ملخص في حكم التحالف مع غير المسلمين

ملخص في حكم التحالف مع غير المسلمين

 

المتأمل في هذه الشريعة يجد أن من سماتها الواضحة أنها دين الجماعة والتعاون والعمل المشترك الذي في مصلحة الإنسان عموماً والمسلم خصوصاً. كم من الآيات التي تذكّر الإنسان بأصله الواحد وتاريخه الطويل، وكم من النصوص التي تأمر المسلمين وغيرهم بالتعاون على الخير والصلاح وتنهاهم عما يضرهم ويؤذيهم، وكم في الوحي من تحذير من الظلم وحث الإنسان على الإحسان إلى الإنسان وغير الإنسان.

وفي هذا السياق يأتي قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: ٢]، قال ابن كثير – رحمه الله – عند تفسيره هذه الآية: (يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم).

فأما التعاون بين المسلمين فيما فيه مصلحتهم، فهو واجب شرعي تحتّمه طبيعة الحياة، وتعاونهم فيما بينهم ضد أعدائهم واجب شرعي يوجبه الانتماء لهذا الدين، وتوجبه في زمننا هذا طبيعة الحياة المعاصرة التي تقوم على التكامل والاندماج بين القوى المجتمعية والإقليمية والعالمية، سياسية واقتصادية، حتى صارت القوة والضعف في هذا العصر بحسب ما تلتئم عليه الكيانات وتتناصر به الجماعات والدول.

لكن السؤال مكان البحث هو: حكم تحالف المسلمين مع غير المسلمين فيما فيه مصلحة المسلمين وإن كانت فيه مصلحة لغيرهم؟ ما الجائز من هذه التحالفات؟ وما الذي لا يجوز منها؟

وللجواب عن ذلك من غير إطالة مملة يمكن أن يقال: إن التحالفات يرتبط حكمها في الأصل بحال المسلمين قوةً وضعفاً، فإن استغنى المسلمون عنها بالكلية وصاروا من التمكن والقوة بحيث لا يحتاجون في إقامة الحق والدعوة إليه إلى من يعينهم، وأنهم من القوة والتمكن بحيث يوصلون كل خير وبر إلى أهله من البشر ولا يجدون في ذلك مضايقة من أحد؛ فإنه لا ينبغي لهم التحالف مع المخالفين، فالأمر مربوط بالمصلحة العامة لدولة المسلمين أو جماعتهم، دائر حكمه بين المصالح والمفاسد.

أما إن كانوا في حالة ضعف ومواجهة مع المخالفين للإسلام، فإنهم يترخصون في هذا الباب بما لم يكن لهم حال القوة.

وقد فرق العلماء في الحكم حال الضعف عنه في حال القوة، وفصلوا الحكم في التحالف والاستعانة بالمشرك في حال الحرب وما لم يكن في تلك الحال، وكل ذلك في كتب الفقهاء وكتب السياسة الشرعية[1]، والحديث هنا مقصور على التحالفات السياسية مع غير المسلمين.

والعلماء في مسألة التحالف السياسي مع غير المسلمين على رأيين، منهم من يحرمه ويمنع منه، ومنهم من يراه جائزاً مرحلياً للضرورة[2].

والأولون يستدلون بأدلة عدة، منها:

1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [المائدة: ٥١]، وأن في هذه الآية نهياً صريحاً عن تولي أهل الكتاب ومناصرتهم مع عداوتهم للمؤمنين وخصومتهم لهم، وأن يقين المؤمن ينبغي أن يجعل اعتقاده أن النصر من الله ولا ينتظره من أعداء دينه.

2- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الإمام الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده – يعني الاسلام - إلا شدة، ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام.

3- دليل واقعي يثبت أن هذه التحالفات عادة إنما ينتفع منها الأعداء من اليهود والنصارى في تلميع سمعتهم بالتحالف مع أهل الإيمان، في ذات الوقت الذي تسوء فيه سمعة الحركات السياسية الإسلامية من تحالفها مع الأحزاب الكفرية، وهو أمر مفسدته أكبر من مصلحته، وهذا كاف في المنع منه وتحريمه.

والمخالفون لهذا الرأي، وهم من يقولون بجواز التحالف السياسي مع المخالفين للإسلام، يستدلون بأدلة عدة، منها:

1- في حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)[3].

وهذا الحلف في حقيقته تحالف لإقامة العدل ونفي الظلم، والشاهد منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو أدعى إلى مثله في الإسلام)، ولم يتحفّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوع المشاركين فيه، وأنهم مشركون أو كفار؛ لأن هدفه الأعظم هو هدف سامٍ يدعو له الإسلام.

2- حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية مع قبيلة خزاعة[4]، حيث دخلت خزاعة حلفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحمل له المودة، وكانت عيبة نصح له وللمسلمين، قال ابن حجر – رحمه الله -[5]: (وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من الموالاة للكفار ولا موالاة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم وإنكاء بعضهم لبعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق).

3- حلف الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، ومع المطعم بن عدي[6]، حيث إنه تحالف معهما منفصلين لحمايته، والذي يعني حماية الدعوة لتصل إلى هدفها المشروع من دون أي تنازلات في دينه ومبادئه، والتحالف أقل شأناً من الدخول في حماية الكافر.

4- ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أول أعماله أنه قام بعقد معاهدة بين المسلمين واليهود تضمّنت تحالفات بينهما، وكتبا بذلك صحيفة كتبها التاريخ في سجلاته[7] تضمّنت معاهدة بالتحالف والتناصر العسكري، والمشاورات السياسية الدائمة، وأن مرد سائر الأمور الخلافية إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم يرد هؤلاء على دليل المخالفين:

1- فيقولون في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: ٥١]، أن هذه الآية ليست في سياق ما نحن فيه، وإنما هي نص صريح في عدم جواز موالاة الكافرين، والموالاة هي الرضى بهم والمحبة لهم وتقدير دينهم[8]، ومن ذلك خيانة المسلمين والتقرب بذلك للكفار والأعداء، وهو ما كان سبباً لنزول الآية أصلاً، كما في قصة عبد الله بن أبي وعبادة بن الصامت رضي الله عنه[9]، وهو أمر مجمع على تحريمه، لكن التحالف مع غير المسلمين من أجل مصلحة الإسلام أمر آخر، وإنما هو تبادل مصالح بلا تنازل عن شيء من الدين، أو التخلي عن البغض القلبي للمخالفين في الشريعة.

2- أما استدلالهم بحديث: (لا حلف في الإسلام) ونحوه مما في معناه، فإن ما يرد الاستدلال به الأحاديث الأخرى التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأفعال التي تبيح التحالف مع المشركين، كما في صحيح البخاري عن أنس، قال: (لقد حالف رسول الله بين قريش والأنصار في داري)[10].

قال الإمام النووي – رحمه الله -[11]: (وأما قوله: (لا حلف في الإسلام) فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه، والله أعلم).

وقال ابن حجر – رحمه الله -[12]: (ويمكن الجمع «بين الأحاديث» بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالماً، ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها، والتوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمور الدين، ونحو ذلك من المستحبات الشرعية).

3- أما الواقع الذي يستدلون به فإنه أمر نسبي لا يصلح دليلاً، فإن صح في حاله أن التحالف استغل للإساءة إلى سمعة الحركة الإسلامية، فإنه ليس كذلك في حالات أخرى، ثم إن خط الجماعة المسلمة إنما يتبين من خلال عامة سلوكها ومجمل حالتها وليس بسبب تصرف أو حالة معينة، وأيضاً فإن التحالف مع غير المسلمين لا يعد ولاء، وإنما هو التقاء على أهداف مشتركة فقط وليس اشتراكاً في سائر الأمور، ثم إن هذا الظن بالإساءة إلى سمعة الحركة الإسلامية بالتحالف تقابله فوائد عظيمة ومصالح كبرى تحفظ بها الحركة أو الدولة المسلمة كثيراً من مصالحها ومصالح المجتمع الإسلامي، مثل: التناصر في الحق ورفع الظلم ودفع الباطل ونحوها، وبذلك فإن هذا الدليل لا يصلح للاستدلال به على تحريم التحالفات.

وبذلك يتضح أن الرأي الثاني المبيح للتحالف وفق المصلحة هو الرأي الذي تجتمع عليه الأدلة وتتحقق به مصالح المسلمين.. والله أعلم.

قال ابن القيم – رحمه الله – في تعليقه على صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة في الحديبية: (إن المشركين وأهل الفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس)[13].

وهذا من ابن القيم – رحمه الله – تجويز للتعاون مع الأعداء إلى أبعد ما يمكن.

ولو أردنا أن ننتفع بما سبق في تطبيقه على أحوال الحكومات والجماعات الإسلامية اليوم في بلاد المسلمين أو بلاد غير المسلمين؛ فإنه يمكن وضعه في ضوء النقاط التالية:

أولاً: في التأكيد على القاعدة الشرعية التي تبيّن أن معنى الشريعة إنما هو لتحصيل المصلحة الأعظم، وقاعدة أخرى تذكر: أن المفسدة الأقل لتحصيل المصلحة الأعظم، وقاعدة أخرى تذكر: أن الميسور من الدين لا يسقط بالمعسور منه، وأخرى تؤكد أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، إضافة إلى النصوص الشرعية السابقة التي تبيح التحالف.

ثانياً: النصوص الواردة في كلام العلماء مما يمكن الاستشهاد به في هذه المسائل، ومن أمثلة ذلك:

أ - ما ذكره الإمام العز بن عبد السلام – رحمه الله – في تفضيله تقديم ودعم الأقل فسوقاً من الأمراء والولاة، قال – رحمه الله -: (فإن قيل أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم، دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءاً للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال، من جهة أنّا نعين الظالم على فساد الأموال دفعاً لمفسدة الأبضاع وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعاً لمفسدة الدماء وهي معصية، لكن قد تجوز الإعانة على معصية لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة لتحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربو على المفسدة كما تبذل الأموال في فداء الأسرى الأحرار من المسلمين من أيدي الكفرة الفجرة)[14].

ب - وقال أيضاً: (وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة.. فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان – في كل ذلك – تبعاً مقصوداً)[15].

ج - وقال ابن تيمية – رحمه الله -: (وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه من ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سُمّ على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها)[16].

د - ويقول – رحمه الله -: (فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان؛ فرض على الكفاية، ويقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطلب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم)[17].

هـ - وقال ابن حجر – رحمه الله -: (وفي صلح الحديبية جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من مولاة الكفار ولا موالاة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم وإنكاء بعضهم لبعض)[18].

فابن حجر – رحمه الله - يرى جواز استنصاح زعماء الكفار، فكيف بالتحالف الذي هو مجرد تبادل مصالح وهو أقل درجة من استنصاحهم؟

و - وكلام ابن القيم السابق الذي فيه: (كل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه).

ز - قال الإمام الشافعي ملخصاً المسألة: (إن رأى الإمام أن الكافر حسن الرأي والأمانة بين المسلمين وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به، جاز، وإلا فلا)[19]... وغير ذلك من النصوص المتكاثرة عن العلماء في هذا الباب.

ثالثاً: إن أحوال البلاد مختلفة اختلافاً كبيراً، حيث تختلف حكوماتها من حيث قربها من الإسلام وبعدها عنه، وربما عداوتها له أحياناً، كما أن الجماعة الإسلامية أو الحركة هي مختلفة أيضاً من حيث استعدادها للمشاركة السياسية وفهمها لفقه السياسة، وكل ذلك مؤثر تأثيراً بالغاً في الحكم الذي يمكن أن تعطاه هذه الحركة أو تلك.

رابعاً: إن شرعية التحالفات مع المخالفين ليست أمراً مقتصراً على وجود الحكومة المسلمة، بل يشمل حتى الجماعة المسلمة والحركة العاملة للإسلام، سواء كانت في مجتمعات مسلمة مقصرة أو في بلاد كافرة كما في المجتمعات الأوروبية اليوم، وكل حالة من هذه يجتهد لها العلماء بما يناسبها تغليباً لمصلحة أهل ذلك البلد ودفعاً لأعظم المفسدتين عنهم.

خامساً: (المقابلة في هذه المسألة ليست بين الإسلام وحكم آخر غيره، ولو كانت على هذا النحو لحسمت القضية على الفور ولما اخترنا غير الإسلام، لكن المقابلة بين النظام القائم بجبروته وطغيانه وبين البديل المقترح بحرياته وضماناته، هكذا تكون المقابلة؛ لأن الفرض أننا عاجزون عن إقامة الإسلام كاملاً، وإلا فإن من كان قادراً على الإسلام فهو لا يحتاج للدخول في كل هذه الموازنات.. وما قد يحصل في سلوك هذا المسلك من نوع إعانة على بعض المعاصي، فإنما هو لدفع منكرات أكبر وأسخط لله من هذه المعاصي. وقد تجوز الإعانة على المعصية لا من جهة كونها معصية، بل لما تتضمنه من دفع معصية أكبر، وقد أشار إلى هذا المعنى أئمة أهل العلم)[20] كما سبق.

سادساً: لا تناقض بين هذه المصالحات والمعاهدات وبين مفهوم الولاء لأهل الإيمان والبراء من الكافرين ومجاهدتهم وعدم إلقاء المودة لهم، حيث إن هذا معاملة لا صلة لها بالقلب والحب من جهة، ثم إنها حالة مؤقتة ليست دائمة وإنما اقتضتها ظروف وأحوال المسلمين.

سابعاً: إن آيات سورة براءة تمثل الوضع النهائي في شأن المعاهدات والتحالفات مع المشركين، وإن التغيرات التي حصلت في هذا الأمر خلال سنوات السيرة النبوية كانت مرتبطة بحال المسلمين قوة وضعفاً.

وفي ضوء ما سبق من النقاط وعلى منواله يمكن أن يكون حكم كل حالة تعترض الحكومة المسلمة أو الحركة المسلمة في سيرها نحو نصرة الدين ورفع رايته، وفيما يصلح لحالها من القوة والضعف وحال التحالف معهم وحال الحكومات السياسية المختلفة.

لكنه من خلال: استقراء النصوص كذلك، فإنه يمكن الوصول إلى الحكم على بعض أنواع التحالف المعاصرة بأنها تدخل في إطار الحرمة والمنع، فمن ذلك:

1) التحالف الذي يمكّن للعدو البطش بالحركة المسلمة بما يغلب الظن، بحيث تعرف قوة هذا العدو وحقده على الإسلام، وأنه إنما يريد أن يتحالف مع العاملين للإسلام ليضرب بهم عدواً له، ثم يبطش بالمسلمين بعد ذلك، فلقد حرم الإسلام ما هو أدنى من ذلك على المستوى الجماعي مع غلبة الظن بحصول ذلك.

2) التحالفات السياسية الفكرية التي تدفع بالعاملين إلى قبول فكر غير إسلامي أو إقرار عقيدة باطلة من عقائد الكفر وإقرارها أو شيء منها بحجة المصلحة.

3) التحالف الذي يؤدي إلى تمزيق صف المسلمين وإثارة الخلاف بينهم، لتتحول المعركة داخل الصف المسلم والله تعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: ١٠٥][21].

وأخيراً: فلا شك في أن موضوع التحالفات من الموضوعات الخطيرة التي ينبغي أن تجتمع في دراستها والحكم في نوازلها هيئة شرعية سياسية ذات خبرة في الحكومة أو الحركة الإسلامية، وأن يدرس هذا في ضوء السياسية الشرعية والمصلحة العليا للإسلام وأهله.

 

:: مجلة البيان العدد  321 جمادى الأولى 1435هـ، مارس  2014م.


[1] انظر للتوسع في التحالفات العسكرية مع غير المسلمين: رسالة دكتوراه بعنوان: الجهاد والقتال في الإسلام لمحمد خير هيكل، ص 1636؛ وكتاب التحالف السياسي في الإسلام لمنير الغضبان ص 165.

[2] عادة ما يبحث الفقهاء في هذه المسألة في كتاب الجهاد أبواب الاستعانة بالمشرك، وراجع للتوسع في هذه الأقوال وأدلتها ومن قال بها كتاب المشاركة في الحياة السياسية لمشير المصري، والتعددية السياسية لصلاح الصاوي.

[3] أخرجه الإمام أحمد (1676)، وهو في سيرة ابن هشام (1/134)، وهذا الحلف شهده رسول الله قبل الإسلام مع مجموعة من المشركين، تحالفوا فيه على مقاومة الظلم ونصرة المظلوم.

[4] سيرة ابن هشام 2/317.

[5] فتح الباري 5/338.

[6] انظر: البداية والنهاية 3/84، وسيرة ابن هشام 2/195.

[7] البداية والنهاية 3/225.

[8] راجع كلام ابن جريري رحمه الله عند هذه الآية (6/ 277)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/195).

[9] راجع تفسير الإمام الطبري (6/277).

[10] فتح الباري 10/501.

[11] شرح النووي على مسلم 16/81.

[12] فتح الباري 10/502.

[13] زاد المعاد لابن القيم (3/269).

[14] قواعد الأحكام 1/87.

[15] المرجع السابق (1/129).

[16] مجمع الفتاوى (19/218).

[17] مجمع الفتاوى (30/256).

[18] فتح الباري 5/338.

[19] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني، 4/221.

[20] مقتبس من كلام د. الصاوي في كتابه: التعددية السياسية، ص 150.

[21] باختصار وتصرف من كتاب: التحالف السياسي في الإسلام لمنير محمد الغضبان، ص 173/174.

 

أعلى