غبنٌ أن يُنشَأ نظام لا يَحفظ فيه حقوق الأفراد الذين اختاروه ولا يُراعي كرامتهم، وأشد غبنًا من ذلك أن تتعدى جنايته لنسلٍ وُلِدَ عن هذا النظام لم يُسأل عنه، ولم تكن له إرادة في اختياره يومًا من الأيام.
النفس البشرية صنعة الله سبحانه
إن الوَعْي الإسلاميّ في شعور الفرد المسلم لا يصحّ ولا يستوي رَاشدًا قبل أن يَعرض كل ما يلقاه من أمور حياته صغيرها وكبيرها على المنهج الإسلامي؛ فذلك هو الميزان الحق الذي اعتنى بالنفس البشرية، وقام بمعالجة شؤونها معالجة الخبير العالِم بأسرارها، فهي بعض خِلْقته التي يَعلم بواعثها ويعلم ما هو خير لها، ولا بد أن تطلبه، وما هو شرّ عليها يجب أن تبتعد عنه وأن تتقيه، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﭫ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7- 8].
المساكنة ومدلولها عند الغرب
خرجت علينا الحضارة الغربية بمصطلح المساكنة التي مفادها تنظيم جديد لعلاقة الرجل والمرأة بعيدًا عن أُسس ومبادئ الزواج الرسمي الذي يستلزم وجود العقد الشرعي، ولم تجد هذه الظاهرة «المساكنة» حرجًا في انتشارها في المجتمعات الغربية؛ إذ لا هيمنة للأسرة، ولا سبيل لها على شباب أبنائها؛ إذ إن الدور والمسؤولية هناك يقتصر على تنشئة الطفولة، وبعد ذلك يكون الاستقلال والتحرر الذي لا حظّ للقِيَم الروحية فيه ولا نصيب.
المساكنة وحتمية المواجهة
كان من الخطأ والخطر معًا اعتقاد أن هذه المصطلحات الغريبة ستظل غريبة، تعيش حياتها في مجتمعها البعيد، تؤثر وتتأثر هناك حيث توجد، ويعود عليها بالنتائج السلبية بما اقترفته أيدي أبنائها من سوء؛ حتى استيقظنا يومًا لنجد هذه الظاهرة بيننا يعيشها أبناؤنا، ولقد دفعنا هذا الشعور المتأخر بالخطر أن نواجهه هنا في منطقتنا، بعدما كان خيرًا لنا أن نواجهه هناك في منطقته حيث ظهر.
التصدي لظاهرة المساكنة
وسبيلنا للتصدي لهذه الظاهرة تلزمه خطوة تسبقه، وهي عرضها على منهج الإسلام وتقييمها بميزانه الذي لا يختلّ، وبحثها وبحث أسبابها وبيان مقابلها في الإسلام، ثم بعد ذلك تكون مناقشتها في عقول أصحابها سواء أولئك الذين قدَّموها للمجتمع أو الذين تحمَّسوا لها ووجدوها فكرة صالحة للتنفيذ والتطبيق.
الزواج في الإسلام
ولسنا نعرف نظامًا أحكم العلاقة بين الرجل والمرأة، بل وكان الأمثل طريقة في رعاية وحفظ الواجبات والحقوق بينهما من نظام الزواج في الإسلام؛ لأنه لم ينظر إليهما، وإلى العقد الذي يربط بينهما على أنه سياج من الحماية يحفظ حقوق أطرافه، ولا إلى تلك المشاعر التي تبدأ وتنتهي عند المتعة الحسية، بل تعدَّاه وأخذه إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى حيثما تلك المشاعر التي تميزهما عمن سواهما من الكائنات وارتفع بهما إلى إحساس آخر غير ذلك الإحساس، وإلى مشاعر غير تلكم المشاعر التي تُسوِّي بينهما وبين غيرهما من الكائنات، والتي عبَّر عنها بمعنيَي المودة والرحمة؛ قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: ٢١]؛ لأن اللذة الحسية ليست بالمعنى الأعلى المخاطب به الإنسان، وإنما هو خطاب يشمل الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى التي هي دونه، ولا بد من مُميِّز آخر ينصرف إليه حينما يُذكر الإنسان وحده؛ لأن الإنسان ينشد من الغايات التي يطلبها لنفسه ولنوعه ما لا ينشده غيره من سائر الكائنات، وإلا كان تمييزه عليها عبثًا لا تعرفه الأقدار.
ونزيد على ذلك أن المتعة الحسية لذة عمرها قصير، ولا بد من معنى آخر يعيش به الإنسان، معنى يُحقّق معه سلامته وطهارته، ويحفظ نسله ونوعه؛ سواء في مبتدأه وتكوينه، أو حتى في حقوقه يوم أن يستوي إنسانًا صالحًا في مجتمعه قادرًا أن يعيش بلا خلل، معافًى في بدنه وصحته النفسية سواء بسواء.
المقابلة بين المساكنة والزواج في الإسلام
غبنٌ أن يُنشَأ نظام لا يَحفظ فيه حقوق الأفراد الذين اختاروه ولا يُراعي كرامتهم، وأشد غبنًا من ذلك أن تتعدى جنايته لنسلٍ وُلِدَ عن هذا النظام لم يُسأل عنه، ولم تكن له إرادة في اختياره يومًا من الأيام.
وجميل أن يركن الإنسان إلى نظام اجتماعي سماوي، وهو نظام الزواج، يرتفع به وبقيمته؛ يحفظه ويحفظ أفراده الذين قام من أجلهم، وأجمل من ذلك أن ينظر طلاب النفع الإنساني من العاقلين من البشر الذين يشغلون بتحقق عواقب الأمور في قضايا البشرية الكبار فيجدون الزواج لا يزال يتقلب نفعًا وحفظًا ورعاية للإنسان ونسله جيلاً وراء جيل.
والحقيقة هنا عنوانها أنه أبدًا لن تكون كلمة الناس -وكلها هوًى-، بديلًا لكلمة الله، ولا هوى فيها، فلن تكون كلمة الناس -التي هي محض غواية- بديلاً عن كلمة الله التي تحفظ وتصون؛ وقد قال الله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: ٥٠]؟!
التدليل البحثي في منهج الغرب
لا تزال المقالات التي تتناول الأفكار والظواهر المقارنة هي عرضٌ لوجهات نظر أصحابها، حتى إذا حظيتْ بالأبحاث التي تُؤيِّد وجهتها في إثبات ما تريد إثباته أو نفي ما تريد نفيه، فإذا هي تقوم هنا مقام الحقيقة البحثية بعدما ما وجدت ما يؤيدها من دليل أو تكاد.
ولكن ماذا إذا كانت هذه التجارب البحثية قد خرجت ممن تقوم فيهم الفكرة المغايرة التي ننفيها؟! فهذه هي الحقيقة التي في إنكارها تبديد لأمانة الأبحاث العلمية وأهدافها التي يُطلَب فيها وجه الحقيقة ووجه العلم، وقد ضمنا بعض النصوص البحثية التي تؤكد ذلك بعد الإشارة إلى مراجعها.
الزواج مقابل المعاشرة غير الزوجية
المعاشرة أقل مؤسسية من الزواج، ولا يتمتع الشركاء المتعايشون بنفس الأفق الزمني طويل الأجل مثل الأزواج المتزوجين. علاوة على ذلك، فقد أبلغ الأفراد المتعايشون عن سعادة والتزام أقل في العلاقة تجاه شركائهم مقارنة بالأفراد المتزوجين[1].
وذكر موقع «لايف ساينس» أن باحثين من جامعة فيرجينيا أجروا دراسة باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي؛ لفحص دماغ ثنائيات متزوجين وآخرين يتساكنون من دون زواج، نصفهم يعتبرون أنفسهم متزوجين على الرغم من عدم وجود وثيقة قانونية تثبت ذلك. وكشفت الدراسة أن بعض الأقسام بالدماغ تكون أقلّ عُرضة للتوتر لدى الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم متزوجين. وقال باحث علم النفس في جامعة فيرجينيا جيم كوان: إن كافة الثنائيات خضعوا للاختبار عينه، وخلصت نتائج الدراسة إلى أن المتزوجين يشعرون بالتزام أكبر من الشريك، ما يمنحهم الاطمئنان[2].
ظاهرة المساكنة بين الظروف الاقتصادية
إن من الجنايات البحثية التي لا تليق أن يكون همُّ الباحث هو إثبات صحة نظرياته التي أراد أن يُثبتها لبحثه، والتي ينتصر لقضيته فيها من دون أن يُثبت للموضوع الذي يناظره بعض وجاهة إذا ما وجد ذلك في أيّ موضع كان، بل وإن جريمته أمام ضميره لَتكون أشد إن حاول أن يُخفيها أو يتهرب منها، والضمير البحثي هنا يجعلنا نقول: إن ادعاء أصحاب نظرية المساكنة أن هناك مغالاة كبيرة في كلفة الزواج، وأن بعضها اقتصادي بسبب الظروف الاقتصادية الطاحنة، وبعضها اجتماعي بسبب الظروف الاجتماعية التي تعد المغالاة في المهور بعضًا من الوجاهة الاجتماعية التي تطلبها بعض الأُسَر في مجتمعاتنا العربية، وهذا حقيقي وهذا موجود، ولكن ليس هذا أبدًا ليس خللاً في منظومة الزواج ولن يكون، وإنما الخلل موجود فينا نحن وما اتبعناه، وقد جاءت بعض النصوص الدينية تُجرّم ذلك وتحرّمه؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «إذا جاءكُم من ترضونَ دينَهُ وخلُقهُ فأنْكحوهُ، إلا تفعلوا تكن فِتنةٌ في الأرض وفساد عريض»[3].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خير النكاح أيسره»[4].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أراد الزواج: «أَعْطِها ولو خاتمًا من حديد»[5].
وعَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِين عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَالْمُغَالاَة فِي مُهُورِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَقْوى عِنْدَ اللَّهِ أَوْ مَكْرُمَةً عِنْدَ النَّاسِ؛ لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلاَكُمْ بِهَا؛ مَا نَكَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، وَلاَ أَنْكَحَ وَاحِدَةً مِنْ بَنَاتِهِ بِأَكْثَر مِنِ اثْنَتَي عَشرَة أُوقِيَّة، وَهِيَ أَرْبَعُمِائَة دِرْهَم وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُغَالِي بِمَهْرِ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَبْقَى عَدَاوَةً فِي نَفْسِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ كُلِّفْتُ لَكِ علقَ الْقِرْبَةِ»[6].
حتى لا ينفرد الغرب بأبنائنا
في ختام كل قضية كلمة يجب قولها، كلمة مدح أو كلمة انتقاد لا يهمّ؛ فالإنسان بخير مادام قادرًا على أن يُواجه نفسه بأخطائه، صحيح نحن أولى بأخطاء أنفسنا، ولا فضل للكاتب أو الباحث أو الأديب إن لم يعرف خطأه أو تقصيره فيلزمه، وخطأنا الذي نراه ونرى معه أننا حتى لا نكون مقصرين مع أولادنا يجب أن نلزمهم فيما يفكرون، لا يجب أن نتركهم للغير يملأ فضاءهم، لا سيما في ظل هذه العولمة الطاحنة، وما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار، لا يجب أن نغيب عنهم أو نتركهم لأفكارهم.
حقيقة الأمر أن أولادنا قد سبقونا في المعرفة، وأن ما نحتاج إلى الاطلاع عليه صباح الغد، كانوا قد اطلعوا عليه أمس وأول أمس من خلال وسائل تواصلهم الحديثة، فغِبْنَا نحن عن حوادثهم وأحداثهم، تأخرنا وحضر غيرنا؛ وذلك لأننا أغفلنا طعومهم في عالم المعرفة التي تُحصّنهم؛ فغاب عنهم الرشد، ولم يعودوا يُفنّدون ما يتلقونه في عالمهم الموازي، ونهضوا في تقييم أمورهم ومدارستها على شيء من قول الغرب فيها، وقل إن شئت: إن الغرب الذين انفردوا بهم وتعهدوهم بتعاليم غير تعاليمنا وقِيَم غير قِيَمنا، وبعضهم مُغرِض، لقد تركناهم يوم احتاجوا الاستماع إلينا، ولم يجدونا وقت حاجتهم لنا، فمضوا إلى سبيلهم بعد أن ملأ غيرنا فضاءهم.
الخلاصة
إن الدعوات البائسة إلى ما يُسمَّى بـ«المساكنة» تَنَكُّرٌ للدين والفطرة، وتزييفٌ للحقائق، ومسخٌ للهُوِيَّة، وتسمية للأشياء بغير مسمياتها، ودعوة صريحة إلى سلوكيات مشبوهة مُحرَّمة؛ فقد أحاط الإسلام علاقة الرجل والمرأة بمنظومة من التشريعات الراقية، وحصَر العلاقة الكاملة بينهما في الزواج؛ كي يحفظ قِيَمها وقِيَم المجتمع، ويصونَ حقوقهما، وحقوق ما ينتج عن علاقتهما من أولاد، في شمول بديع لا نظير له.
ولذا يُحرِّم الإسلام العلاقات الجنسية غير المشروعة، ويُحرّم ما يوصّل إليها، ويسميها باسمها «الزنا»، ومن صُورها ما يُسمَّى بـ«المساكنة»؛ التي تدخل ضمن هذه العلاقات المُحرّمة في الإسلام، وفي سائر الأديان الإلهية والكتب السماوية.
إن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وإن غُلّفت مسمياتها بأغلفة مُنمَّقة مُضلّلة للشباب، كتسمية الزنا بالمساكنة، والشذوذ بالمثلية... إلخ؛ -بمنتهى الوضوح- علاقات مُحرّمة على الرجل والمرأة تأبى قِيَمنا الدينية والأخلاقية الترويج لها في إطار همجي منحرف، يسحق معاني الفضيلة والكرامة، ويستجيب لغرائز وشهوات شاذة، دون قَيْد من أخلاق، أو ضابط من دين، أو وازع من ضمير.
والزنا كبيرة من كبائر الذنوب يعتدي مرتكبها على الدين والعِرْض، وحق المجتمع في صيانة الأخلاق والقِيَم، وهبوطٌ في مستنقع الشهوات، وقد سمَّاها الله تعالى فاحشة، وبيَّن أن عاقِبَتها وخيمة في الدنيا والآخرة، ساء سبيل من ارتكبها ولو بعد حين؛ قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
ولذا فإن عقد النقاشات حول قبول المساكنة على مرأى ومسمعٍ من النّاس طرحٌ عبثي خطير، يستخفُّ بقِيَم المجتمع وثقافته وهُوِيَّته، ولا يمتُّ للحرية من قريب أو بعيد، إلا حرية الانسلاخ من قِيَم الفطرة وتعاليم الأديان.
كما أن طرح دعوات صريحة تُوجِّه المجتمع نحو ممارسات منحرفة، وعرض المحظور في صورة المقبول، يُحطِّم كثيرًا من حصون الفضيلة في نفوس النشء والشباب، الذي هو حجر الزاوية في المجتمعات وركنها الركين، مما يُنذر بخطر الاجتراء على حدود الله ومحارمه.
[1] موقع «لايف ساينس» أن باحثين من جامعة فيرجينيا الزواج والمعاشرة والصحة النفسية المعهد الأسترالي للدراسات الأسرية.
[2] مقال في صحيفة الخليج الإماراتية الدماغ يميّز بين الزواج والمساكنة تاريخ ١ مارس ٢٠١٤ دراسة أمريكية.
[3] أخرجه الترمذي (١٠٨٥) وحسنه الألباني.
[4] أخرجه ابن حبان (٤٠٧٢) وصححه الألباني.
[5] أخرجه البخاري (٥٠٢٩).
[6] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ٧/٣٨٢.