يسلط المقال الضوء على الإمام الشافعي كعالم فذ ومناظر لا يُشق له غبار، عُرف بسخائه وفصاحته وعمق عبادته. وتتجلى عظمته في خضوعه المطلق للحق، حيث جعل من السنة النبوية المرجع الأسمى الذي يجب تقديمه على كل رأي.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخليله
وصفوته من خلقه؛ نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك
سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد جاءت تسمية هذا المقال بهذا العنوان، اعتمادًا على ما نُقِلَ عن
الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، فقد قال الذهبي:
«وقال
أحمد بن حنبل من طرق عنه: إن الله يُقيِّض للناس في رأس كل مائة، مَن يُعلِّمهم
السُّنة، وينفي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم الكذب، قال: فنظرنا فإذا في رأس المئة عمر بن عبدالعزيز،
وفي رأس المئتين الشافعي»[1].
وسيكون موضوعنا هو إبراز بعض الجوانب المضيئة من حياة هذا الإمام، وذِكْر بعض
أقواله ومواقفه في نُصْرة الشريعة والذّبّ عن العقيدة، ومواقفه مع أئمة المذاهب
الفقهية وأتباعهم وأقواله بشأنهم، والوقوف على بعض جوانب سيرته العطرة، وسيكون جُلّ
اعتمادنا على ما ذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء[2]،
مع الالتزام بنصه قَدْر الإمكان، وأحيانًا تقتضي الحاجة إيضاح الفكرة، وشرحها
وبيانها أو تأكيدها من مصادر أخرى.
وطبيعة هذا المقال هو الاستعراض العام، وتناول أهم الجوانب، وليس مقصوده استيعاب كل
ما ذُكِرَ عن الإمام الشافعي.
التعريف به[3]:
عالِم العصر وناصر الحديث، وفقيه المِلَّة؛ الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس
الشافعي، وُلِدَ في غزة وقيل عسقلان، في اليوم الذي تُوفِّي فيه الإمام أبو حنيفة
-رحمه الله-، ثم تُوفِّي والده ونشأ يتيمًا في حجر والدته، فلما بلغ السنتين ارتحلت
به إلى مكة ونشأ بها، وأقبل على الرمي حتى فاق أقرانه، ثم حُبِّب إليه الفقه فساد
أهل زمانه، ثم ارتحل وهو ابن نيّف وعشرين سنة إلى المدينة، فحمل عن الإمام مالك بن
أنس الموطأ، كما ارتحل إلى اليمن وطلب العلم بها واستُعمل بها؛ فحُمِدَت سيرته وطار
ذِكْره وعلا شأنه.
حدثت للإمام الشافعي قصة طريفة، حينما حُبِسَ مع قوم من الشيعة، بسبب اتهامه
بالتشيع، فرأى رؤيا ودعا أحد المُعبّرين ليعبرها له، فقال: إن صدقت رؤياك شُهِرْتَ
وذُكِرْتَ وانتشر أمرك[4].
وفي رواية أخرى: إن صدقتْ رؤياك لم يبقَ موضع في الشرق أو في الغرب، يُذْكَر فيه
عليّ بن أبي طالب إلا ذُكِرْت فيه[5].
وقد كان.
وقد اتُّهِمَ عند الخليفة هارون الرشيد بأنه يريد الخلافة؛ فحُمِلَ مُقيَّدًا إلى
بغداد في عام 184هـ، وبعد اجتماعه بالخليفة ظهرت براءته مما نُسِبَ إليه، فأكرمه
وأحسن إليه ثم عاد إلى مكة.
وفي عام 195هـ قدم الشافعي إلى العراق، وبقي فيها سنين، أفاد من علمائها، ثم رجع
إلى مكة، وفي عام 199هـ، وقيل 200هـ، قدم الشافعي إلى مصر، واستقر بها حتى توفي سنة
204هـ[6].
ملخّص لتواريخ ميلاد ووفاة الأئمة الأربعة ومحمد بن الحسن:
م |
الإمام |
تاريخ الولادة |
تاريخ الوفاة |
1 |
أبو حنيفة (النعمان بن ثابت) |
80هـ |
150هـ |
2 |
مالك بن أنس |
93هـ |
179هـ |
3 |
محمد بن الحسن الشيباني |
132هـ |
189هـ |
4 |
محمد بن إدريس الشافعي |
150هـ |
204هـ |
5 |
أحمد بن حنبل |
164هـ |
241هـ |
فصاحته وأسلوبه:
وصَف الإمام الذهبي ذلك فقال:
«أبو
عبدالله القرشي، ثم المطلبي، نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه؛ إذ
المطلب هو أخو هاشم والد عبدالمطلب، وكان أخواله من الأزد، برع في العربية والشعر»[7].
وعن عبدالملك بن هشام اللغوي، أنه
«قال:
طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعنا منه لحنة قط»[8]،
علّق الذهبي على هذا، فقال:
«قلت:
أَنَّى يكون ذلك، وبمثله في الفصاحة يُضْرَب المثل، كان أفصح قريش في زمانه، وكان
مِمَّن يُؤخَذ عنه اللغة»[9].
قال أحمد بن أبي شريح الرازي: ما رأيت أحدًا أفوه، ولا أنطق من الشافعي»[10]،
وقال ثعلب:
«الشافعي
إمام في اللغة»[11]،
وعن أحمد:
«كان
الشافعي من أفصح الناس»[12].
كما قال الإمام أحمد:
«الشافعي
فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه»[13]،
وقال الربيع بن سليمان:
«كان
الشافعي -والله- لسانه أكبر من كتبه، لو رأيتموه لقلتم: إن هذه ليست كتبه»[14].
قال أبو نعيم بن عدي الحافظ:
«سمعت
الربيع مرارًا يقول: لو رأيت الشافعي وحُسْن بيانه وفصاحته لعجبت، ولو أنه ألَّف
هذه الكُتب على عربيته، التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة، لم نقدر على قراءة
كتبه؛ لفصاحته وغرائب ألفاظه، غير أنه كان في تأليفه يُوضّح للعوام»[15].
وعن يونس بن عبد الأعلى، قال:
«ما
كان الشافعي إلا ساحرًا، ما كنا ندري ما يقول، إذا قعدنا حوله كأن ألفاظه سُكّر...
وكان قد أُوتِي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهن، وكمال فصاحة، وحضور
حُجّة»[16].
الكرم والسخاء وحُسْن الخُلق:
عُرِفَ الإمام الشافعي بالجود فكان سخيًّا كريمًا لا يكاد يُمْسِك الشيء، ومن ذلك
ما ورد عن أبي ثور، أنه قال:
«قلّ
ما كان يُمسك الشافعي الشيء من سماحته»[17]،
وقال عمر بن سوّاد:
«كان
الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام»[18]،
وقال الربيع:
«كان
الشافعي مارًّا بالحذائين فسقط سوطه، فوثب غلام ومسحه بكمه وناوله، فأعطاه سبعة
دنانير»[19].
كما قال الربيع:
«تزوجت
فسألني الشافعي: كم أصدقتها؟ فقلت: ثلاثين دينارًا، عجّلت منها ستة؛ فأعطاني أربعة
وعشرين دينارًا»[20]،
وقال الربيع:
«أخذ
رَجُل برِكَاب الشافعي، فقال لي: أَعْطِه أربعة دنانير، واعذرني عنده»[21].
وقال ابن عبد الحكم:
«كان
الشافعي أسخى الناس بما يجد، وكان يمر بنا، فإن وجدني وإلا قال: قولوا لمحمد إذا
جاء يأتي المنزل؛ فإني لا أتغدى حتى يجيء»[22]،
وقال أبو ثور:
«كان
الشافعي من أسخى الناس، يشتري الجارية الصَّناع التي تطبخ وتعمل الحلواء، وكان يقول
لنا: اشتهوا ما أردتم»[23]؛
أي: من الطعام والحلواء تَصنعه لكم.
وقال عمرو بن سواد:
«كان
الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام».
وقال لي الشافعي:
«أفلستُ
من دهري ثلاثة إفلاسات، فكنتُ أبيع قليلي وكثيري، حتى حُلِيّ ابنتي وزوجتي، ولم
أرهن قط»[24].
روى الشافعي قصةً وقعت بين رجاء بن حيوة وابن شهاب الزهري، وكأن فيها تسليةً لنفسه،
وبيانًا بأن هذا هو حال الكرام؛ فقال:
«عاتَب
رجاءُ بنُ حيوة الزُّهريَّ في الإنفاق والدَّيْن، فقال: لا تأمن مِن أن يُمْسِك عنك
هؤلاء القوم، فتكون قد حَمَلْتَ على أمانتك، فوعَده أن يُمْسِك، فمر رجاء بن حيوة،
وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فقال له رجاء: هذا الذي افترقنا عليه؟! قال له
الزهري: انزل، فإن السّخي لا تُؤدّبه التجارب»[25].
جوانب من عبادته:
كان الشافعي ينصح أصحابه بكثرة العبادة قبل أن يُبْتَلَوْا بالرئاسة؛ فقال أحمد بن
صالح: قال لي الشافعي:
«تعبَّد
من قبل أن ترأس؛ فإنك إن ترأست لم تقدر أن تتعبد»[26].
قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم:
«ما
رأيت أحدًا أقل صبًّا للماء في تمام التطهر من الشافعي»[27]،
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي:
«ما
رأيت أحدًا أحسن صلاة من الشافعي»[28].
أدمَن الشافعيُّ النظرَ في كتاب الله، وعايَشه، وأقبل عليه، وقد تضافرت الأخبار
والنصوص الدالة على عظيم تعلُّق هذا الإمام بالقرآن الكريم؛ قال الربيع بن سليمان
من طريقين عنه بل أكثر:
«كان
الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة»[29]،
ورواها ابن أبي حاتم فزاد:
«كل
ذلك في صلاة»[30]،
وقال حسين الكرابيسي:
«بتُّ
مع الشافعي ليلة، فكان يُصلّي نحو ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا
أكثر فمئة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا تعوَّذ،
وكأنما جُمِعَ له بين الرجاء والرهبة جميعًا»[31].
قال الربيع بن سليمان:
«كان
الشافعي قد جزّأ الليل؛ فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام»[32]،
علَّق الذهبي على هذا:
«قلت:
أفعاله الثلاثة عبادة بالنية»[33].
وهناك مَن زاد على الختم في رمضان؛ قال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت الربيع
يقول:
«كان
الشافعي يختم القرآن في كل رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة»[34].
وقد كان من ثمرة هذا الإقبال: إدراك مراد الله -عز وجل-، فقال:
«نظرتُ
بين دفتي المصحف فعرفت مراد الله -عز وجل- في جميع ما فيه، إلا حرفين»[35]،
وعن يونس بن عبد الأعلى، قال:
«كان
الشافعي إذا أخذ في التفسير، كأنه شهد التنزيل»[36].
وكان ذلك الإقبال والنظر في المصحف حالاً دائمة للشافعي، وليس مجرد أمر عارض بحسب
ما يضطره إليه البحث كحال كثير من المحصلين، ويبين ذلك قول الربيع[37]:
«قلّما
كنت أدخل على الشافعي -رحمه الله-، إلا والمصحف بين يديه يتتبع أحكام القرآن»[38].
كما عاتب الشافعي بعض الفقهاء لانشغالهم بالفقه عن القرآن، حينما
«دخل
بعض فقهاء مصر على الشافعي في السَّحَر وبين يديه المصحف، فقال: شغَلكم الفقه عن
القرآن، إني لأُصلّي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى أصبح»[39].
مرض الشافعي:
كان الشافعي مريضًا بمرض البواسير، وربما يكون سبب هذا المرض قوله:
«أخذت
اللبان سنة للحفظ، فأعقبني صبّ الدم سنة»[40]،
و«كان
عليلاً شديد العلّة، فكان ربما يخرج الدم منه وهو راكب حتى تمتلئ سراويله ومركبه
وخفّه»[41].
وقال الربيع:
«كان
بالشافعي هذه البواسير، وكانت له لبدة محشوة بحُلّته يجلس عليها، فإذا ركب أخذت تلك
اللبدة ومشيت خلفه»[42]،
وقال الشافعي:
«وقد
مُنِعْتُ ما ألذ من المطاعم، ولا سبيل إلى النكاح -يعني لما كان به من البواسير-،
ولكن لستُ أخالف إلا من خالف سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم
»[43].
عقل الشافعي:
قال أبو عبيد:
«ما
رأيت أحدًا أعقل من الشافعي»،
وكذا قال يونس بن عبد الأعلى، حتى أنه قال:
«لو
جُمِعَتْ أُمَّة لوَسِعَهم عقلُه»[44].
وقال يونس الصدفي:
«ما
رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم
قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة»[45].
قال الذهبي معلقًا على هذه العبارة:
«قلت:
هذا يدلّ على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون»[46].
وعن الشافعي قال:
«ما
رفعتُ من أحد فوق منزلته؛ إلا وُضِع مني بمقدار ما رفعتُ منه»[47].
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول:
«يا
يونس، الانقباض عن الناس مَكْسَبة للعداوة، والانبساط إليهم مَجْلَبَة لقرناء
السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط»،
وقال لي:
«رضى
الناس غاية لا تُدْرَك، وليس إلى السلامة منهم سبيل، فعليك بما ينفعك فالزمه»[48].
وقال معمر بن شبيب:
«سمعت
المأمون، يقول: لقد امتحنتُ محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملاً»[49].
عِلْم الشافعي:
حضَّ الشافعي على العِلْم مؤكدًا على لزوم تعلُّمه؛ ليكون المؤمن على بصيرة، فجاءت
عباراته في ذلك مُنوِّهة بفضل العلم على بعض النوافل، فعن الربيع قال: سمعت الشافعي
يقول:
«قراءة
الحديث خير من صلاة التطوع».
وقال:
«طلب
العلم أفضل من صلاة النافلة»[50].
قال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي:
«أَفْتِ
يا أبا عبد الله، واللهِ آنَ لك أن تُفْتِي، وهو ابن خمس عشرة سنة»[51]،
وقال أبو ثور الكلبي:
«ما
رأيتُ مثل الشافعي، ولا رأى هو مثل نفسه»[52]،
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول:
«سُمِّيت
ببغداد ناصرَ الحديث»[53].
قال أحمد بن محمد بن بنت الشافعي: سمعت أبي وعمي يقولان:
«كان
سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا؛ التفتَ إلى الشافعي، فيقول: سلوا
هذا»[54].
وقال إسحاق بن راهويه:
«ما
تكلم أحد بالرأي -وذكر جماعة من أئمة الاجتهاد-، إلا والشافعي أكثر اتباعًا منه
وأقل خطأ منه؛ الشافعيُّ إمامٌ»[55].
وعن أبي زرعة، قال:
«ما
عند الشافعي حديث غلط»[56]،
وقال أبو داود السجستاني:
«ما
أعلم للشافعي حديثًا خطأ»[57]؛
علَّق الذهبي، فقال:
«قلت:
هذا أدلّ شيء على أنه ثقة حُجّة حافِظ، وناهيك بقول مثل هذين»[58].
قدرته على المناظرة والحِجَاج:
قال ابن عبد الحكم:
«ما
رأيت الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك،
وهو الذي علَّم الناس الحُجَج»[59]،
و عن هارون بن سعيد الأيلي، قال:
«لو
أن الشافعي ناظَر على أن هذا العمود الحجر خشب لغلب؛ لاقتداره على المناظرة»[60].
وقال الشافعي:
«ما
ناظرت أحدًا إلا على النصيحة»[61]،
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول:
«ما
ناظرت أحدًا على الغلبة، إلا على الحق عندي»[62].
لم تكن هذه النصوص المنقولة عن الشافعي، عبارات وشعارات لا حقيقة لها، بل كانت
واقعًا عمليًّا، ومن ذلك المناظرة التي جرت له مع أبي عبيد، في بيان المراد
بالقُرْء هل هو الحيض أم الطُّهر؟ فكان الشافعي يقول: إنه الحيض، وأبو عبيد يقول:
إنه الطُّهر، فلم يزل كلّ منهما يُقرِّر قوله؛ حتى تفرَّقا، وقد انتحل كلٌّ منهما
مذهب صاحبه، وتأثر بما أورده من الحجج والشواهد[63].
علَّق على هذا السبكي، فقال:
«وإن
صحَّت هذه الحكاية، ففيها دلالة على عظمة أبي عبيد، فلم يبلغنا من أحد أنه ناظر
الشافعي ثم رجع الشافعي إلى مذهبه»[64]،
وهي في واقع الأمر مدح وثناء للشافعي؛ رحم الله الجميع.
تواضع الشافعي وخضوعه للحق وبذله النصح:
قال الأصمعي: سمعت الشافعي يقول:
«العالِمُ
يَسأل عما يَعلم وعما لا يَعلم؛ فيُثَبِّت ما يعلم ويتعلم ما لا يعلم، والجاهل يغضب
من التعلم، ويأنف من التعليم»[65]،
وأخبر الشافعي أن
«ضياع
العالِم أن يكون بلا إخوان، وضياع الجاهل قلة عقله، وأضيع منهما مَن واخَى مَن لا
عقل له»[66]،
وقال أبو ثور سمعت الشافعي يقول:
«ينبغي
للفقيه أن يضع التراب على رأسه؛ تواضعًا لله وشكرًا له»[67].
قال البويطي: سمعت الشافعي يقول:
«إذا
رأيتُ رجلاً من أصحاب الحديث، فكأني رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم
»،
زاد البويطي: قال الشافعي:
«جزاهم
الله خيرًا؛ فهم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا فَضْل»[68].
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول:
«وددت
أن كل عِلْم أُعلِّمه تَعلمه الناس، أُوجَر عليه ولا يحمدوني»[69].
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي:
«أنتم
أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعْلِمْني حتى أذهب إليه، كوفيًّا
كان أو بصريًّا أو شاميًّا»[70].
قال الشافعي:
«وددت
أن الناس تعلموا هذا العلم -يعني كتبه-، على أن لا يُنْسَب إليَّ منه شيء»[71]،
وقال أيضًا:
«إذا
وجدتم في كتابي خلاف سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا بسُنّة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ودعوا ما قلتُ»[72].
وقال حرملة: قال الشافعي:
«كل
ما قلته فكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما صح؛ فهو أَوْلَى، ولا
تقلدوني»[73]،
قال الشافعي:
«كلّ
حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني»[74]،
وقال أيضًا:
«إذا
صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط»[75].
قال يونس بن عبد الأعلى للشافعي:
«ما
شيء أثقل عليّ من أن أخالف حديثًا، قد استعمله عامة من المفتين. فقال لي: ما يمنعك
من ذلك إلا التوفيق»[76].
وقال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع، قال لي الشافعي:
«لو
أردت أن أضع على كل مخالف كتابًا لفعلت، ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أُحِبّ أن
يُنْسَب إليَّ منه شيء»[77].
علَّق الذهبي على هذا الكلام، فقال:
«قلت:
هذا النَّفَس الزَّكيّ متواتر عن الشافعي»[78].
الإغلاظ والإنكار على مَن رَدَّ النصوص الشرعية:
كان الشافعي مُعظِّمًا لنصوص الشريعة، وقَّافًا عند الحق، ونُقِلَ عنه في ذلك أقوال
وأفعال، ومن ذلك قوله:
«ما
كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، ولا قَبِله إلا هِبْته، واعتقدت مودته»[79]،
وقال رجل للشافعي:
«تأخذ
بهذا الحديث يا أبا عبدالله؟ فقال: متى رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثًا صحيحًا ولم آخذ به؛ فأشهدكم أن عقلي قد ذهب»[80].
وقال الحميدي: روى الشافعي يومًا حديثًا فقلت له: أتأخذ به؟ فقال:
«رأيتني
خرجت من كنيسة، أو عليَّ زنّار، حتى إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثًا لا أقول به؟!»[81]،
كما قال الشافعي:
«أيّ
سماء تظلني وأيّ أرض تقلني، إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم
أقل به؟!»[82].
كان الشافعي يفتي الناس في مكة، وكان من الحاضرين أحمد وإسحاق، فاعترض إسحاق على
استدلال الشافعي بحديث على إحدى المسائل، فقال إسحاق: بأنّ هناك مَن لا يراه، فقال
الشافعي: مَن هذا؟ قيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه، فقال الشافعي:
«أنت
الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم! ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر
بِعَرْك أُذُنَيْك، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت تقول: عطاء
وطاووس ومنصور وإبراهيم والحسن، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّة؟!»[83].
وللحديث عن الإمام الشافعي صلة ووقفات أخرى في عدد قادم إن شاء الله تعالى.
[1] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 46).
[2] يوجد عدد من الدراسات المعاصرة حول الشافعي جديرة بالاطلاع، مثل: جهود
الشافعية في تقرير توحيد العبادة، للدكتور عبدالله العنقري، (وهي رسالة دكتوراه)،
ثم لَخَّصها في رسالة قيِّمة بعنوان: اعتقاد الإمام الشافعي من نصوص كلامه وإيضاح
أصحابه، وهناك اهتمام مُوفَّق للدكتور مشاري الشثري بهذا الموضوع، في بعض مؤلفاته،
مثل: مُجرَّد مقالات الشافعي في الأصول، وعبقرية الإمام الشافعي.
[3] اعتمدت على التعريف الوارد في: جهود الشافعية في تقرير توحيد العبادة، عبدالله
العنقري، (ص13).
[4] انظر: آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص58).
[5] انظر: توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص99).
[6] للاستزادة، انظر: آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (17-29)، مناقب
الشافعي، البيهقي، (1/ 71-155)، (2/ 291-299)، سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/
6-16)، مناقب الشافعي، ابن الأثير، (70-87)، مناقب الشافعي، ابن كثير، (65-94،
247-260).
[7] انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 6-9)، كما ذكر الذهبي أنه برع في الشعر
والأنساب وأيام العرب والفراسة والطب.
[8] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 49).
[9] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 49).
[10] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 49).
[11] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 73).
[12] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).
[13] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 81).
[14] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 48).
[15] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 73-74).
[16] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 48).
[17] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 36).
[18] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 37).
[19] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 37).
[20] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 37).
[21] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 37).
[22] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 39).
[23] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 39).
[24] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 37).
[25] آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص155).
[26] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 49).
[27] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 53).
[28] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 91).
[29] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 36).
[30] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 36).
[31] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 35).
[32] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 35).
[33] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 35).
[34] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 83).
[35] أحكام القرآن، البيهقي، (2/ 190-191).
[36] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 81).
[37] عبقرية الإمام الشافعي، مشاري الشثري، (ص107).
[38] أحكام القرآن، البيهقي، (1/ 20).
[39] مناقب الشافعي، البيهقي، (1/ 281).
[40] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 15).
[41] مناقب الشافعي، البيهقي (2/ 291).
[42] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 38).
[43] توالي التأسيس، ابن حجر العسقلاني، (ص149).
[44] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 15).
[45] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 16).
[46] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 17).
[47] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 42).
[48] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 89).
[49] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 17).
[50] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 23).
[51] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 15-16).
[52] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 46).
[53] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).
[54] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 17).
[55] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).
[56] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 47).
[57] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 48).
[58] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 48).
[59] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 49-50).
[60] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 50).
[61] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29).
[62] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29).
[63] طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، (2/ 159).
[64] طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، (2/ 159).
[65] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 41).
[66] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 42).
[67] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 53).
[68] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 69).
[69] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 55).
[70] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 33).
[71] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 29).
[72] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 77-78).
[73] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 33).
[74] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 35).
[75] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 35).
[76] آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم، (ص231).
[77] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 31).
[78] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 31).
[79] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 33).
[80] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 34).
[81] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 34).
[82] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 35).
[83] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (10/ 68-69).