الانتخابات في العراق صراع واجهات احتلالية وإقليمية

الانتخابات في العراق صراع واجهات احتلالية وإقليمية


 

يستعد المسرحان: الاحتلالي والإقليمي اللذان يتخذان من العراق ساحة للصراع والتدافع لفرض الأجندات التي ترسم شكل الحكومة القادمة في العراق:

بين أن تكون احتلالية أمريكية التوجُّه فيها نَفَس إيراني، وبين أن تكون إيرانية خالصة فيها شخوص أمريكية تعمل كواجهة معارضة لإكساب اللعبة السياسية صبغة الشد والجذب والتناحرات التي توحي للبعيد، غير الخبير بما يجري على الساحة العراقية، بأن هناك عملية سياسية تضم أغلبية نيابية وأقلية معارضة.

ويسقط من المسرح معاناة أبناء العراق على مدى سبع سنوات منذ أن دخل الاحتلال الأمريكي أرض الرافدين.

إن محاولة الفهم الأولية لما يجري اليوم على أرض العراق تستلزم معرفة الخريطة التي رسمها المحتل برعاية الحاكم المدني في العراق آنذاك (بول بريمر) باستخدامه لعبة الإجهاز على كل مؤسسات الدولة.

تفكيك الدولة وأهدافه:

لقد جاء قرار بريمر مدروساً واضح الأهداف باعتماد المعادلة الصِّفرية التي تقضي بتهديم العراق وجَعْله دولة بلا جيش ولا هوية ولا أجهزة ولا نظام؛ لتمكين من جاء مع الاحتلال أو تعاون معه في الداخل من إيجاد مساحة للوجود والتغلغل باستخدام ما أسمته إدارة الاحتلال وقتها بالفوضى الخلاقة.

وبهذا تكون المزاوجة بين استخدام الأدوات الاحتلالية بالمشروع الأمريكي الذي بشرت به وزيرة الخارجية آنذاك (كونداليزا رايس).

إن الأهداف المتوخاة من تفكيك الدولة تشير بشكل واضح إلى أن المحتل أراد أن يضرب النظام العام للمجتمع بعد أن أنهى نظام الدولة والجيش والوزارات؛ فقد لاحظ انعدام النزاعات الطائفية والعرقية، وبقاء المجتمع العراقي على التزامه بضوابطه التي تعارف وتعايش على أساسها.

إن تنفيذ المعادلة الصِّفرية مكَّن الميليشيات المنتمية للأحزاب الطائفية من الضرب في عمق المجتمع؛ بممارسة الإجرام وفرض التصورات والتعامل معها.

وهذا الفعل أسَّس لأمرين لا ثالث لهما:

الأول: ضرب لُحْمة المجتمع.

والثاني: إيجاد نواة لجيش متشظٍّ متعدد الولاءات حسب تقسيمات المحاصصة الطائفية والعرقية التي أمر بها بريمر.

وهذا ما حصل عند مجيء ما يسمى: (مجلس الحكم) المرتكز في أساسه إلى أحزاب خمسة اعتمدها المحتل لتقسيم المشهد العراقي؛ للإيهام بأن هذا المجلس يضم كل التنوعات العراقية بمختلف توجهاتهم؛ وما هو في حقيقته إلا تنفيذٌ حرفيٌّ لمعادلة جديدة تُعْرَف بمعادلة القسمة المائلة لضمان استمرار الولاء.

معادلة القسمة المائلة:

تقضي بنود هذه المعادلة بإعطاء طَرَفٍ من أطرافها أكثر مما يستحق لضمان ولائه، وبالمقابل تمكين طرف له مطامع انفصالية لا يقوى على تنفيذها من دون هذا الدعم؛ فكانت معادلة القسمة المائلة المجحفة بحق غيرهم طوقَ النجاة الذي لن يتخلوا عنه؛ فهم مرتبطون به وجوداً وعدماً.

أما الطرف الثالث المهمَّش، فاعتمدوا معهم الحرمان وتسييل اللعاب بإعطاء الامتيازات لضمان اندفاعهم في تنفيذ المشروع الاحتلالي سعياً وراء مناصب رمزية لا تغني ولا تُسمن من جوع.

لا ريب أن من قَبِل الدخول في أتون هذه المعادلة المجحفة بحق أبناء العراق لا يمثل تطلعات العراقيين، وإنما يمثل إرادة محتل غاصب.

معادلة القسمة المائلة التي اعتمدها الاحتلال بذكاء خبيث أفرزت ولاءَ وانبطاح من أخذ أكثر من مستحقاته في محاولة لاستدامة هذه المعادلة التي لم يكن يوماً يحلم أن يكون طرفاً فيها.

أما الطرف الانفصالي المنفرد بإدارة قسم من البلاد ويشارك بقوة في عملية سياسية أوجدها المحتل لم ولن يفكر يوماً بالانفصال عن هذه المعادلة؛ لأنها تمثل بالنسبة له البقاء.

أما الطرف الأخير الذي يعدُّه المراقبون العامل المساعد، فقد تنتفي الحاجة إليه في أي وقت (وهذا ما حصل اليوم)، هذا الطرف أدرك ضرورة الاستماتة بخدمة الاحتلال لضمان عدم الاستغناء عنه.

هذه المعادلة التي اعتمدها المحتل بقيت كما أرادها بالحكومات التي تلت ما يسمى: مجلس الحكم.

حكومة معيَّنة وأخرى مؤقتة وثالثة دائمة:

تعاقبت في مرحلة الأعوام السبعة برعاية الاحتلال الأمريكي في العراق بعد ما يسمى: مجلس الحكم ثلاث حكومات، لكل واحدة منها ميزة عن التي تليها:

فأولها: كانت حكومة (إياد علاوي) الذي يرأس اليوم القائمة العراقية.

وقد أسست هذه الحكومة التي عملت تحت إمرة المحتل ورعايته ضَرْب المدن العراقية الرافضة للاحتلال، كما جرى في معركتي الفلوجة: الأولى والثانية، تلك المدينة التي أرادوا من خلال شنِّ الحرب عليها أن تكون الانطلاقة لتنفيذ المشروع الاحتلالي وتعميمه على المنطقة، لكن صمود الفلوجة كان بمثابة الصخرة المعرقِلة للمشروع الأمريكي بالكامل، بل هي التي كانت السبب في تقوقع المشروع على الأرض العراقية دون المضي في تنفيذه في دول أخرى في القائمة الأمريكية، وهذا باعتراف قادة الاحتلال لا غيرهم.

أما حكومة الاحتلال الثانية: فلم يكن في وسعها إلا تنفيذ أوامر الاحتلال حرفياً؛ فليس لأداة أن تعترض على إرادة سيدها.

ولمَّا كان لهذا الصمود البطولي لأبناء العراق بالتصدي للآلة الحربية الأمريكية أفدح الخسائر على الأمريكان، سعى المحتل لإيجاد صفحة سماها سياسية في محاولة بائسة؛ ليحرف الصراع ويجعله (عراقياً - عراقياً)، ويسلب من المقاومة قدسية الفعل؛ فالمحتلون على مدار التاريخ يسعون إلى (شيطنة) مناهضيهم؛ (أي: أن يُجعلوا يبدون للناظرين بلا وجه حق)، فعمل على تسريع الأمر بانتخابات لم يكن العراق ولا المنطقة بوسعهم أن يستقبلوها أو أن يتعاملوا معها، فعمدوا إلى تعجيل ذلك والاكتفاء بجزء بسيط من المشاركة لاستخدامه كمادة في التهويل الإعلامي؛ لينتجوا لنا مسخاً آخر اسمه: حكومة إبراهيم الجعفري من حزب الدعوة الذي تميزت حكومته بالانفلات العشوائي والرسمي للميليشيات، بل إن امتيازها الأكبر كان بحادثة تفجير قبة سامراء للإيذان بالدخول في أتون حرب أهلية وتقاتُل العراقيين فيما بينهم؛ فابتدأت باستهداف المساجد وحَرْقها وتدميرها أو الاستحواذ عليها وتحويلها إلى مقرات لهم.

أما حكومة الجعفري فقد قسمت المليشيات إلى قسمين:

- قسم في الشارع منفلت يستهدف المناطق الرافضة للاحتلال.

- وآخر لبس لباس الدولة وعمل على اعتقال الآلاف من العراقيين وزجِّهم في السجون والمعتقلات التي مورست فيها أبشع أنواع التعذيب بالمثقاب الكهربائي وقَتْل المعتقلين ورميهم في مكبات النفايات.

وفضيحة ملجأ الجادرية شاهد على ذلك.

وقد شهدت هذه الفترة عملية استماتة للوصول إلى التمثيل الدبلوماسي الخارجي؛ لإظهار هذه الأدوات على أنها حكومة معتَرف بها؛ وما مشاركتها في مؤتمَرَي المصالحة في القاهرة تحت رعاية الجامعة العربية إلا من هذا الباب لا غيره، بدليل أنهم بعد انقضاء المؤتمر نكصوا عن عهودهم ومواثيقهم.

وأما حكومة نوري المالكي (وهي الحكومة الرابعة للاحتلال) فقد جاءت بعد مخاضات عسيرة لإشراك بعضٍ ممن طرحوا أنفسهم على أنهم يمثلون طرفاً كان غائباً بالكامل عن المشهد السياسي الاحتلالي إلا من بعض الشخصيات؛ فإدخال المكوِّن الذي أضفى - بحسب رؤية المحتل - شرعية على هذه الحكومة؛ تمهيداً لادِّعاء كذبة كبرى اسمها: المصالحة الوطنية ولم يحدث شيء من هذا.

وإذا قفزنا على بعض مفاصلها فإنها (أي: هذه الحكومة) شهدت تشظيات وانقسامات وخروجاً من أحزاب وتأسيساً لجبهات تنبئ عن حجم الخراب الذي خلَّفه الاحتلال باستخدام هذه الأدوات.

شهدت هذه المرحلة أنواعاً متعددة من التمددات الإيرانية التي كانت حكومة الجعفري قد بدأتها، وشهدت كذلك انقسامات بين أبناء الطرف الواحد؛ فقد وصلوا جميعاً إلى نقطة الافتراق.

ونقطة الافتراق هنا مقصودة فيها تفصيلات كثيرة، منها: نقطة افتراق تنفيذ المخططات الإيرانية عن مخططات الاحتلال الأمريكي، وكذلك نقطة افتراق مصالح الأحزاب الكردية عن الأخرى المشاركة في العملية السياسية في ظل الاحتلال، ونقطة افتراق المجلس الأعلى عن حزب الدعوة وثارات التيار الصدري مع استهداف أنصاره على مرِّ السنين، ونقطة افتراق الحزب الإسلامي عن بقية أبناء المكوِّن السُّني.

ونقطة الافتراق هذه رسمت المشهد السياسي العراقي في ظل الاحتلال مع عدم إغفال الإدارة الأمريكية الجديدة التي رفعت لواء التغيير شعاراً لها وتبيَّن بعد عام من إدارة باراك أوباما أنه لا تغيير في السياسة الأمريكية، بل كانت امتداداً لسياسة جورج بوش، وأن التغير الذي تريده أمريكا اليوم، هو قلب المعادلة بإضافة عناصر جديدة والاستغناء عن عناصر كان لها دور فيما سبق وانتفت الحاجة إليهم الآن.

انتخابات 2010 صراع إرادات:

دخلت الاستعدادات للانتخابات العراقية المزمع إجراؤها في السابع من آذار 2010 مرحلة السرقات الانتخابية؛ لضمان تمويل الحملات الدعائية وشراء الذمم، ثم تبعتها مرحلة كانت دماء العراقيين فيها ثمناً للنزاعات الحزبية والفئوية والطائفية؛ فعمليات التدافع وإسقاط الخصوم اصطبغت بلون الدم؛ لإظهار القوة وفرض السيطرة على الأرض، ومن خلال ذلك ظهرت بوادر التشكيلات بأوامر احتلالية وأخرى إقليمية استعداداً لخوض اللعبة السياسية بنسختها الخامسة التي تروم فيها الولايات المتحدة الأمريكية دفع التمدد الإيراني؛ بدعم قائمة عريضة تضم كثيراً من الشخصيات بتوجِّهات مختلفة يجمعها رابط واحد، هو مواجهة النفوذ الإيراني بينما تشكلت الجبهة المقابلة لهم لمحاولة تفتيت هذا التجمع المهدِّد لمصالحهم ومنافعهم باستصدار قرارات وقوانين من خلال منظومة المؤسسات التي أنشئت منذ بداية العملية السياسية في ظل الاحتلال، وهو ما يُعرَف بقانون الاجتثاث أو المساءلة والعدالة.

إن دخول مرحلة الصراع إلى إصدار القرارات الإقصائية والاستبعادية لَيَدل على حجم التشظي الذي تعاني منه هذه الأدوات؛ فهم مَجْمَع أشتات دخلوا هذا الميدان للاستفادة مما يُكسِبهم إياه هذا الدخول من مميزات واستثمارات.

إن نظرة إجمالية لما حدث في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي لَتَدل بوضوح على انقسام المشهد العراقي إلى فسطاطين من العمل السياسي:

- فسطاط العمل السياسي في ظل الاحتلال؛ ويشترك فيه كل من سبق ذكرهم.

- وفسطاط العمل السياسي المناهض للاحتلال؛ ويضم القوى المناهضة للاحتلال بفعلها الميداني والسياسي والإعلامي.

إن انتخابات 2010 لن تأتي بجديد، وإن العملية السياسية الجارية في العراق تحت رعاية الاحتلال الأمريكي والتمدد الإيراني ما هي إلا لعبة بين خصوم متشاكسين لا يقبل أحدهم بالآخر، وإن امتطاء الديمقراطية والدستورية بمزاجية الأحزاب وحسب توجيهات الجهات التي ينتمون إليها ما هو إلا التفاف على المنطقة بأسرها بانتداب أصنام جديدة تقود المنطقة نحو الهاوية، ولا مُشَاحَّة في الوصف بين أن تكون هذه الأصنام أفراداً أو عوائلَ أو مجاميعَ سياسية تشكِّل في إحداثياتها إقطاعات سياسية تقتلع جذور الإرادة الشعبية وحق تحقيق مصير الشعوب.

إن اللافت للنظر أن مجمل إن لم يكن جميع من انخرطوا في العملية السياسية في ظل الاحتلال لا توجد لهم برامج واضحة في كيفية إدارة الدولة؛ فهم سائرون على المبدأ المكيافيلي: (الغاية تبرر الوسيلة)؛ فغايتهم اختطاف الحكم ولا شأن لهم في تنفيذ ما يَعِدُون به أيام الانتخابات وليس أدلَّ على ذلك من عزوف أبناء العراق بكافة أطيافه عن التسجيل في مراكز تسجيل الناخبين من جهة، ومن جهة ثانية أن القطاعات الواسعة التي تحدثوا عن تمثيلها ورَفْع المعاناة عنها ازدادت أضعافاً مضاعفة.

أما السجون (المعلنة والسرية منها) فإنها تغصُّ بالمعتقلين الذين لم يحظوا بالحد الأدنى من حقوقهم ولم يُعرَضوا حتى على قاضي تحقيق.

إنه تهديم للبُنى التحتية، وإصرار على مواصلة السلب والنهب المنظم وغير المنظم في إطار المشاريع الوهمية أو في التخصيصات المليونية لأشخاص وهميين أو حتى في تهريب الأموال للخارج لاستثمارها بعد انتهاء اللعبة السياسية.

وكذلك المحسوبية والفئوية والعنصرية هي العمود الفِقْري الذي بُنِيت عليه هذه العملية المسماة - جزافاً - سياسية؛ وما هي في حقيقتها إلا مشروع الاحتلال بنسخته المستعجمة.

والسؤال الذي ينبغي على كل متابع للشأن العراقي أن يجد الإجابة عنه هو:

هل - حقاً - تُمثِّل هذه الحكومات أدنى صورة للسيادة، أم أنها قوية على أبناء جلدتها ولا تستطيع أن تنبس ببنت شفة أمام قصف إيران و تركيا لقراها في الشمال؟ وهل دستورهم المكتوب بعين واحدة وبإرادة احتلالية خالصة متفَق عليه بينهم، فضلاً عن أن يعترف به أبناء العراق؟ وهل برامج هذه الأحزاب قادرة أن تقف بوجه التحديات الموجودة على الساحة العراقية، أم أنها مسميات مختلفة للتمايز فيما بينهم فقط؟ أم أن هذه الشخوص وتلك الأحزاب وهاتيك التجمعات أثبتت التجربة أنها لا تصلح إلا أن تكون أداة بيد غيرها متقمِّصة ثوب الوطنية؛ لتنفيذ مخططاتٍ احتلالية وإقليمية؛ ليضمنوا بقاءهم على رأس سلطة احتلالية تريد مصادرة العراق وتشتيته.

إن فسطاط العمل السياسي الذي تمثله القوى الرافضة للاحتلال والممانِعة له لا يعدم مشروعاً سياسياً مؤثراً ولا يقل وزناً عن الفعل الميداني للقوى المقاومة ويسانده بتأثير كبير ضلع ثالث في معادلة الممانعة، هو الفعل الإعلامي؛ وبتكامل هذه الأضلاع وتضافرها أفشلت أضخم مشروع احتلالي جاء ليغير وجه المنطقة، ولكنها بفضل الله ثم بثبات أبناء العراق استطاعت أن توقفه وتقوقعه في مكانه وما هو إلا الهزيع الأخير من ليل الاحتلال لتعلن بعده هذه القوى كامل انتصارها، بإذن الله.

إن من حمل السلاح لم يحمله أشراً ولا بطراً، وإنما حمل معه مشروعاً سياسياً مقاوماً ومناهضاً لمشروع الاحتلال، وإن العلماء والمخلصين الذين وقفوا بصمود تجاه هذا المشروع إنما يحرِّكهم مشروع سياسي يرفع الظلم عن العراقيين.

أما الضلع الثالث، وهو الإعلام الذي وقف بأدوات إذا ما قورنت بالآلة الأمريكية والغربية الإعلامية الضخمة فلا مجال للمقارنة؛ إلا أنه استطاع أن يهزَّ مشروع الاحتلال بمشروعه السياسي الذي عبَّر عنه إعلامياً بما يدحض كل أراجيف المحتل.

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)

أعلى