تفكيك البنية (المستحدثة) في الاحتلال الإيراني للعراق...  من اغتيال سليماني إلى المظاهرات والانتخابات

بعد الغزو الأمريكي حشدت إيران طاقتها لاختراق المجتمع العراقي، وأدخلت كل الميليشيات المتعاونة معها إلى العراق، واستثمرت في التغيير الذي أعلنه الاحتلال من إنهاء سيطرة السُّنة لعدة قرون على الحكم


بدأت عملية التغيير الجارية الآن في العراق مع قصف واغتيال قاسم سليماني، وتحرَّك قطارها مع ازدياد قوة مظاهرات تشرين واتساعها، ونضجت مع محطة انتخابات البرلمان وبَدء إعادة تشكيل سلطة الاحتلال. وهي عملية لا يمكن فصلها عمَّا قيل عن سحب القوات الأمريكية القتالية من العراق من جهة، وعن عودة عمليات داعش من جهة أخرى.

وحالة التغيير الجارية هي نتيجة لالتقاء مصالح أطراف وقوى متعددة جمع بين تحركاتها - بغض النظر عن وجود توافقات من عدمه - التضرُّر من الطفرة (المستحدثه) في الوجود الإيراني في العراق. بعض تلك القوى خارجي كما هو حال الولايات المتحدة، وبعضها داخلي كما هو حال الأطراف الكردية والسُّنية المشاركة في العملية السياسية، وبعض القوى الشيعية التي تصارع على التمثيل الشيعي بسبب المصالح التي تعود على من يحقق النسبة الأكبر من التمثيل في داخل السلطة القائمة. ودخل على خط الحركة جماهير واسعة في المناطق الشيعية.

كل تلك القوى جمع بينها تضرُّرها ورفضها لـ (المستحدث) في نمط الاحتلال الإيراني؛ إذ تمكنت إيران من تشكيل ميليشيات مسلحة موالية لها، وانتقلت لتحقيق السيطرة الكلية على العملية السياسية ومواقع السلطة التنفيذية بعد تشكيل أجنحة سياسية لتلك الميليشيات، وهو ما هدد مصالح الأطراف الأخرى وأشاع مناخاً من العنف والارتكان للسلاح في إدارة الخلافات السياسية، في العملية السياسية وفي الشارع العراقي.

ولذا يتواصل تركيز وحشد الجهود في كل ما جرى وما يزال يجري من تحركات، لمواجهة وإنهاء ظاهرة الميليشيات الموالية لإيران أو تدجينها على الأقل. كما كان طبيعياً أن تُطرَح شعارات معادية للاحتلال (بل حتى للعملية السياسية) بحكم مشاركة حراك شعبيٍّ في تلك المواجهة؛ إذ أتاحت المواجهة بين طرفي الاحتلال ومن يرتبط بهما من أطراف العملية السياسية فرصةً أوسع للتعبير عن الآمال والأهداف الشعبية ببعديها الوطني والديمقراطي.

وبمعنى آخر: فإن ما يجري هو تفكيك وإضعاف لـ (الطفرة) التي حدثت في نمط الاحتلال الإيراني، بعد الحرب على داعش؛ إذ تمكنت إيران خلال تلك الحرب من تشكيل وتسليح ميليشيات موالية لها، وانتقلت بها من بعدُ، من حالة المواجهة المسلحة مع داعش، إلى مرحلة الارتكان للسلاح في السعي للسيطرة على السلطة السياسية الهشة التي شكلتها الولايات المتحدة بعد احتلالها للعراق.

لقد شكلت تلك الميليشيات أجنحة سياسية، دخلت تحت غطائها الانتخابات قبل الماضية (في عام 2018م) وصارت تتحرك في مسار الضغط بالسلاح لتطوير النفوذ السياسي وإحكام السيطرة على الشارع وعلى العملية السياسية وفي التغلغل داخل بنية سلطة الاحتلال، وتحويل دورها ونفوذها وَفْقَ النموذج نفسه الذي فرضه حزب الله في لبنان.

تلك الطفرة المستحدثة أصابت التوازن القائم داخل العملية السياسية بخلل شديد، بحكم عدم السماح للأطراف الأخرى المشاركة فيها ببناء أجهزة عسكرية موازية. وزاد من الخلل أن بات واضحاً عدم استعداد الولايات المتحدة لمواجهة تلك الميليشيات عسكرياً. أو أنها اعتمدت خطة ترك الساحة الداخلية لتفاعلاتها مع إدارتها من بُعْد. وهنا كانت عملية الإعلان عن سحب القوات القتالية.

ولذا كان طبيعياً أن يكون المتصدر للمرحلة هو مقتدى الصدر وليس غيره؛ باعتباره متضرراً من سيطرة تلك الميليشيات على التمثيل الشيعي و (العملية السياسية)، وبصفته مستنداً إلى ميليشيات موازية. وهو ما تُرجم في نتائج الانتخابات الأخيرة.

غير أن ما يجري ليس إنهاءً لحالة الاحتلال لا إيرانياً ولا أمريكياً، فحدوده هي عملية جرح وتعديل للتوازنات القائمة داخل بنية سلطة الاحتلال لمصلحة طرف الاحتلال المتضرر من سطوة الميليشيات الإيرانية. ولذا ما تزال القوى السياسية والفكرية والاجتماعية الرافضة للغزو والاحتلال - منذ بدايته - على الطرف الآخر من المعادلة الوطنية، رافضة للعملية السياسية برمَّتها ومرفوض دخولها العملية السياسية على أساس تغيير قواعدها. وهي لا تزال تطلب إنهاء وتغيير النظام الذي أقامته وهندسته سلطة الاحتلال والأسس التي يقوم عليها من الحكم الطائفي وتقاسُم المواقع داخل بنية السلطة وتوزيع الثروة وَفْقَ محددات طائفية وعرقية وقومية.

مراحل الاحتلال الإيراني:

مرَّ الدور الإيراني في العراق منذ التحضير للغزو والاحتلال وحتى الآن، بعدة مراحل:

في مرحلة التمهيد للغزو والاحتلال الأمريكي لعبت إيران دوراً بارزاً في منح هذا الاحتلال غطاءً سياسياً، عبر مشاركة الأطراف العاملة معها في العراق في مؤتمر لندن، كما تعاونت إيران ميدانياً عبر عملائها في العراق مع الجهد الاستخباراتي والعمل العسكري الأمريكي، واستثمرت جيداً في حالة حظر الطيران التي فرضتها القوات الأمريكية على مناطق جنوب وشمال العراق. كانت إيران أهمَّ من مدَّ قوات الاحتلال بالمعلومات الاستخبارية التي كانت توالي جمعها من فوق الأرض العراقية مباشرة من خلال المجموعات والميليشيات التي شكلتها ودربتها وسلحتها خلال الحرب بين العراق وإيران.

وبعد الغزو الأمريكي حشدت إيران طاقتها لاختراق المجتمع العراقي، وأدخلت كل الميليشيات المتعاونة معها إلى العراق، واستثمرت في التغيير الذي أعلنه الاحتلال من إنهاء سيطرة السُّنة لعدة قرون على الحكم (كما قال بريمر وهو أول حاكم أمريكي بعد الاحتلال). فنشطت ميليشياتها وعملاؤها في بناء (النظام السياسي) الجديد، وكان الأخطر أن أصبحت تلك الميليشيات بمثابة العمود الفقري في تقسيم المجتمع على أساس ديني وعرقي وبدء إنفاذ سلطة الاحتلال.

وفي مرحلة تالية، وحين واجهت فيه قوات الاحتلال الأمريكية و (البريطانية) مقاومة عنيفة من القوى الوطنية والإسلامية بعد الاحتلال، فقد زاد وتعمَّق دور الموالين لإيران. لقد جرى الاستثمار في حاجة الولايات المتحدة للقوى الموالية لإيران، سواء للدخول على المجتمع في مواجهة المقاومة عبر تفكيكه وإظهار أن المقاومة حالة لا تحظى بإجماع مجتمعي (بدليل تعاونهم هم مع الاحتلال)، أو عبر الانضمام لمؤسسات السلطة الجديدة - خاصة الجيش والاستخبارات والأمن - بعد تفكيك الدولة العراقية القائمة وصدور قانون اجتثاث البعث.

كانت مرحلةَ غرس للميليشيات التي عاشت في إيران في داخل الدولة الجديدة وفي داخل المجتمع.

وبعد ظهور داعش تحولت إيران إلى نمط حربي وإلى بناء حالة مستقلة لوجودها وسيطرتها العسكرية، فلم تكن تكرِّس جهد ميليشياتها (العاملة تحت القيادة والحماية العسكرية الأمريكية) لمواجهة داعش فقط، بل لتوسيع تلك الميليشيات وتعزيز قدراتها واعدادها لتحقيق سيطرة إيرانية (سياسية - عسكرية) في العراق.

كان في خلفية الخطة الإيرانية إعطاء مشروعية مجتمعية لدور تلك الميليشيات، للتخلص من فكرة تربيتها ودعمها لميليشيات عراقية على أراضيها ودفعها إلى العراق. انتقلت إيران من مرحلة توطين ميليشياتها (القديمة) إلى إنتاج ميليشيات جديدة من داخل بنية المجتمع العراقي وإعطائها مشروعية؛ ولذا حرصت إيران على إصدار فتوى الجهاد الكفائي من القيادات الشيعية في النجف.

 وعقب نهاية المواجهات الواسعة مع داعش، ومع انتخابات عام 2018م، سرَّعت إيران من الدور الداخلي لتلك الميليشيات. وأصبحت تعتمد عليها بصفة شاملة.

شكَّلت الميليشيات الموالية لإيران أحزاباً سياسية، ودخلت العملية الانتخابية إلى جانب المجموعات والميليشيات التي كانت قائمة من قبل، وصار ممكناً السيطرة على العملية السياسية وعلى سلطة الاحتلال، عبر أدوات متعددة.

ردُّ فعلٍ مضادٍّ لدور الميليشيات الولائية:

بات واضحاً أن إيران طورت مواقعها في السلطة السياسية للاحتلال مسنودة بميليشيات مدربة ومسلحة وتحت سلطة مباشرة وعلنية من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وبات واضحاً أيضاً أن لإيران القدرةَ على فرض تلك السيطرة ميدانياً، وهو ما أثار انزعاجاً وردَّ فعل من أطراف متعددة داخلية وخارجية.

وفي حين جاء التصاعد في دور الميليشيات الإيرانية متزامناً مع وصول الرئيس الأمريكي السابق ترامب إلى السلطة واتخاذه قرار سحب توقيع الولايات المتحدة على الاتفاق النووي مع إيران؛ فقد تحولت إيران إلى مواجهة هذا القرار الأمريكي باستخدام ورقة الميليشيات (عسكرياً وسياسياً) على الأرض العراقية، وهو ما حول هذا البلد إلى ساحة مواجهة.

رأت الولايات المتحدة أنها بدأت تفقد سيطرتها وأن مصالحها باتت تتضرر، فكانت الضربة الموجَّهة لقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس إعلاناً بتغيير أمريكي مضادٍّ، لتتحوَّل إيران بعدها من مرحلة العمل تحت ظلال الاحتلال الأمريكي إلى العمل المنفرد باستخدام القوة والسيطرة على السلطة في العراق. وجاءت أهمية اغتيال الاثنين من أن أحدهما هو القائد والممول والمشكِّل لتلك الميليشيات، وأن الثاني هو القائد الميداني المعيْن على أداء المهـام على الأرض. وكان أشدَّ ما أثار القلق الأمريكي وقتها هو ما أعلِن على لسان حسن نصر الله بشأن دور الميليشيات الإيرانية في الإقليم في ما وصف بـ (الجيش الإقليمي لإيران)، وهو ما أشعر الولايات المتحدة باحتمال توسع المواجهة إلى الإقليم.

لكن الانزعاج والقلق ورفض التغلغل والسيطرة الإيرانية بالقوة المسلحة لم يكن حالة أمريكية فقط؛ فقد ترافق مع نشاط الميليشيات (المستحدثه) أعمالُ سيطرة ميدانية على الأرض إلى درجة السيطرة على المعابر وعلى الحواجز في بغداد والمدن وعلى المصارف والمطارات؛ لم يكن الانزعاج أمريكياً فقط، بل من الأطراف الداخلية أيضاً.

لقد تغير موقف المشاركين الأكراد من ظاهرة الميليشيات بعد احتكاكات جرت بين تلك الميليشيات مع قوات البشمركة، وصلت حدَّ الاشباكات الواسعة في كركوك. وزاد من القلق وقوف إيران وميليشياتها المستحدثة ضد محاولة مسعود بارزاني إعلان استقلال الإقليم الكردي. والأمر تطور من بَعدُ على خلفيات استنزاف تلك الميليشيات للمقدَّرات العراقية على حساب الاستنزاف الذي كان متحققاً من قِبَل السلطات الكردية في الشمال.

وتغيَّر موقف معظم المشاركين السنة في العملية السياسية. وكان الأساس في التغيير هو ما قامت به تلك الميليشيات من أعمال السيطرة المباشرة على المناطق السنية بعد انتهاء المواجهات مع داعش، وما مارسته من أعمال تغيير ديموغرافي للسكان السنة، ومَنْعها عودة المواطنين النازحين إلى مدنهم المدمرة. وباتت الميليشيات تهدد أساس تمثيل السياسيين السنة، وتهدد مصالحهم ومواقعهم في العملية السياسية وسلطة الاحتلال.

وكان الأمر الأبرز، أن باتت الحاضنة الشيعية في وضع الخطر في ظل تصاعد السيطرة العسكرية والسياسية لتلك الميليشيات. فقد ترافق مع السطوة العسكرية للميليشيات الإيرانية سيطرةٌ على الاقتصاد و (السياحة) الإيرانية في العراق، وتغييرٌ للنمط الثقافي والحضاري للتشيع إلى حالة (الفرسنة)، كما أدى إلى إزاحة وإضعاف الميليشيات التي كانت تعتمدها إيران من قَبْلُ كما هو حال دور مقتدى الصدر وعمار الحكيم وحتى نوري المالكي (وإن بدرجة أقل)، وتحوُّلِ الميليشيات المستحدثة إلى أعمال قتل لأفراد من الميليشيات القديمة وفرض سيطرتها على المجتمع الشيعي بالقهر والقتل. وظهرت مظاهر الثراء الفاحش على عناصر ومقرات تلك الميليشيات التي تحولت إلى حاكم فعلي ميداني في المناطق الشيعية بعد أن أصبحت أقوى من الأجهزة الحكومية. وهو ما أحدث ضجراً على الصعيد الشعبي الشيعي، لقي مساندة من أطراف إقليمية ودولية.

لقد ظهرت كلُّ سوءات الاحتلال في تلك النسخة (المستحدثه) من الميليشيات، وهو ما حرك الميليشيات الحشدوية الأخرى للنأي بنفسها عن الحالة الجديدة، كما هو حال من يتسمون بميليشيات العتبات.

وزاد وأعطى بُعداً سياسياً عامّاً، أن جرت أعمال تزوير فاضحة للانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2018م، إذ أزاحت تلك الميليشيات وأضعفت عبر أجنحتها السياسية ومن خلال استخدام القوة المباشرة الأطرافَ الشيعية الأخرى والقوى المجتمعية - خاصة تلك التي لا تملك ميليشيات - من التمثيل السياسي وما يرتبط به من مصالح اقتصادية واجتماعية.

انتخاباتُ إعادةِ هندسة التوازنات:

كانت الولايات المتحدة قد ترجمت رفضها ومواجهتها للتطور (المستحدث) في النفوذ الإيراني في قتل قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس. وكان أن تفجر حَراك جماهيري واسع وممتد تمثل في (ثورة تشرين)؛ التي وجَّهت بوصلة صراعها الأساسية ضد الميليشيات الإيرانية المستحدَثة التي كان الحَراك ضربة قاصمة لمشروعيتها ولقواعد سيطرتها ونفوذها. وقد نتج عن المواجهة وصول رئيس وزراء عراقي جديد (مصطفى الكاظمي) قادر على الصمود في مواجهة الميليشيات بدرجة أفضل من سابقيه، وعلى تأمين إجراء الانتخابات لتظهر نتائج جولة المواجهة بكافة أبعادها.

كانت عملية متكاملة الأبعاد بتعدد أطرافها (وعلى اختلاف التوجهات والمصالح)، كان الهدف تغيير التوزنات السياسية والشعبية، لإضعاف الميليشيات الإيرانية. وجاءت نتائج الانتخابات بعنوان واحد: خسارة الأجنحة السياسية للميليشيات موقعها المسيطر في البرلمان وتأثيرها على تشكيل عناصر سلطة الاحتلال.

وأدت الانتخابات إلى عودة الميليشيات الإيرانية القديمة إلى صدارة المشهد الشيعي، وإلى تمثيل المصالح الإيرانية؛ إذ فاز الصدر أولاً وتلاه نوري المالكي (على حساب الأجنحة السياسية لميليشيات الحشد الموالية لإيران)، كما دخلت على مشهد التمثيل والتصويت في البرلمان قوى (جماهيرية) مستقلة، وهو ما مثَّل بداية تفكيك لمنظومة السيطرة الإيرانية مستقبلاً. وجاءت التحالفات في المجموعات السنية والكردية الممثلة في العملية السياسية لتعكس توجهات المواجهة مع الطفرة المستحدثة في النفوذ الإيراني أيضاً.

لم تخسر إيران كليّاً، ولم يتضر النفوذ الإيراني إلا في جهة (الطفرة المستحدثة)، وهو ما دفع إيران للعمل على إعادة تعويمها عبر منحها قدراً أعلى مما حققت في الانتخابات، وهو صراع ستظهر نتائجه في تحديد من سيشغل موقع رئيس الوزراء القادم. وفي الأغلب ستنظر إيران للهجمات الجديدة التي شنتها داعش، على أنها فرصة لاستعدة تلك الميليشيات دورها في المشهد العراقي.

أعلى