• - الموافق2025/09/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اغتيال الكلمة في غزة.. حين تتحول الصحافة إلى جريمة

منذ بداية العدوان الحالي على غزة في أكتوبر 2023م، أصبح الصحفيون يعيشون حربًا مزدوجة: حرب الميدان وحرب الرواية، لا سيما وأن الكيان الصهيوني لا يكتفي بتدمير البيوت والبنية التحتية، بل يسعى لقتل شهود المذبحة قبل أن ينقلوا الحقيقة.


في غزة لا تُقصف البيوت وحدها؛ تُغتال الكلمة ويُصادَر الشهود. مساء 10 أغسطس 2025م قصفت طائرات الكيان الصهيوني خيمةً إعلامية قبالة مستشفى الشفاء، فأعدمت فريقًا من قناة "الجزيرة"، وهم: أنس الشريف ومحمد قريقع والمصوّرَين إبراهيم زاهر ومحمد نوفل، ومعهم صحفيون مستقلون، في رسالة صريحة: الكاميرا هدف قبل أن تنقل الصورة.

وبعد أيام قليلة فقط، وسّع الاحتلال جريمته باستهداف مجمع ناصر الطبي في خان يونس بغارتين متتاليتين، فارتقى صحفيون جدد بينهم عاملون في وكالات دولية على رأسها "رويترز". وكعادته لجأ الاحتلال إلى ذريعة "الانتماء لحماس" لتبرير المجازر، فيما الحقيقة القانونية لا لبس فيها: الصحفيون مدنيون، واستهدافهم المتعمد جريمة حرب. لكن صمت الأمم المتحدة وتخاذل ما يُسمّى بالمجتمع الدولي يمنح القاتل هوامش إفلاتٍ واسعة. ما جرى لم يكن حادثًا عابرًا بل محطة فاصلة تقول إن المعركة على الوعي صارت جبهة قائمة بذاتها، وإن الصحافة في غزة تحوّلت إلى خط مواجهة مفتوح؛ من يرفع العدسة يرفع الشهادة، ومن يسجّل الرواية يُصبح جزءًا منها.

حرب على الشهود

منذ بداية العدوان الحالي على غزة في أكتوبر 2023م، أصبح الصحفي الفلسطيني يعيش حربًا مزدوجة: حرب الميدان وحرب الرواية، لا سيما وأن الكيان الصهيوني لا يكتفي بتدمير البيوت والبنية التحتية، بل يسعى لقتل شهود المذبحة قبل أن ينقلوا الحقيقة. الصحفي في غزة ليس مجرد ناقل أخبار، بل شاهد على جريمة مستمرة، وصوتٌ يكسر الحصار الإعلامي المضروب على القطاع، لهذا صار استهدافه جزءًا أصيلًا من خطة الحرب، لا نتيجة عرضية لها. ضربة 10 أغسطس الأخيرة على خيمة الإعلام قبالة مستشفى الشفاء، والتي أعدمت فريقًا من الصحفيين، ليست استثناءً؛ بل رسالة مباشرة مفادها أن الكاميرا هدف عسكري في نظر الاحتلال. هذه الجريمة جاءت بعد سلسلة طويلة من القصف الممنهج للمكاتب الإعلامية، والتضييق القانوني، وتعطيل شبكات الاتصال، في محاولة لعزل غزة عن العالم وإسكات أصواتها.

اليوم، يعمل الصحفي الفلسطيني في بيئة تُعامله كجزء من الخصم لمجرد حمله عدسة أو ميكروفون. لم يعد الحديث عن خطر العمل في مناطق نزاع ينطبق هنا، بل عن استهداف متعمد لطمس الأدلة ومنع أي رواية مخالفة للسردية الصهيونية. هذه الحرب على الشهود هي في جوهرها حرب على الوعي، وعلى ذاكرة الضحايا التي يحاول الاحتلال محوها قبل أن تتشكل.

تاريخ أسود من كتم الحقيقة

لم يبدأ استهداف الصحفيين الفلسطينيين مع الحرب الأخيرة؛ بل هو سياسة قديمة، راسخة في سلوك الكيان الصهيوني منذ قيامه على أنقاض فلسطين، الأرقام الأممية ـ على قلّتها ـ تكشف جزءًا من حجم الكارثة؛ فبحسب تقديرات الأمم المتحدة قتل الاحتلال الإسرائيلي ما بين 220 إلى 237 صحفيًا فلسطينيًا في غزة وحدها، وأُصيب أو فقد أثرًا أكثر من 600 شخص مرتبطين بالإعلام، ووفق تقارير اللجنة الدولية لحماية الصحفيين (CPJ)، ارتفع عدد الضحايا إلى 192 على الأقل حتى 10 أغسطس الجاري، من بينهم 184 فلسطينيًا، فيما أكد الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) وقوع 180 ضحية حتى 11 أغسطس، إلى جانب مئات الإصابات وحالات الاعتقال والفقدان.

 

في مواجهة الطوق الإعلامي الذي يفرضه الاحتلال، تصبح الصورة الفلسطينية أكثر من وثيقة؛ هي تهديد استراتيجي، فالعدسة التي ترصد دمار الأحياء، الأطفال الجرحى، وصرخة الجوع، تتجاوز حدود النزاع، وتعيد تشكيل وعي الجماهير

وفي أقل من عام، تحولت غزة إلى أخطر ساحة على الصحفيين منذ بدء التوثيق الحديث، حيث لم تعد سترة الصحافة أو "PRESS" درعًا للحماية، بل علامة استهداف واضحة، في مشهد يفضح نية الاحتلال المعلنة لإسكات أي عدسة أو قلم يوثق جرائمه، وهذا النزيف اليومي هو امتداد لسياسة قديمة لا يزال يمارسها الاحتلال، تحديدًا منذ عام 2000م وثّقت وزارة الإعلام الفلسطينية استشهاد ما لا يقل عن 45 صحفيًا، بينما تؤكد نقابة الصحفيين أن العدد أكبر من ذلك بكثير، وخلال الحروب الأخيرة، ارتفع الرقم بشكل غير مسبوق.

لم تقتصر الحرب على القتل المباشر؛ فالاحتلال دأب على تدمير البنية الإعلامية، وفرض الاعتقال الإداري على الصحفيين، ومصادرة معداتهم، وحجب تصاريح العمل، والتعقب الإلكتروني لمراسلي الميدان، والهدف هنا واحد وهو عزل فلسطين عن العالم، وطمس شهادات الشهود قبل أن تصل إلى ضمير الشعوب.

قانون دولي تُخرسه القنابل

رغم أن القانون الإنساني الدولي واضح وضوح الشمس في المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف تنص على أن الصحفيين في مناطق النزاع يُعاملون كمدنيين ويجب حمايتهم كليًا، وأي استهداف متعمد لهم هو جريمة حرب مكتملة الأركان. قرار مجلس الأمن 2222 لعام 2015 أعاد التأكيد على ذلك، مطالبًا الأطراف المتحاربة بتوفير الحماية للصحفيين والعاملين في الإعلام، ومع ذلك يمضي الكيان الصهيوني في سياساته، مسلحًا بصمت حلفائه، ومطمئنًا إلى أن أقصى ما سيواجهه هو بيان إدانة بلا أثر، ورغم أن ملفات استهداف الصحفيين الفلسطينيين مطروحة أمام المحكمة الجنائية الدولية منذ 2021م بدعاوى من منظمات عديدة مثل "مراسلون بلا حدود"، لكن هناك بطء متعمد للعدالة، ناهيك عن التسييس الذي يحيط بالمحاكم، وهو ما يفتح شهية القاتل على مزيد من الجرائم، إذ يدرك أن المساءلة إن أتت فستكون متأخرة وبلا مفاعيل رادعة.

الأرقام تكشف حجم الفشل الدولي في حماية الصحفيين: منظمات مهنية تؤكد أن حرب غزة الحالية هي الأكثر فتكًا بالصحافة منذ بدء التوثيق، بينما تصرّ اليونسكو على أرقام أدنى بحجة أن إحصاءاتها تقتصر على من قتلوا "أثناء أداء العمل" فقط، متجاهلة من قُصفوا في منازلهم أو على طرق الإجلاء، هذا التباين الإحصائي يخدم الاحتلال، لأنه يسمح له بالمراوغة حول نطاق الجريمة، ويُضاف إلى ذلك اختزال دور المجتمع الدولي في التنديد الخطابي، وحتى الوعود الأوروبية التي تربط صفقات السلاح باحترام القانون الدولي تبقى حبرًا على ورق، طالما أن حكوماتها تواصل تزويد إسرائيل بالقنابل التي تمزق أجساد أهل فلسطين، والصحفيين من بينهم، وفي غياب إرادة حقيقية لفرض العقوبات أو تفعيل المسار القضائي، سيظل القانون الدولي في فلسطين مجرد نصوص تُتلى على أطلال العدسات المحطمة.

لماذا تُخيف الصورة؟

في مواجهة الطوق الإعلامي الذي يفرضه الاحتلال، تصبح الصورة الفلسطينية أكثر من وثيقة؛ هي تهديد استراتيجي، فالعدسة التي ترصد دمار الأحياء، الأطفال الجرحى، وصرخة الجوع، تتجاوز حدود النزاع، وتعيد تشكيل وعي الجماهير، وتدفع الدولة عبر العواصم إلى السؤال عن أخلاقها ومسؤوليتها، الصورة هنا ليست هامشًا بل الخصم الأهم، وليس غريبًا أن القادة الصهاينة يعبرون عن هذا الخوف علنًا، وهنا نسترجع تصريح لـ "دانييل سيمان"، المدير السابق للعلاقات الإعلامية بوزارة الخارجية الإسرائيلية، الذي صرّح بحدة بالغة: "لقد تعلّمنا دروسًا من حرب 2006 ضد حزب الله أن الحرية الإعلامية الزائدة أثّرت سلبًا على أهدافنا الاستراتيجية، لذا أي صحفي يدخل غزة يتحول إلى ورقة تغطية عن المقاومة، ولا أرى سببًا يدفعنا لمساعدته". بعبارة أخرى، يرى مسؤول إسرائيلي سابق أن الصحفي هو واجهة للمقاومة، وحضورٌ إعلاميٌ يكشف مآرب الاحتلال ويُضعفه.

 

في صراع تُقاس نتائجه بقدرته على التحكم في الذاكرة الجماعية، تصبح كل كاميرا ناجية بمثابة جبهة مفتوحة في وجه الاحتلال. الأيام المقبلة ستشهد سباقًا بين يد تحاول طمس الصورة، ويد تصر على تثبيتها في وجدان العالم

المشهد ذاته عبّر عنه القادة الصهاينة بطريقة غير مباشرة عبر جهود حملات العلاقات العامة المنظمة التي شنها الجهاز الدبلوماسي في أثناء عمليات "الرصاص المصبوب" و"حجر الأساس" لمحاولة تكريس نبرة مبرّرة ضد الانتقادات، حتى أن وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني قد وجهت تعليمات لشن حملة إعلامية غربية مكثفة، تضم تحويل الانتباه نحو العدوان الصاروخي لحماس وتجنب تغطية إراقة الدم الفلسطيني، ومما يفسّر سياسة التعتيم الإعلامي المحلية والدولية يمكننا ملاحظة قرار وزير الخارجية جدعون ساعر في 11 مارس الماضي حين أطلق "غرفة حرب إعلامية" داخل الوزارة لمراقبة المحتوى المعاد نشره عن إسرائيل، ومهاجمة الأخبار المعادية للدولة، من خلال تسريع الردّ عبر متحدثين ومؤثرين مؤيدين لإسرائيل. الغرفة راقبت 250 قناة و10 آلاف مادة يوميًا، وأضافت ضغطًا متعمدًا على منبر الإعلام العالمي لفرض السيطرة على السرد، كما ظهرت تقارير من الإعلام الإسرائيلي المستقل تفيد بأن الجيش الصهيوني أنشأ وحدة استخباراتية داخلية تُدعى "وحدة التشريع" مهمتها جمع أدلة مشكوك فيها لتبرير اغتيال الصحفيين عبر ربطهم ـ ولو بشكل غير موثوق ـ بحماس وحركات المقاومة.

في أكتوبر 2024، حاولت جنوب أفريقيا حث المجتمع الدولي على وقف المذابح، لكن إسرائيل عمدت إلى خفض حركة الإنترنت في غزة نحو 80%، واستخدمت الهجمات على البنية التحتية كوسيلة لتعطيل التوثيق المباشر والرقمي، ولا شك أن سيطرة الاحتلال على السرد الإعلامي وتقييده لا يُنظر إليها كحماية استراتيجية فقط، بل كعزل للرواية الفلسطينية. الصورة الوحيدة التي تصل للعالم هي ما يقرّره الاحتلال، وإلا فإن العدسة تصبح هدفًا يُصك عليه بالرصاص، وتُسكت قبل أن تحدث صوتها أو تنقل صداها.

معركة مستمرة ضد الوعي

في صراع تُقاس نتائجه بقدرته على التحكم في الذاكرة الجماعية، تصبح كل كاميرا ناجية بمثابة جبهة مفتوحة في وجه الاحتلال. الأيام المقبلة ستشهد سباقًا بين يد تحاول طمس الصورة، ويد تصر على تثبيتها في وجدان العالم. قد تُحاصر العدسات بالأسلاك الشائكة، أو تُدفن تحت الركام، لكن أثرها سيظل يتسرب عبر الشاشات، محفورًا في أرشيفات الضمير الإنساني. هذا الاشتباك الطويل على الحقيقة لن تحسمه قوة النيران وحدها، بل قدرة الشعوب والمؤسسات على كسر دائرة الإفلات من العقاب. وإذا كان التاريخ يكتب عادةً بأقلام المنتصرين، فإن فلسطين اليوم تُعيد صياغة معادلة الكتابة: حيث يصر الشاهد على البقاء في قلب الصفحة، حتى وإن كان الثمن حياته.

أعلى