الدعاء عبادة وسَبَب، لكن آثاره لا تُقاس بتحقّق المطلوب فورًا؛ فالإجابة قد تكون بعطاءٍ مؤجَّل أو دفع بلاء، وتتعطل بالاستعجال وغفلة القلب والمعاصي، بينما يتحقق أثره مع الصبر وصدق التعلّق بالله.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد
عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أما بعد: فكثيرًا ما نقف على مقطع صوتي أو مرئي، يتحدَّث فيه بعض الفضلاء عن بعض
الأدعية والأوراد، فيقولون: إن فلانًا أدْمَن الاستغفار ففرَّج الله عنه. وفلانة
كرّرت كذا فأغناها الله وأرسل لها زوجًا ثريًّا. وكذا مَن داوم على قراءة سورة
البقرة فإنه يكون له كذا وكذا. وبعضهم يقول: لا أعلم مريضًا التزم بهذا أو فعل كذا؛
إلا شُفِيَ ووَهَبَه الله العافية. وأحيانًا ينقل عن بعض السلف الاستشفاء بماء زمزم
أو الفاتحة، ويشفون من أدوائهم ويستجيب الله سؤالهم، ويُعْطَوْن مُرادَهم ومطلوبهم،
...
فيتفاءل الناس بذلك كله، فيسارعون إلى تطبيق ما سمعوا أو شاهدوا أو قرأوا، ولكنّهم
يفاجَؤُون بأنه لم يتحقق لهم ذلك الغنى والثراء، ولا رُزِقُوا بتيسير الأمور وتفريج
الكروب، كما لم يُكْتَب لهم الشفاء من الأمراض والأدواء، وهنا قد يُفتَتَن الناس
فيُشَكِّكُون في صدق القائل والقصة التي قِيلَتْ، ومِن ثَمَّ يتركون تلك الأوراد
والدعوات والعُوَذ الواردة في الشريعة، ويَدَعُون الاستشفاء والعلاج بالرُّقَى.
الدعاء سبب
إن الدعاء سلاح المؤمن، وهو مِن أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يَدفعه، ويُعالجه،
ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يُخفّفه إذا نزل[1]،
كما أن
«الدعاء
سببٌ لحصول الخير المطلوب، أو غيره، كسائر الأسباب المُقدَّرة والمشروعة. وسواء
سُمِّي سببًا أو جزءًا من السبب أو شرطًا، فالمقصود هنا واحد، فإذا أراد الله بعبدٍ
خيرًا ألهَمَه دعاءَه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءَه سببًا للخير الذي قضاه
له، كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
«إني
لا أحمل همّ الإجابة، وإنما أحمل همّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه»[2].
والناس تجاه هذه الأسباب طرفان ووسط، فمنهم مَن يتخذ جانب التفريط بها فيتركها
بالكلية، وآخرون أخذوا جانب الاعتماد عليها والالتفات إليها وتعليق القلب بها، فهذا
وذاك كلاهما ممنوع، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وأما الوسط فهو أن يكون توكُّله
ورَغْبته وتَعلُّقه وسؤاله لمُسبِّب الأسباب وخالقها، مع بَذْله لها والقيام بها،
فالسبب لا يُحقّق المراد وحده، ولكنّه يتحقق بتوفيق الله وتيسيره؛ يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية -رحمه الله-:
«والدعاء
من جملة الأسباب التي قدَّرها الله -سبحانه وتعالى-، وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى
الأسباب شِرْك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نَقْص في العقل، والإعراض
عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع؛ بل العبد يجب أن يكون توكُّله ودعاؤه وسؤاله
ورغبته إلى الله -سبحانه وتعالى-، والله يُقدِّر له مِن الأسباب -من دعاء الخلق
وغيرهم- ما شاء»[3].
أكَّد على أهمية هذه الأسباب الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-؛ إذ يرى أن القرآن
الكريم مِن أوله إلى آخره صريح، في ترتُّب أحكام الدنيا والآخرة، ومصالحهما
ومفاسدهما على الأسباب والأعمال، ويقول:
«ومَن
فَقُهَ هذه المسألة، وتأمَّلها حقّ التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكل على
القَدَر جهلًا منه، وعجزًا وتفريطًا وإضاعة، فيكون توكُّله عجزًا، وعَجْزه توكلًا،
بل الفقيه كل الفقيه الذي يَرُدّ القَدَر بالقَدَر، ويَدْفَع القَدَر بالقَدَر،
ويُعارض القَدَر بالقَدَر»[4].
حالات الدعاء
ما مِن مسلم يدعو الله -عز وجل- بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم؛ إلا كتب الله له
إحدى ثلاث خصال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ما
من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن
يُعجِّل له دعوته، وإما أن يدَّخِرَها له في الآخرة، وإما أن يَصْرف عنه من السوء
مثلها، قالوا: إذًا نُكْثِر، قال: الله أكثر»[5].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«لا
يزيد في العُمر إلا البِرّ، ولا يَرُدّ القَدَر إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحْرَم
الرزق بالذنب يصيبه»[6]،
وقال -عليه الصلاة والسلام-:
«لا
يَرُدّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر»[7]،
وقال صلى الله عليه وسلم :
«لا
يُغْنِي حَذَر مِن قَدَر، والدعاء يَنْفَع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء
لينزل، فيتلقاه الدعاء، فيَعْتلجان إلى يوم القيامة»[8].
ولهذا تحدَّث ابن القيم عن حالات الدعاء مع البلاء، فقال:
«وله
مع البلاء ثلاثة مقامات:
أحدها:
أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني:
أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيُصَاب به العبد، ولكن قد يُخفّفه، وإن
كان ضعيفًا.
الثالث:
أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه»[9].
وهذه الأحاديث النبوية، والنصوص الواردة عن الأئمة، كلها دالّة على أهمية الدعاء،
وأن المؤمن ينال الخير في جميع حالاته، فهو إما أن يُحقّق الله له مراده فيستجيب
دعاءَه، وإما أن يَدَّخره له في الآخرة، وإما أن يَصْرف عنه مِن الشَّرِّ بمثل ما
دعا، فلا يَرُدّ القَدَر إلا الدعاء، وعجبًا لهذا الداعي إن أمره كله خير، فكيف إذا
كان الداعي في كلّ ذلك مُحقِّقًا لمقام العبودية؟! إذ الدعاء هو العبادة، كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«الدعاء
هو العبادة؛ ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾
[غافر: ٦٠]»[10].
ولا يعجز عن الدعاء ولا يَدَعه إلا مَغْبُون، فما ارتفعت يدٌ للمولى الكريم المنان
ورُدَّتْ خائبة، ولم تُرْفَع يد إلى رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما إلا وقد أُعطيت؛
فالحديث يدلّ على أن الداعي يُعْطَى إحدى ثلاث ولا بد، ولكنْ هناك فرق بين استجابة
الدعاء، وقضاء الحاجات؛ إذ استجابة الدعاء أوسع وأشمل، فقد يَستجيب الله للداعي،
فيعطي العبد أجورًا يدَّخرها له يوم القيامة، أو قد يَصْرف عنه من الشرِّ بمثل ما
دعا، ولكن لا يُحقّق الله له مطلوبه ومراده؛ لحكمة يعلمها الحكيم الخبير -سبحانه
وتعالى-.
موانع الإجابة
مِن أبرز موانع إجابة الدعاء التي جاءت بها النصوص الشرعية: الاستعجال في تحقّق
الدعاء، فيدعو العبد ثم يتأخر تحقّق مراده وسؤاله، فحينها يستطيل الوقت، ويقول في
نفسه ولغيره: لقد دعوت ودعوت ولكن لم يتحقق مطلوبي، وهو يقوله من باب التحسُّر
واستبطاء الإجابة، ثم يسأم من الدعاء فيَدَعَهُ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
لهؤلاء:
«ولا
يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يُستجاب له ما لم يَعْجَل، فيقول: قد دعوتُ
ودعوتُ فلم يُستجبْ لي، ولْيَعْلَم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع
العسر يسرًا، ولم ينل أحد شيئًا من ختم الخير، نبيّ فمن دونه، إلا بالصبر»[11].
وتعرَّض الإمام ابن القيم لهذا الاستعجال واستبطاء الإجابة، وشبَّه حال صاحبه بمَن
بذر بذرًا وغرس غرسًا وتعاهده بالسقي، فتركه وأهمله لما استبطأ إدراك كماله، فقال:
«ومِن
الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر
ويدع الدعاء، وهو بمنزلة مَن بذر بذرًا أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما
استبطأ كماله وإدراكه؛ تركه وأهمله. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:
«يُستجاب
لأحدكم ما لم يَعْجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي»،
وفي صحيح مسلم عنه:
«لا
يزال يُستجاب للعبد، ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل»،
قيل: يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال يقول:
«قد
دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء»[12].
لا تقتصر موانع الدعاء على الاستعجال، بل هناك أسباب أخرى تُؤثّر في استجابة الدعاء
وتحقّق أثره، منها: أن يكون الدعاء في نفسه ضعيفًا؛ لما اشتمل عليه من الأمور التي
لا يُحبّها الله، مثل العدوان والاعتداء في الدعاء، وإما لضَعْف قلب الداعي حين
دعائه، فهو قلب غافل لاهٍ لا يُقْبِل على الله في وقت الدعاء، وإما لحصول بعض ما
يمنع الإجابة مثل المعاصي والذنوب والشهوات، من أكل الحرام والظلم ورَيْن القلوب،
واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو، وغلبتها عليها[13].
وفي موضع آخر يُوضِّح ابن القيم، بعض هذه الأسباب فيذكر أدلتها من الكتاب والسنة،
ويقول:
«كما
في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«ادعوا
الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء مِن قلبٍ غافلٍ لاهٍ»؛
فهذا دواء نافع مُزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته.
وكذلك أكل الحرام يُبطل قوّته ويُضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«يا
أيها الناس، إن الله طيّب، لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به
المرسلين؛ فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} [المؤمنون: 51]، وقال:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
[البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر، يَمُدّ يديه إلى السماء: يا
رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب
لذلك!»[14].
ويتحصل مما سبق أن موانع إجابة الدعاء تتعلق بأمرين:
الأول:
الداعي نفسه، وذلك إما لاستعجاله واستبطائه الإجابة، أو غفلته ولَهْوه وعدم اجتماع
قلبه على الدعاء، أو بما فعَله من المعاصي والشهوات، التي تمنع استجابة الدعاء.
الأمر الثاني:
هو ما يكون في الدعاء نفسه، مما لا يُحبّه الله من الاعتداء والعدوان، كالدعاء
بالإثم وقطيعة الرحم، ونحوها.
وبالجملة فإن جماع ذلك كله، أن يقال: إن هذه
«الأدعية
والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحدِّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا
تامًّا لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود؛ حصلت به النكاية في العدو،
ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة تخلَّف التأثير، فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح،
أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَم مانع من الإجابة؛ لم يحصل
الأثر»[15].
[1] انظر: الداء والدواء، ابن القيم، (ص11).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/229).
[3] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (1/131).
[4] الداء والدواء، ابن القيم، (ص34).
[5] صحيح الترغيب والترهيب، الألباني، رقم الحديث (1633).
[6] صحيح ابن ماجه، الألباني، رقم الحديث (73).
[7] صحيح الترمذي، الألباني، رقم الحديث (2139).
[8] صحيح الجامع، الألباني، رقم الحديث (1014).
[9] الداء والدواء، ابن القيم، (ص12).
[10] صحيح الترمذي، الألباني، رقم الحديث (3247).
[11] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (10/137).
[12] الداء والدواء، ابن القيم، (ص15).
[13] انظر: الداء والدواء، ابن القيم، (ص9).
[14] الداء والدواء، ابن القيم، (9- 10).
[15] الداء والدواء، ابن القيم، (ص26).