• - الموافق2025/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مُجدّد المائة الثانية  الإمام الشافعي رحمه الله  (2-2)

الإمام الشافعي رمز العلم والتقوى، جمعت سيرته بين الفقه العميق، التواضع، وحب العلماء له، محافظًا على السنة والحق، متميزًا بصحة الرواية، ونبذ الأهواء، جامعًا بين علوم مالك وأبي حنيفة، ومصدر إلهام للأجيال.

 

سبق الحديث عن الإمام الشافعي ومكانته وسعة عِلْمه، وتواضعه وخضوعه للحق وبذله للنصح، ونستكمل في هذا العدد ذكر بعض مآثر الإمام، فنقول وبالله تعالى التوفيق ومنه الإعانة والقبول:

دعاء العلماء للشافعي ومحبتهم له:

قال يحيى بن سعيد: «أنا أدعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربع سنين»[1]، وقال أبو ثور: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: «ما أُصلّي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها»[2]

قال يحيى القطان: «أنا أدعو الله للشافعي، أخصّه به، وقال أبو بكر بن خلاد: أنا أدعو الله في دبر صلاتي للشافعي»[3]، وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «ستة أدعو لهم سحرًا، أحدهم الشافعي»[4].

قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: أيّ رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تُكثر من الدعاء له؟ قال: «يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خَلَف، أو فيهما عِوَض؟»[5].

العلاقة بين الشافعي وأحمد بن حنبل:

جمعت بين الإمامين الشافعي وأحمد بن حنبل علاقة مميزة، ورابطة تُجسِّد المحبة والتقدير والاعتراف بالفضل والعلم، ولذلك شواهد، فقد قال المزني: قال لي الشافعي: «رأيت ببغداد شابًّا، إذا قال: حدّثنا، قال الناس كلهم: صدق، قلت: ومَن هو؟ قال: أحمد بن حنبل».

وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: «خرجت من بغداد، فما خلّفت بها رجلاً أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل»، وقال الزعفراني: قال لي الشافعي: «ما رأيت أعقل من أحمد، وسليمان بن داود الهاشمي»[6].

قال محمد بن إسحاق بن راهويه: حدثني أبي، قال: قال لي أحمد بن حنبل: «تعالَ حتى أُريك مَن لم يُرَ مثله، فذهب بي إلى الشافعي، قال أبي: وما رأى الشافعي مثل أحمد بن حنبل»[7].

وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبي -وذُكِرَ عنده الشافعي رحمه الله- فقال: «ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه، ثم قال عبد الله: كل شيء في كتاب الشافعي: حدثنا الثقة، فهو عن أبي»[8].

قال إبراهيم الحربي: سألت أبا عبدالله عن الشافعي، فقال: «حديث صحيح ورأي صحيح»[9].

وقال أبو داود: «ما رأيت أبا عبدالله يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي»[10]، كما قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد يقول: «ما أحد مسَّ محبرة ولا قلمًا؛ إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة»[11].

قال الإمام أحمد: «كان الشافعي إذا ثبت عنده الخبر قلَّده، وخير خصلة فيه لم يكن يشتهي الكلام، إنما هِمّته الفقه»[12]، وقال الحسن الزعفراني: ما قرأت على الشافعي حرفًا من هذه الكتب، إلا وأحمد حاضر»[13].

وجاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل، فبينا هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته، فوثب أحمد يُسلّم عليه وتبعه، فأبطأ ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله كم هذا؟ فقال: دَعْك عن هذا؟ إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة»[14].

وقال أحمد بن العباس النسائي: سمعت أحمد بن حنبل ما لا أحصيه وهو يقول: «قال أبو عبدالله الشافعي، ثم قال: ما رأيت أحدًا أتبع للأثر من الشافعي»[15].

قال أحمد بن حنبل: «إذا سُئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرًا؛ قلت فيها بقول الشافعي؛ لأنه إمام قرشي، وقد رُوِيَ عن النبي #، أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علمًا»، إلى أن قال أحمد: «وإني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي»[16].

مذهب الشافعي في أهل الكلام وسائر الأهواء:

لما كان الإمام الشافعي يرى ما أحدثه أهل الكلام في العراق وغيرها من البلدان، من الاستعلان بنشر شُبَههم وصريح الدعوة إلى بدعتهم، مع ما وصلوا إليه من المنزلة الخطيرة عند أهل الحل والعقد؛ فإن الشافعي -رحمه الله- قد أَوْلَى أَمْر الدفاع عن طريقة السلف عنايةً بالغةً»[17].

وإليك طائفة من نصوصه في التحذير من عِلْم الكلام؛ حيث قال الشافعي: «لأن يلقى اللهَ العبدُ بكلِّ ذنب إلا الشرك، خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء»[18]، وقال: «لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء؛ لفرُّوا منه كما يفرون من الأسد»[19]، وقال: «ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح»[20].

كما كان الشافعي بعد أن ناظَر حفصًا الفرد، يكره الكلام، وكان يقول: «والله لأن يفتي العالم فيقال: أخطأ العالم خير له من أن يتكلم فيقال: زنديق، وما شيء أبغض إليَّ من الكلام وأهله»[21]، وقال: «ما ناظرتُ أحدًا في الكلام إلا مرة، وأنا أستغفر الله من ذلك»[22].

وقال صالح بن جزرة: سمعت الربيع يقول: قال الشافعي: «يا ربيع، اقبلْ مني ثلاثة: لا تَخُضْ في أصحاب رسول الله #، فإن خَصْمك النبي # غدًا، ولا تشتغل بالكلام فإني اطلعت من أهل الكلام على التعطيل، وزاد المزني: ولا تشتغل بالنجوم»[23].

قال محمد بن داود: «لم يحفظ في دهر الشافعي كله أنه تكلم في شيء من الأهواء، ولا نُسِبَ إليه ولا عُرِفَ به، مع بُغْضه لأهل الكلام والبدع»[24]، وقال المزني: «كان الشافعي ينهى عن الخوض في الكلام»[25].

ويروى عن الربيع: سمعت الشافعي يقول في كتاب الوصايا: «لو أن رجلًا أوصى بكُتُبه من العِلْم لآخر، وكان فيها كُتب الكلام، لم تدخل في الوصية؛ لأنه ليس من العلم»[26].

قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس: قلت للشافعي: صاحبنا الليث يقول: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته، قال: «قصَّر، لو رأيته يمشي في الهواء لما قبلته»[27].

حُكمه في أهل الكلام والأهواء:

قال الشافعي: «حُكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ»[28]، وقال: «حُكمي في أهل الكلام أن يُضْرَبُوا بالجريد، ويُحْمَلوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر يُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام»[29].

وقال أيضًا: «مذهبي في أهل الكلام، تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد»[30].

وعلَّق الذهبي على هذا، فقال: «قلت: لعل هذا متواتر عن الإمام»[31].

المؤاخذات على الإمام الشافعي والكلام فيه:

نال الإمام الشافعي بعض الاتهامات والمؤاخذات، ويمكن تصنيفها إلى قسمين:

أولاً: تهمة التشيّع

اتُّهم الإمام الشافعي بالتشيُّع، وهو ما ردّه الإمام أحمد بن حنبل، حينما سئل عن الشافعي، فقال: «لقد منَّ الله علينا به، لقد كنّا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم؛ حتى قدم علينا فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا منه إلا كل خير. فقيل له: يا أبا عبد الله كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه -يشير إلى التشيّع وأنهما نسباه إلى ذلك-؟ فقال أحمد بن حنبل: ما ندري ما يقولان، والله ما رأينا منه إلا خيرًا»[32].

علّق الذهبي على هذا الاتهام، فقال: «قلت: مَن زعم أن الشافعي يتشيّع فهو مُفْترٍ، لا يدري ما يقول»[33].

وقال الربيع بن سليمان: «حججنا مع الشافعي فما ارتقى شرفًا ولا هبط واديًا، إلا وهو يبكي وينشد:

يا راكبًا قف بالمحصّب من منى

واهتف بقاعد خيفنا والناهض

سَحَرًا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضًا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضًا حُبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافضي»[34]

علق الذهبي على هذا، فقال: «قلت: لو كان شيعيًّا -وحاشاه من ذلك-، لما قال: الخلفاء الراشدون خمسة؛ بدأ بالصديق وختمه بعمر بن عبدالعزيز»[35]، وهو يشير إلى ما قاله أبو حاتم: حدثنا حرملة: سمعت الشافعي يقول: «الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبدالعزيز»[36].

وكيف يصح نسبته إلى التشيع وهو يفتي بترك الصلاة خلف الرافضي؟! فقد قال الساجي: حدثنا إبراهيم بن زياد الأبلّي، سمعت البويطي يقول: سألت الشافعي: أصلّي خلف الرافضي؟ قال: «لا تُصلِّ خلف الرافضي، ولا القدري ولا المرجئ». قلت: صِفْهم لنا. قال: من قال الإيمان قول فهو مرجئ، ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري»[37].

كما قال في الرافضة: «لم أر أحدًا من أصحاب الأهواء أشهد بالزور من الرافضة»[38]، وعن طريق يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي إذا ذُكِرَ الرافضة عابَهم أشد العيب، ويقول: «شرّ عصابة»[39].

ثانيًا: الخلاف مع أتباع الإمام مالك وأبي حنيفة:

انتهت رياسة الفقه في مكة إلى العالِم عبدالملك بن عبدالعزيز الشهير بابن جريج، المتوفى سنة 150هـ، فأخذ الشافعي علمه من أصحابه، قال أبو الوليد بن أبي الجارود: «كنا نتحدث نحن وأصحابنا من أهل مكة، أن الشافعي أخذ كتب ابن جريج عن أربعة أنفس: عن مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم وهذان فقيهان، وعن عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي داوود، وكان من أعلمهم بابن جريج، وعن عبدالله بن الحارث المخزومي وكان من الأثبات.

كما انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة؛ فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حِمْل جَمَل، ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له عِلْم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك، حتى أصَّل الأصول وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره وارتفع قَدْره، حتى صار ما صار»[40].

وقد كان شيخ الحرم بعد الصحابة: عطاء، ومجاهد، وخلفهما: قيس بن سعد، وابن جريج، ثم تفرد بالإمامة: ابن جريج، فدوَّن العِلْم، وحمل عنه الناس، وعليه تفقّه مسلم بن خالد الزنجي، وتفقه بالزنجي الإمام أبو عبد الله الشافعي، وكان الشافعي بصيرًا بعلم ابن جريج، عالمًا بدقائقه، وبعلم سفيان بن عيينة[41].

حدث الربيع عن الشافعي فقال: «وسألني عن أهل مصر، فقلت: هم فرقتان، فرقة مالت إلى قول مالك وناضلت عليه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عليه، فقال: أرجو أن أقدم مصر -إن شاء الله-، فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا، قال الربيع: ففعل ذلك والله حين دخل مصر»[42].

موقف الشافعي من الإمام أبي حنيفة وتلاميذه:

كان الشافعي يَعرف لأبي حنيفة فَضْله وعلمه، فقال: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة»[43]، علَّق الذهبي على هذا فقال: «قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مُسلَّمة إلى هذا الإمام، وهذا أمرٌ لا شك فيه.

وليس يصح في الأذهان شيء

 إذا احتاج النهار إلى دليل

وسيرته تحتمل أن تُفرَد في مجلدين، رضي الله عنه ورحمه»[44].

وكذلك كان الشافعي يعرف فضل ومكانة أحد تلاميذ الإمام أبي حنيفة، هو ومحمد بن الحسن، فقد كان الشافعي يقول: «كتبت عنه وَقْر بُختيّ، وما ناظرت سمينًا أذكى منه، ولو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلتُ؛ لفصاحته»[45].

وتبعًا لهذه المكانة، فقد نقل البويطي، سبب اهتمام الشافعي بكتب محمد بن الحسن، فقال: قال الشافعي: «اجتمع عليَّ أصحاب الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة، فقلت: لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فأمرتُ تُكتَب لي كتب محمد بن الحسن، فنظرت فيها سنة حتى حفظتها، ثم وضعت الكتاب البغدادي، يعني: الحجّة»[46].

وإلى مثل هذا أشار الذهبي حينما أورد قول أحمد بن سريج: سمعت الشافعي، يقول: «قد أنفقت على كتب محمد ستين دينارًا ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثًا، يعني: ردَّ عليه»[47].

وفي المقابل كان أتباع الإمام أبي حنيفة يعرفون للشافعي فَضْله ومنزلته، فقد علَّق شيخ أصحاب الرأي أبو موسى الضرير، على علوّ ذِكْر الشافعي واجتماع الناس على قوله، فقال: «أقول: إن الشافعي أراد اللهَ بعِلْمه؛ فرَفعه الله»[48].

وفي مثل هذا قال الشافعي: «إذا خفتَ على عملك العُجْب، فاذكر رضى مَن تطلب، وفي أيّ نعيم ترغب، ومن أيّ عقاب ترهب، فمن فكّر في ذلك صغر عنده عمله»[49].

وهنا أستحضر ما قيل في الإمام مالك؛ حيث قال الذهبي: حدثنا نعيم بن حماد، سمعت ابن المبارك يقول: «ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة»[50].

وعلق الذهبي فقال: «قلت: ما كان عليه من العلم ونشره، أفضل من نوافل الصوم والصلاة، لمن أراد به الله»[51].

موقف الشافعي من الإمام مالك:

ورد عن الشافعي كثيرٌ من الأقوال في الثناء على شيخه الإمام مالك بن أنس، ومنها قوله: «إذا جاء الأثر فمَالِك النجم»[52]، وقال ابن أبي عمر العدني: سمعت الشافعي يقول: «مَالِك مُعلّمي، وعنه أخذتُ العلم»[53].

 وقال كذلك: «إذا جاء الحديث عن مالك، فشُدّ به يديك»[54]، كما امتدح كتابه الموطأ، فقال: «ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابًا من موطأ مالك»[55]، وقال الإمام الشافعي: «لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز»[56].

قال البويطي: سمعت الشافعي يقول: «أصول الأحكام نيف وخمس مائة حديث، كلها عند مالك، إلا ثلاثين حديثًا، وكلها عند ابن عيينة، إلا ستة أحاديث»[57].

وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: «لم يزل الشافعي يقول بقول مالك، لا نخالفه إلا كما يخالفه أصحابه... وإلا فالدهر إذا سُئِلَ عن الشيء، يقول: هذا قول الأستاذ، يريد مالكًا»[58].

كما كان أتباع الإمام المالك يُقِرُّون بفضل الشافعي وعِلْمه، فقال الذهبي: «وقد اعترف الإمام سحنون وقال: لم يكن في الشافعي بدعة، فصدق والله، فرحم الله الشافعي، وأين مثل الشافعي والله! في صِدْقه وشَرفه ونُبله وسعة عِلْمه، وفرط ذكائه ونَصْره للحق، وكثرة مناقبه -رحمه الله تعالى-»[59].

بَدْء الخلاف مع أتباع الإمام مالك:

قال البيهقي: «قرأت في كتاب زكريا بن يحي الساجي، فيما حدّثه البصريون أن الشافعي، إنما وضع الكتب على مالك؛ أنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُسْتَسْقَى بها، وكان يقال لهم: قال رسول الله #، فيقولون قال مالك؛ فقال الشافعي: إن مالكًا بشر يخطئ، فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه، وكان يقول: استخرت الله تعالى في ذلك سنة»[60].

وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، يقول: «قدمت مصر ولا أعرف أن مالكًا يخالف في أحاديثه إلا ستة عشر حديثًا، فنظرت فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل»[61].

قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: «لم يزل الشافعي يقول بقول مالك، لا نخالفه إلا كما يخالفه أصحابه، حتى أكثر فتيان على الشافعي من خلفه بالألفاظ التي لا تجوز، فعمد الشافعي إلى التصنيف في خلاف مالك، وإلا فالدهر إذا سئل عن الشيء، يقول: هذا قول الأستاذ، يريد مالكًا»[62].

وروى أبو الشيخ الحافظ وغيره من غير وجه: «أن الشافعي لما دخل مصر أتاه جِلّة أصحاب مالك وأقبلوا عليه؛ فلما رأوه يخالف مالكًا وينقض عليه؛ جفوه وتنكّروا له»[63].

قال الإمام الذهبي: «وكنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام -رحمه الله-؛ فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال مَن تعرَّض إلى الإمام، ولله الحمد، ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه المالكية، ووهَّى بعض فروعهم بدلائل السُّنة، وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه ونالوا منه، وجرى بينهم وحشة؛ غفر الله للكل»[64].

ومن ذلك ما قاله الربيع: «أصحاب مالك كانوا يفخرون فيقولون: إنه يحضر مجلس مالك نحو ستين مُعمَّمًا، والله لقد عددت في مجلس الشافعي ثلاث مئة مُعمَّم، سوى من شذ عني»[65].

قال أبو عبدالله بن منده: حُدِّثت عن الربيع قال: رأيت أشهب بن عبدالعزيز ساجدًا يقول في سجوده: «اللهم أَمِت الشافعي؛ لا يذهب عِلْم مالك»[66].

نقل الذهبي رأي الشافعي فيه، فقال: «ويكفيه قول الشافعي فيه: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب، لولا طيش فيه»[67].

ثم ذكر الإمام الذهبي تعليقًا على دعاء أشهب فقال: «ودعاء أشهب على الشافعي من باب كلام المتعاصِرَيْن بعضهم في بعض، لا يُعْبَأ به، بل يُتَرَحَّم على هذا، وعلى هذا، ويُسْتَغْفَر لهما»[68].

قال الشافعي عن الخلاف الذي دار بشأنه: «يقولون إني أخالفهم للدنيا! وكيف يكون ذلك والدنيا معهم، وإنما يريد الإنسان الدنيا لبَطْنه وفرجه، وقد مُنِعْتُ ما ألذ من المطاعم ولا سبيل إلى النكاح -يعني لما كان به من البواسير-، ولكن لست أخالف إلا مَن خالف سُنة رسول الله #»[69].

تعليق الذهبي على دعاوى المناوئين للإمام الشافعي:

يرى الذهبي أن ما وقع لبعض العلماء مع الشافعي، هو من كلام الأقران الذي لا يخلو من هوى، وهذا هو حال ومآل كلّ مَن تصدَّر للناس، وبرز في الإمامة، فقال: «ونال بعض الناس منه غضًّا، فما زاده إلا رفعةً وجلالةً، ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى، وكل مَن برّز في الإمامة وردَّ على مَن خالفه إلا وَعُودِيَ، نعوذ بالله من الهوى، وهذه الأوراق تضيق عن مناقب هذا السيد»[70].

وفي معرض حديثه عن الكلام الذي قيل في الشافعي، بيَّن الإمام الذهبي المنهج في التعامل مع ما وقع بين الصحابة والتابعين، وما يجري بين الأقران وكلام بعضهم في بعض، وأبان أن من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وأن لحوم العلماء مسمومة، فقال: «كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه هوى وعصبية، لا يُلْتَفت إليه بل يُطْوَى ولا يُرْوَى، كما تقرَّر الكَفُّ عن كثير مما شجَر بين الصحابة وقتالهم -رضي الله عنهم أجمعين-، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طَيْه وإخفاؤه بل وإعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوافر على حبّ الصحابة والترضي عنهم.

 وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يُرخَّص في مطالعة ذلك خلوةً، للعالم المنصف العَرِيّ عن الهوى، بشرط أن يَستغفر لهم، كما علمه الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]؛ فالقوم لهم سوابق وأعمال مُكفّرة لما وقع منهم، وجهاد مَحَّاء وعبادة مُمَحِّصَة، ولستُ ممن يغلو في أحد منهم، ولا يدَّعي فيهم العصمة، فنقطع بأن بعضهم أفضل من بعض... فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نُعرِّج عليه ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الرافضة رواية الأباطيل، أو ردّ ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة مَن به سَكَران؟!

ثم قد تكلم خلقٌ من التابعين بعضهم في بعض، وتحاربوا وجَرَت أمورٌ لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بَثّها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة، وما نُقِلَ من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وَهْمه أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الصحيح.

وإمامنا -بحمد الله- ثَبْت في الحديث حَافِظ لما وعى، عديم الغلط، موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهلٍ وهوًى، ممن علم أنه منافس له؛ فقد ظلم نفسه، ومَقَتته العلماء ولاح لكل حافظ تحامُله، وجرَّ الناس برجله، ومَن أثنى عليه واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل العقد والحل قديمًا وحديثًا؛ فقد أصابوا وأجملوا وهُدوا ووُفِّقُوا»[71].

الخاتمة:

ختم الإمام الذهبي تعريفه بسيرة الإمام الشافعي بهذه العبارات، فقال: «لا نُلام -والله- على حُبّ هذا الإمام؛ لأنه من رجال الكمال في زمانه -رحمه الله-، وإن كنا نُحِبّ غيره أكثر»[72].

رحم الله أئمتنا الأعلام وعلماءنا، وغفر لهم، وتقبَّل جهودهم، وكتب أجرهم، وجزاهم خير الجزاء


 


[1]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 86).

[2]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 44).

[3]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 20).

[4]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 45).

[5]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 45).

[6]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (11/ 195).

[7]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (11/ 196).

[8]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (11/ 210).

 [9]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).

[10]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 45).

[11]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).

 [12]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 26).

 [13]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).

[14]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 86-87).

[15]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 87).

[16]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 82).

 [17]  جهود الشافعية في تقرير توحيد العبادة، عبدالله العنقري، (ص16).

[18]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 16).

[19]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 16).

[20]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 18).

[21]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 18-19).

[22]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 30).

[23]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 28).

[24]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 26).

[25]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 30).

[26]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 30).

[27]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 23).

[28]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29)، وهو صبيغ بن عسل كان يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر فأعدَّ له عراجين النخل، وضربه بها فشج رأسه حتى سال الدم منه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب والله الذي أجد في رأسي، وأمر الناس بترك مجالسته. انظر: الإبانة، ابن بطة، (1/ 414-417، 609).

[29]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29).

[30]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29).

[31]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29).

[32]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 58).

[33]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 58).

[34]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 58).

[35]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 59).

[36]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 20).

[37]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 31).

[38]  آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص144).

[39]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص111).

[40]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (72-73).

[41]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (6/ 332).

[42]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص152).

[43]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (6/ 403).

[44]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (6/ 403).

[45]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (9/ 135).

[46]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص147).

 [47]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 15).

 [48]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص149).

[49]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 42).

[50]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 97).

[51]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 97).

[52]  آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص150).

[53]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 75).

 [54]  آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص151).

[55]  آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص150).

[56]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 457).

[57]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 459).

[58]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (153-154).

[59]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 95).

[60]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (147-148).

[61]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص148).

[62]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (153-154).

[63]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 71).

[64]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 94-95).

[65]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 39).

[66]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 72).

[67]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (9/ 501).

[68]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (9/ 503).

[69]  توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص149).

[70]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 8-9).

[71]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 92-93).

[72]  سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 99).

 

 

أعلى