الحرب على غزة في ميزان القانون الدولي

الحرب على غزة في ميزان القانون الدولي


في البداية تعد الأراضي الفلسطينية التي وقعت تحت سيطرة القوات الإسرائيلية في أعقاب حرب الخامس من حزيران عام 1967؛ أراضي محتلة تندرج ضمن إطار ومفهوم لائحة لاهاي لعام 1907، وأيضاً اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.. ليس هذا فحسب، بل أكدت انطباق وصف الأراضي المحتلة على هذه الأراضي، عشراتُ القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. كما أكدت هذا التوصيف فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الصادرة بتاريخ 9 يوليو 2004، حيث أكدت المحكمة وضع الأراضي الفلسطينية كأراض محتلة، وأن الكيان الصهيوني قوة احتلال. وبتفصيل أكثر لوضع قطاع غزة القانوني، نجد أن لوائح لاهاي عرّفت حالة الاحتلال في المادة 42 من اللائحة الأولى بـ (تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو، ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها).

وهذا يعني انطباق القانون الدولي الإنساني عند توافر حالة السيطرة الفعلية لدولة الاحتلال على الإقليم المحتل، إذ العبرة بالسيطرة الفعلية وغياب السيادة الكاملة عن الإقليم المحتل لتوفر حالة الاحتلال، على النحو الموجود في قطاع غزة.

جريمة كاملة

لقد أمعنت قوات الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب عديد من الجرائم، مثل: استهداف المدنيين داخل منازلهم السكنية أو في محيطها أو بالقرب منها أو أثناء الخروج منها، بل استهدفت المدنيين في مراكز إيوائهم نتيجة تهجيرهم من منازلهم خوفاً على حياتهم، علاوة على استخدامهم كدروع بشرية أثناء الهجمات الذي نفذتها تلك القوات وأودت بحياة ما يقارب الألفين، جلهم من الأطفال والنساء، هذا بخلاف العدد الكبير من المصابين من جراء ذلك العدوان الذي قارب العشرة آلاف.

حيث تشكل هذه الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون في قطاع غزة، أساساً قانونياً للحق بادّعاء وجود جرائم حرب ضد الإنسانية تستحق وترقى لمحاكمة ومعاقبة القيادة الإسرائيلية العسكرية والسياسية بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.

وحين أعلنت دولة الكيان الصهيوني حربها الرابعة على غزة، سقط الآلاف من المدنيين، وارتكبت المجازر بحق العزل، والعالم ليس بيده أي آلية يمكن أن يخضع بها القوات الصهيونية لمنطق التهدئة ولا لعدالة الحساب والعقاب، خاصة في مثل هذه النزاعات المسلحة، إلا أن يوجه نداءات عابرة وشجباً لا يتعدى توقيعات الورق، وتستمر آلة الموت الصهيونية في حصد أرواح الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، تشاركها آلة الحصار غير الإنساني الخانق الذي تقوم به دول عربية شقيقة من أجل مصالح سياسية ضيقة، في مقدمتها مصر.

وفي الوقت الذي تصدر فيه المحكمة الدولية مذكرات توقيف بحق قادة وزعماء عرب ومسلمين بتهم ارتكاب مجازر ضد الإنسانية، على غرار الرئيس السوداني عمر البشير؛ ينعم قادة الكيان الصهيوني بالحرية والحصانة، وينفذون مزيداً من الأعمال الإجرامية بحق الشعب الفلسطيني، منتهكين كل الأعراف الدولية الإنسانية وكل مبادئ حقوق الإنسان التي كرستها الشعوب المتحضّرة بدعواها. ولا لصمت الدول الغربية تجاه ما يحدث في غزة بالضبط من قصف مباشر للمدنيين والأماكن الآهلة بالسكان، واستعمال الأسلحة والقذائف المحرمة دولياً، واتخاذ الدروع البشرية من الأطفال العزل الذين يقضي القانون الدولي بحمايتهم أثناء مثل هذه النزاعات المسلحة، بحسب ما نصت عليه مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومختلف الاتفاقيات الدولية.

انقلاب المفاهيم

كل ما يمكن أن يطلق على حرب غزة من ناحية التوصيف القانوني هو أنها مجرد نزاع مسلح بين طرفين غير متكافئين في القوة، وهو الوصف الذي أطلقه المدعي العام لمحكمة العدل الدولية بلاهاي أثناء تلقيه أكثر من 360 بلاغاً وشكوى مقدمة من طرف فلسطينيين ومنظمات حكومية ودولية منذ سنوات حتى يومنا هذا، متناسياً أن أصل النزاع المسلح هذا يعود بالدرجة الأولى إلى كون أن الأراضي الفلسطينية التي كانت تخضع للانتداب البريطاني قبل 1948 هي أراض محتلة من طرف دولة الكيان الصهيوني، والمفترض أن يتعامل دولياً مع مثل هذه الحالات على أنها نزاعات تحررية بين كيان عسكري محتل ودولة خاضعة لسلطة عسكرية، لا نزاعات ذات طابع دولي بين كيانين، خاصة في ظل عدم التكافؤ البيّن لقوى النزاع على الأرض مع مختلف المنظمات الفلسطينية المقاومة.

أضف إلى ذلك أن ما قام به الاحتلال الصهيوني على الأرض خرق كل قواعد القانون الدولي الإنساني فيما يخص حتى القواعد التي تحكم نزاعات الدول المسلحة، أهمها: الإخلال بقواعد المواجهة والقنص الذي يفترض أن يكون موجهاً لحامل سلاح لا لأشخاص عزل، وتحديد أماكن إلقاء القنابل التي تحملها الطائرات، ونوعية السلاح المستخدم الذي يحتوي على كميات كبيرة جداً من اليورانيوم المخصب والفسفور الأبيض شديد الفتك، واستعمال رصاص الدُّمدُم المحرم دولياً في أكثر من 800 حالة رصدتها منظمات حقوقية، وهو ما أقر به عدد من قادة الجيش الصهيوني عبر وسائل الإعلام، أو الإفادة عبر منظمة كسر الصمت الحقوقية الدولية لتوضح للمدعي العام للمحكمة الدولية تجاوزات جيش الاحتلال في حق الفلسطينيين من خلال شكوى تقدمت بها ورُفضت بسبب ما أسماه المدعي العام «عدم وضوح الدلائل وارتكاب الفصائل المقاومة جرائم أخرى».

التكييف القانوني للكفاح والمقاومة في القانون الدولي

برر المدعي العام للمحكمة الدولية رفضه كل الشكاوى المقدمة أمامه، بكون أن معيار القوة في الحرب على غزة غير متكافئ، وأن المقاومة الفلسطينية تتحمّل المسؤولية مع الجيش الصهيوني في ارتكاب جرائم حرب، وهو الدافع الذي وقفت خلفه كل الدول الغربية في إدانتها لحركة حماس وكتائب القسام المقاومة؛ لأن الشرط الأساس في إعادة تكييف الدافع المسلح هو تأكيد شرط الاحتلال وقيام أركانه في القانون الدولي، وهو ما لا تريد الاعتراف به القوى الكبرى العالمية؛ من أجل إعطاء الشرعية السياسية لقيام النظام السياسي والعسكري الصهيوني ومحاولة تلميعه وإلصاق تهمة الإرهاب بالمنظمات الفلسطينية التي تنتهج المقاومة المسلحة، بينما هي في التوصيف القانوني الحقيقي منظمات تحررية مهما بلغت من العدة والعتاد، أو مهما كان مستوى تسليحها وتنظيمها؛ لأن الهدف منها بحسب ما نصت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن الحركات التحررية هي من لا تهدف إلى التوسع على حساب الحدود الجغرافية لدولة أخرى أو لإقليم آخر ليست لديها عليه سلطة سياسية، وعدم خوضها نزاعاً مسلحاً من أجل مكاسب مادية أو سياسية أو تغيير نظام سياسي قائم، وكل هذه الشروط تجعل من المقاومة المسلحة، وعلى رأسها حركة حماس، حركات تحررية في نظر القانون الدولي الإنساني تطالب بحق مشروع ولو كان ضمن أهدافها العمل المسلح.

الإجماع السياسي المتحالف لتشويه المقاومة

وأمام ما يمارسه الاحتلال الصهيوني من محاولات إبادة للشعب الفلسطيني في غزة وإدارة العالم ظهره لها وامتناع المحاكم الدولية عن متابعة قادة الاحتلال لارتكابهم جرائم بحق الإنسانية؛ فإن المقاومة المسلحة تبقى هي السبيل لإرغام جيش الاحتلال على التراجع وتقرير حقوق الشعب الفلسطيني خاصة أمام فشل خيار المفاوضات السلمية التي دأبت على تقديم التنازلات المجانية لسلطات الكيان الصهيوني، وفقدان الثقة من طرف الجماهير الفلسطينية بها، والتفافهم حول خيار المقاومة، بالذات بعد التطور الذي قامت به حماس في منظوماتها العسكرية، خاصة تطوير الصواريخ التي صارت تهدد كل المدن المحتلة مهما كانت مسافتها، ودقتها في إصابة الهدف، مع تحكم دقيق شهدت به سماء تل أبيب مساء 12 - 7 - 2014 من قصف استطاعت من خلاله الصواريخ تغليب الكفة وإرباك المنظومة الدفاعية الإسرائيلية رغم أن حماس احترمت بشكل جلي وواضح مبادئ النزاعات المسلحة، حيث قامت بالإعلام لذلك قبل ساعة من حدوثه حتى يتسنى للمدنيين النأي بأنفسهم، وهو ما تنص عليه مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الفصل السابع منه، ما جعل ذلك العالم يسارع إلى إدانة ما قامت به من قصف لمدنيين ومدن محايدة رداً على الجرائم الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني، خوفاً مما أسماه المحللون توازن الرعب وتكافؤ القوة الذي يهدد الكيان الصهيوني ويكشف جرائمه.

لذلك عمدت الاستخبارات الصهيونية من خلال تقاريرها إلى تبني عمليات واسعة لتشويه صورة المقاومة، خاصة حركة حماس، وعقد صفقات مع الأنظمة التي لها مصلحة قائمة مع الكيان الصهيوني، وعلى رأسها السلطات الانقلابية بمصر، التي تقوم بغلق المعابر ومنع فرق الإغاثة والطواقم الطبية من دخول غزة، في مشاركة مفضوحة لإسرائيل في جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، ومحاولتها فك الدعم الذي تتلقاه حركة حماس، وربطها بالفوضى التي سادت العالم العربي عقب أحداث الربيع العربي، وتصوير قياداتها على أنهم متعاونون مع دولة معينة كانت لها - بحسب ادّعائهم - علاقة بمختلف الثورات، وهذه الادّعاءات إنما تخدم الكيان الصهيوني فيما يسمى الحرب الدعائية والنفسية التي يقودها جيش الكيان تجاه المقاومة لإضعاف الالتفاف الشعبي الكبير الذي حظيت به في كل حروبها السابقة في الوطن والعالم العربي حتى الغربي.

كما تقوم وسائل إعلام عربية بتصوير المقاومة على أنها إرهاب وتستهدف الصهاينة الآمنين في منازلهم، وأن أسلوب المقاومة المسلحة وإطلاق الصواريخ هو من يجر الويلات على الشعب الفلسطيني، متخذة حجة التوجه الأيديولوجي الإسلامي لغالبية الفصائل المقاومة من أجل تشويه ما تقوم به، ومحاولة ربطها بالواقع السياسي الذي يخدم العدوان الصهيوني من أجل إطفاء آخر جذوة في نفس الشعوب تجاه المقاومة، وحق التحرر للشعب الفلسطيني، فقتل شعب أعزل مسألة فيها نظر فيما تصوره، وقتل صهيوني مغتصب مسلح جريمة لا تغتفر.

وأمام التكالب الدولي ومحاولة النظام العالمي الانقلاب على شرعية القانون الدولي ونظم حقوق الإنسان في العالم، فإن الواجب الذي يقع على عاتق الطبقة المثقفة والقانونية أكبر، فالشعب الفلسطيني ينتظر تحركاً من الطبقة المثقفة والقانونية في الوطن العربي والعالم عبر كل الوسائل الإعلامية والهيئات القانونية المتاحة؛ لتغليب كفة مقاومة الشعب الفلسطيني وفضح جرائم الآلة العسكرية الصهيونية والدفع باتجاه التوقيع على ميثاق روما؛ للتمكن من إعداد استراتيجية للعمل على محاكمة الإجرام الصهيوني.

 :: ملف خاص بعنوان "غزة تقاوم

:: مجلة البيان العدد  327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر  2014م.

أعلى