إسرائيل روايتها أكثر من مرة: مرة تحمل الفلسطينيين المسؤولية،
ومرة تتحدث عن "احتمال" خطأ فردي، ثم تترك المشهد ضبابيًا يبدد الغضب الدولي من دون
اعتراف أو محاسبة. ومع كل حرب على غزة، انتقل الاستهداف من الرواية نفسها إلى
الرواة، فأصبح الصحفيون والمصورون والناشطون أهدافًا مباشرة. وقد شهد عام 2023
و2024 أعلى معدلات لقتل الصحفيين في العالم داخل غزة، معظمهم فلسطينيون، واستمر
المسار نفسه في 2025 ليشمل ضرب فرق إعلامية كاملة.
|
كشف تقرير لصحيفة الغارديان عن إنشاء وحدة عسكرية إسرائيلية تُدعى "خلايا
الإضفاء الشرعية" تخصصت في وسم الصحفيين الفلسطينيين بأنهم "عناصر من
حماس"، وذلك لتبرير قصفهم إعلاميًا وتقليل الرد الدولي على ذلك. |
تعتمد إسرائيل في هذا كله على حزمة أدوات متكررة: نزع المصداقية عن الشهادة
الفلسطينية بوصفها "دعاية"، ضخ روايات متناقضة تربك المتلقي وتضعف اليقين، تحويل
الصحفي إلى طرف غير محايد، وإعادة صياغة الأحداث في دورة تبدأ بإنكار الجريمة
وتنتهي بتبريرها كخطأ عرضي. هكذا تحول التاريخ الإعلامي للإنكار الإسرائيلي من مجرد
خطاب دعائي إلى منظومة كاملة: تشكك أولًا، تزوّر ثانيًا، ثم تقتل الشاهد قبل أن
تُحفظ الشهادة.
من الحرب على الحقيقة إلى الحرب على الشهود
هذا المحور يُظهر انتقالًا نوعيًا من "الحرب على الحقيقة" إلى "الحرب على الشهود"
عبر نمط متكرر من الاستهداف الموثّق للصحفيين والمصورين الميدانيين. توثّق لجنة
حماية الصحفيين أنّ حرب غزة مثّلت الجهد الأكثر فتكًا وتعمدًا لقتل وإسكات الصحفيين
الذي رصدته منذ تأسيسها، وأن عام 2024 كان الأعنف في تاريخها، مع مقتل ما لا يقل عن
124 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا عالميًا، قُتل نحو ثلثيهم على يد الجيش الإسرائيلي
داخل غزة؛ وهو تحوّل إحصائي وسلوكي يُحيل وظيفة الصحافة في مناطق النزاع إلى مخاطرة
وجودية بحد ذاتها.
في غزة، تتكرر الأنماط ذاتها مع استهداف فرق صحفية بعينها: ففي 7 يناير/كانون
الثاني 2024 قُتل الصحفيان حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا في ضربة جوية بعد مغادرتهما
موقع تصوير، بحسب توثيق
CPJ
وشهادات زملائهما، وفي 10 أغسطس/آب 2025 أعلن
CPJ
مقتل أربعة من طاقم الجزيرة (منهم أنس الشريف ومحمد قريقع) مع اثنين من المستقلين
في ضربة
“محددة”
شمال غزة. هذه الحوادث، مقترنةً بمنع دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة إلا ضمن
ترتيبات عسكرية إسرائيلية، تُظهر كيف انتقلت منظومة السيطرة على السرد إلى إسكات
منتجي الأدلة مباشرةً.
ويتعزز هذا المسار بملفات سبقت حرب غزة الحالية، مثل اغتيال شيرين أبو عاقلة (2022)
حيث أظهرت تحقيقات صحفية وحقوقية تغير السردية الإسرائيلية على مراحل قبل الإقرار
الجزئي بالمسؤولية، وهو ما يتسق مع نهج
“الإنكار
ثم التشويش ثم التبرير”
الذي يسبق أو يرافق الضربات. مجموع هذه الوقائع يؤكد أنّ التحول لم يعد لغويًا أو
دعائيًا فحسب، بل عملياتيًا ممنهجًا: تُستهدف الكاميرا ومن يحملها، ويُدار فضاء
المعلومات بوسيلتين متكاملتين—الحرمان
من الوصول، وتصفية من يبقى قادرًا على الشهادة.
البعد السياسي والعسكري لاغتيال الشهود
في إطار مسعى إسرائيل لطمس جرائم الحرب وتفادي المساءلة الدولية، بات اغتيال
الصحفيين والمصورين أسلوبًا ممنهجًا يخدم أهدافًا سياسية وعسكرية دقيقة. فقد
كشف تقرير لصحيفة الغارديان عن إنشاء وحدة عسكرية إسرائيلية تُدعى "خلايا الإضفاء
الشرعية" تخصصت في وسم الصحفيين الفلسطينيين بأنهم "عناصر من حماس"، وذلك لتبرير
قصفهم إعلاميًا وتقليل الرد الدولي على ذلك.
هذا التزييف الرسمي بات أداة مزدوجة: أولًا، يسهل قتلاً مدبرًا، وثانيًا، يصرف
الأنظار عن الطبيعة الحقيقية للضربات.
الحالات الموثّقة تكشف حجم هذا الاستهداف السياسي.
سياسيًا، استهداف الشهود يخدم اغتيال الحقيقة: تُطمس معالم الجرائم المنظمة، وتختفي
المصادر الميدانية التي توثّق الانتهاكات. قانونيًا، فشل التحقيقات العسكرية
الإسرائيلية في محاسبة المسؤولين يعزز مناخ الإفلات من العقاب. يوضح تقرير
CPJ
أن "آلية التقييم الميداني" التي تعتمدها إسرائيل نادرًا ما تفضي إلى تحقيق جنائي،
رغم توثيق عشرات الصحفيين القتلى، ومنذ عام 2001 لم يُحاكم أي مسؤول واحد عن هذه
الجرائم.
إن هذا التوجه العسكري-السياسي القائم على القضاء الممنهج على "الراوي" بدلًا من
الرواية، يؤسس لمنظومة قمع هادفة: أداة رفض ومحو الوجود الفلسطيني في الحقل المعرفي
والإعلامي. وهكذا، تصبح الكاميرا تهديدًا، والصمت واجبًا مؤسّسًا، ويُقتل الشاهدُ
قبل القصة—ليطمس
من يحمل الحقيقة قبل أن تصل إلى الآخر.
ردود الفعل الدولية وتراجع الثقة في الإعلام الغربي
أفرزت تصفية الشهود—الصحفيين
والمصورين والناشطين—ارتدادًا
دوليًا مركّبًا على مستويين: القانوني–السياسي
والثقة الجماهيرية بالإعلام الغربي. فعلى المستوى الأول، قوبلت عمليات القتل
الأخيرة بإدانات رسمية واسعة من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ورابطة
الصحافة الأجنبية، ولجان ومنظمات صحفية دولية (CPJ
وIPI
وأمنستي)، في سياق توصيف متزايد لهذه الضربات كاستهدافٍ موجّه يقتضي المساءلة، وهو
ما وثّقته وكالة أسوشييتد برس عقب مقتل مراسل الجزيرة أنس الشريف وزملائه في غزة.
هذا التراكم دفع أيضًا منظّمات حرية الصحافة إلى تأطير الظاهرة كمشكلة منهجية: فقد
قدّرت
“مراسلون
بلا حدود”
أن إسرائيل مسؤولة عن نحو ثلث قتلى الصحفيين عالميًا في 2024، مطالِبة بتحقيقات
مستقلة تتجاوز الأطر العسكرية الإسرائيلية الداخلية.
أما على مستوى الثقة العامة، فقد أسهمت الفجوة بين الوقائع الميدانية وبين طريقة
تغطية وسائل إعلام كبرى في تآكل الثقة بالإعلام الغربي. تُظهر بيانات
“تقرير
الأخبار الرقمية 2024”
لمعهد رويترز—استنادًا
إلى 95 ألف مستجيب في 47 سوقًا—اتجاهًا
عامًا لانخفاض الثقة في الأخبار، وتحوّل شرائح متزايدة نحو المنصّات البصرية وصانعي
المحتوى بحثًا عن روايات بديلة أثناء أزمات كحرب غزة، ما يضعف احتكار الشبكات
التقليدية للسرد ويعمّق الشك في تحيّزاتها.
وفي المملكة المتحدة مثلًا، سجّل المنظّم
Ofcom
زيادة ملحوظة في شكاوى
“الحياد
الواجب”
المرتبطة بتغطية إسرائيل/غزة خلال 2023–2024،
كما وثّقت مراكز رصد إعلامية أن واحدًا من كل عشرة شكاوى تلقاها
Ofcom
في 2023 تعلّق بهذه التغطية، وهو مؤشر على انكشاف الانحياز المتصوَّر لدى جمهور
واسع.
هذا التواشج بين الإدانة الحقوقية وتراجع الثقة يعيد صياغة الخطاب الإعلامي العالمي
على نحوٍ ملحوظ: كل حادثة اغتيال تُنتج موجة احتجاجات ويقظة نقدية حول معايير
التغطية والاصطلاحات الإطارية (framing)،
وتزيد الطلب على مصادر محلية أولية ووثائق مرئية غير وسيطة.
النتيجة أنّ تصفية الشهود لا تُسكت القصة بل تُغيّر جمهورها ومنصاتها: تتراجع
الهيمنة السردية لوسائل الإعلام الغربية تحت ضغط الأدلة البصرية والشهادات
المباشرة، وتتعاظم المطالب بآليات تحقيق مستقلة ومساءلة دولية، بما يضع الحكومات
وحلفاء إسرائيل أمام كلفةٍ سياسية متنامية لكل حالة استهداف جديدة.
معركة الذاكرة والوثيقة:
في مواجهة محاولات "محو الذاكرة" عبر تدمير الأرشيفات والمراكز التاريخية، باتت
معركة حفظ الرواية الفلسطينية قائمة على رفع مستوى الحماية الإلكتروني والمجتمعي
للوثائق والشهادات. إذ دُمر أرشيف غزة المركزي في أواخر عام 2023، وهو يحتوي على
مئات السنين من الوثائق والخرائط ذات الصلة بالحياة الفلسطينية، ما اعتبره محللون
واحدًا من أبرز أشكال الاعتداء على الهوية الثقافية والفردية للشعب الفلسطيني.
في رد فعل على هذا التدمير، ازدهرت المبادرات الرقمية التي أعادت بناء الذاكرة عبر
الإنترنت. فمثلاً، منصّة
Palestine Nexus،
التي أُطلقت عام 2020 في الولايات المتحدة، تعمل على جمع الخرائط والوثائق
والمنشورات النادرة من أرشيفات الشرق الأوسط، لتصبح مرجعًا رقميًا مقاومًا للنسيان
الجماعي.
كما أُطلقت مبادرة
Palestinian Stories
في القاهرة، كأرشيف رقمي يحتضن الرسائل والصور وذكريات العائلات الفلسطينية ما قبل
عام 1967، بهدف "إنقاذ فلسطين في الوعي" وإعادة بناء اتصال الأجيال بتراثها.
كما اتجهت الدراسات والأرشيفات الفعلية للوثيقة الشفوية، حيث يضطلع مشروع
Palestine Remembered
بما يزيد على 600 مقابلة مع شهود النكبة أو ورثتها، مصحوبة بخرائط وصور توثّق هذه
الرواية المضادة للاحتلال. إلى جانبه.
ترسم هذه المبادرات معا مستقبل الذاكرة الفلسطينية عبر توسيع قاعدة الشهود،
واستدامة الوثائق، وتصميم أشكال مقاومة بالمعرفة والثقافة. في غياب الأرشيفات
الورقية المهددة بالتدمير، يصبح الأرشيف الرقمي
—بمنصاته
ووجهاته—
الفضاء الوحيد القادر على أن يؤرخ
“الوجود
الفلسطيني”
ويدحض الرواية المضادة للمحو والغياب.
الخاتمة:
تُظهر التطورات الميدانية أن الرواية الفلسطينية لم تُمحَ بحملات التشويه الإعلامي
فحسب، بل أن الإعلان عن استهداف "الراوي" أصبح أقوى من إلغاء الرواية نفسها، حيث
برزت السياسة كأداة لإسكات الصوت قبل الكلمة. تُظهر الممارسات الميدانية أن استهداف
الكاميرات والأنظار، أو تصفية الصحفيين والمصورين، لا يقل تأثيره عما تفعله الرصاصة
في جسم الصحفي؛ فهو يقضي على الوسيط الذي يوثق ويسرد الحكاية قبل أن تصل إلى
العالم.
ومع ذلك، تُعدُّ الذاكرة الجمعية، مدعومة بالأرشيف الرقمي، والمبادرات الحقوقية،
والشهادات الشفوية، أشد مرونة وصموداً من تلك القمعية الرصينة. فكل اعتداء يُسقط
شاهدًا يُضاف إلى السجل الوثائقي الراسخ، ويتحوّل إلى وثيقة إضافية تؤكد أن الحقيقة
لا تُدفن بالرصاص بل تُقَاوَم به—على
الأقل عند من يبقي قادرًا على التذكر والتوثيق.
من منظور المستقبل، لا يبقى سؤال "هل يمكن طمس ذاكرة شعب؟" بقدر ما يصبح السؤال:
"كم من أشكال المقاومة المعرفية تستطيع ذاكرة الأمة إنتاجها في مواجهة محاولات
الطمس؟" والإجابة، وفق ما تثبته التجارب المعاصرة، أن الذاكرة، حين تُنظم في
أرشيفات رقمية، وتُروَّى عبر شهادات شفوية، وتُدعم بممارسات حقوقية، تصبح فعل
مقاومة قائمًا بذاته، يشكّل ثمرة الانتصار البطيء للتوثيق والمعرفة على القمع،
وبدليل أن قوة الذاكرة في مثل هذه السياقات لا تكمن في الحفظ فحسب، بل في قدرتها
على الاستمرارية والتكرار عبر الزمن.